كنت قد تركته خلال العام 2003 في القاهرة، يواصل نضاله النبيل من هناك، ورحلتي على أية حال لم تكن على مرمى حجر. بعد أسابيع قليلة، حين رأيته ظهر ذلك اليوم، في مدينة وينبيك الكندية، خُيل إليّ كما لو أن قرنا مضى على آخر مرة رأيته فيها. إذ بدا لي فجأة شيخا طاعناً في السن، ولكن بذهنية لم يزدها مرور الزمن إلا حضوراً وحكمة. اتضح لي ذلك خلال مأدبة الغذاء، التي أقيمت على شرفه، في شقة الدكتور ياسر الطيب. آنذاك كان من بين الحضور شخص، كثيف الروح، خفيف الحركة، كثير الحديث بغير تفكير، ومحب للطعام لدرجة بدا معها وكأنه يتناول آخر وجباته في هذا العالم. أذكر أنه سأل التجاني الطيب، بينما يزدرد لقمة، و يده تمتد في ذات اللحظة صوب إناء بعيد، قائلاً "ألا تذكرني .. يا أستاذ تجاني .. أنا فلان .. كنت أسكن مع فلان .. في أريتريا". و حلّ صمت أثناء مضغه المسموع. التجاني الطيب، الذي جاء وقتها ليفاكر الجالية السودانية حول الحرب الأهلية واحتمالات السلام، توقف عن الأكل، وتأمّل السائل، قبل أن يجيبه قائلاً "إنني لا أعرف الناس بخلقهم وانما بأفكارهم". هكذا، وعلى الدوام يكونان معاً، كما لو أن وجود أحدهما شرط لازم لوجود الآخر: التجاني الطيب والسياسة. تم رفع الصحاف عن المائدة، وتواصل الحديث عن المشهد السياسي وقتها، لكن التجاني الطيب بدا مستمعا أغلب الأحيان بأذن كاهن في طقس اعترافي. تلك سمة، شديدة الوضوح، لرجل أعلن، منذ البداية، أنه جاء، تقوده و على نحو جماعي إعادة القراءة بكل ما تنطوي عليه من عملية نقد و نقد ذاتي، ليشهد أكثر كيف يفكر السودانيون خارج وطنهم كأبناء مصير واحد. كان الخريف حل منذ وقت قصير، وأشجار الآش المتعاقبة في انتظامها على جانبي الشوارع قد بدأت تسقط أوراقها انتظارا لبعث جديد، عندما أقلنا أبراهام مدوت باك دينق رئيس الجالية السودانية، ضمن البرنامج الموضوع لزيارة التجاني الطيب، وسار عبر شوارع وينبيك، سارداً شيئاً عن تاريخ المدينة ومعالمها الأساسية، إلى أن انتهى بنا المطاف إلى المكان المخصص لوقوف السيارات أمام برلمان المحافظة. كانت تدفعني قبلها رغبة، لا تخلو من سذاجة ريفية ما، إلى أن يرى التجاني الطيب ذلك القدر من الرفاه الاقتصادي، وأعني به الحي اليهودي، الذي سبق وأن قادني إليه أحد اللاجئين القدامى إلى المدينة، وبما أنني حديث عهد آنذاك بجغرافيا المكان، فقد ظل أبراهام والحيرة تكتنفه يجوب الناحية التي أشرت دون جدوى. ولا أزال أتساءل: هل لذلك دلالة عملية بدور الجاليات في صناعة القرار السياسي في أمريكا الشمالية، تلك القارة التي ظلت تلعب دورا محوريا متزايداً منذ نهاية النصف الأول من القرن العشرين في مختلف صراعات العالم وقضاياه قاطبة. بدا من الصعوبة بمكان، متابعة النظر، أسفل أشعة شمس ما بعد منتصف الظهيرة، إلى أعلى قبة البرلمان، حيث اشار أبراهام دينق، قائلا "تمثال الولد الذهبي". وهو هدية فرنسا الى شعب المحافظة. هدية تم شحنها واعادتها الى بلد المنشأ عدة مرات. اذ لم يكن التمثال في مأمن خلال مجريات الحرب العالمية الثانية. وتلك قصة أخرى. لكن الطريف، ها هنا، أن تمثال "القولدن بوي"، الذى يتمتع، في عليائه، بحماية عالية ضد الأحوال الجوية السيئة واللصوص، كان ينتصب في الأصل داخل قبة البرلمان، قبالة المنصة الرئيسية، لكن ممثل الملكة إليزابيث الثانية، قبيل