لجان مقاومة النهود : مليشيا الدعم السريع استباحت المدينة وارتكبت جرائم قتل بدم بارد بحق مواطنين    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    جامعة ابن سينا تصدم الطلاب.. جامعات السوق الأسود والسمسرة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    بحضور عقار.. رئيس مجلس السيادة يعتمد نتيجة امتحانات الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة للعام 2023م    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    احتجز معتقلين في حاويات.. تقرير أممي يدين "انتهاكات مروعة" للجيش السوداني    هجوم المليشيا علي النهود هدفه نهب وسرقة خيرات هذه المنطقة الغنية    عبد العاطي يؤكد على دعم مصر الكامل لأمن واستقرار ووحدة السودان وسلامة أراضيه    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة ملك بريطانيا إلى السودان في عام 1912م

Pomp, Circumstance, and the Wild Arabs: The 1912 Roya Visit to Sudan
Anna Clarkson انا كلاركسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في مقال للبريطانية انا كلاركسون عن الأبهة الإمبراطورية التي صاحبت زيارة قام بها جورج الخامس ملك بريطانيا في عام 1912م لبورتسودان. ونشر المقال في عام 2006م بالعدد الثالث والأربعين من مجلة تاريخ الاستعمار والكومنويلثThe journal of Imperial and Commonwealth History، والتي تصدر ببريطانيا.
قامت الكاتبة بنشر عدد من الأوراق عن جوانب متعددة من تاريخ السودان في سنوات العهد الثنائي، وأنجزت رسالة من جامعة درم البريطانية كان عنوانها:
Courts, Councils and Citizenship: Political culture in the Gezira Scheme in Condominium Sudan
المترجم
*************** *********** *************
رست في تمام الساعة السابعة والنصف صباح يوم الأربعاء الموافق 17/1/1912م السفينة "المدينة" في ميناء بورتسودان وهي تقل الملك جورج الخامس والملكة ماري، وهما في طريق العودة لبريطانيا بعد أن شهدا حفل التتويج الذي أقيم لهما بالهند. ودام توقف الزوجان الملكيان بالسودان نحو 12 ساعة. وتم تحضير الزيارة بعناية فائقة، وباستغلال شديد من جانب حكومة العهد الثنائي من أجل تصوير الملكية باعتبارها بؤرة وحدة لأراض شاسعة ممتدة، ولسكان مختلفي الأعراق والسحنات. وسعت الحكومة لوضع تلك الزيارة في أوسع إطار إمبريالي ممكن. فقام حاكم عام السودان ريجيلاند وينجت بتنظيم عرض ضخم ليؤثر به على الحضور من الأجانب والأهالي، ولينتزع إعجابهم. وجمع وينجت، وبحنكة وتميز، بين الأبهة البريطانية والروعة العربية مؤملا أن يؤكد للحضور قوة الإمبراطورية وعظمتها، وخضوع السودانيين التام لها. وكان من بين الحضور قسم من المجتمع السوداني كانت تعدهم الحكومة من خيار "الصفوة الحاكمة"، وكانوا في غاية الحماس والتكالب لتبني تلك الهوية التي منحتها لهم الحكومة كي يثبتوا إخلاصهم لها، وليثبتوا مكانتهم ووضعهم في منظومة تلك التراتيبية (hierarchy) القائمة. ورغم أن الزيارة نفسها كانت محلية الطابع، وتمت بوجود سوداني محدود جدا، ولم تغط غالب مناطق السودان، إلا أنها سرعان ما استخدمت باعتبارها إطارا لبث ونشر هوية بريطانية – استعمارية في كل أرجاء البلاد.
وظلت حكومة العهد الثنائي تقيم، لعدد