زيارتها الثانية الى المدينة منذ سنوات، رأى حسب الرواية الشائعة بين "السودانيين" أنه من غير الصواب أو الحكمة أن تواجه جلالة الملكة تمثالاً عارياُ تماماُ. كان من بين الأشياء الأخرى، التي حرصنا أن يراها التجاني الطيب "مقرن النيلين" ،و بطبيعة الحال، لم يكونا الأبيض و الأزرق، وما كان بوسع البصر معانقة أشجار " شمبات " أو مرسى "أب روف". و مع ذلك، يتشابه المشهدان هنا و هناك. تشابه لتقاربه لا يبعث في النفس سوى شجوي وردي و غناء الفيتوري الثائر الحزين: "لو لحظة من وسن .. تغسل عني حزني .. تحملني .. ترجعني إلى عيون الوطن "، إلى أن يسقيانا حد الثمالة: "أجمل من فراشة مجنحة .. على ضفاف المقرن الجميل ..... أجمل من رائحة النضال لم أشم رائحة". وأنت وسط كل هذا الأسى، تقف قبالة رأس الجزيرة، "أسيني بويني " يزحف مثل شيخ منهك، و "الريد ريفر" كالنيل الأزرق يندفع بمياهه المعتكرة إلى يسارك، و ليس أمامك من شيء آخر سوى إطلالة التجاني الطيب، تقفز إلى ذهنك فجأة، صورة هندي أحمر عجوز، أطل على ذات المشهد قبل ألف عام، ومن المؤكد أن خياله لم تطرأ عليه وقتها فكرة أن الحياة قد آلت إلى ماهي عليه الآن على جوانب النيلين. وهو الغريق في تأملاته تلك، يحكي التجاني الطيب قصة، لا أذكرها، وقد مضى على زيارته تلك الكثير إلا على نحو ضبابي، قال إنه كان وقتها مجرد طفل صغير، يتخذ طريقه بمحاذاة قناة مائية إلى خارج القرية، بينما " سعف " النخيل "يهفهف" أعلى رأسه. هو الخروج إذن. رحلة إنسان بدأت. و تواصلت مفعمة بزخم البدايات حتى النهاية، فما قد تبقى من ذلك الطفل هو قدرته على الحلم وإن اتخذ مسارات مختلفة، و الصراع ضد غول آخر يغذيه عزم لا يلين أو ينفد ما تعاقب أجيال الحلم بغد أفضل، و كلمات الشاعر الجميل صلاح محمد إبراهيم تلوح مثل علامات بالغة الدلالة و منيرة مثل صوى الساري وسط ظلام الليل الحالك "رباه .. إن ما هو أقسى من الألم .. ومن التعبير عن الألم ... ألا وهو التصميم على الوصول". ظهر ذلك اليوم ، الذي أعقب انعقاد الندوة في أحد مدرجات جامعة وينبيك، اصطحبنا التجاني الطيب إلى المطار ،كنا مجموعة قليلة من أفراد الجالية ، و كان التجاني الطيب على موعد مع ندوة أخرى في تورونتو أو لندن أونتاريو ، و قبل أن يحمل سنوات عمره المقتربة وقتها حثيثاً من الثمانين، و يتوارى عبر بوابة المغادرة مثل شخص ألقى حجراً في بركة راكدة ومضى، قام أحد أفراد الجالية بشراء كتاب السيرة الذاتية للزعيم الفذ نيلسون مانديلا ، كتب عليه إهداء لرجل أنفق عمره أو يكاد من أجل أن تشاد في السودان دولة لا يكون فيها مكان لجائع، ثم مرره علينا في لفتة كريمة، حيث وضعنا أسماءنا المتواضعة عليه، فحمله التجاني بتواضع، و سرى بين الزحام المغادرين صوب الردهات الداخلية للمطار، واختفى. من المؤكد على اعتراف بوضعه المتميز بين السياسيين السودانيين، إلا أنه لم يتوقع، قبل عقد أو يزيد سبق زيارته تلك، أن تطأ قدماه إحدى عواصم سهول البراري الكندية، والتي كما قال لنا أثناء تجوالنا بعربة أبراهام إنها لم تكن في وعيه، كما في وعي عشرات الآلاف من السودانيين، سوى عبارات عامة وردت داخل عدد من كتب الجغرافيا المقررة للتلاميذ. بعيد ذلك، تناهى إلى علمنا أن التجاني الطيب يتواجد داخل حدود الأراضي المحررة في جنوب البلاد وليس الجنوب. [email protected]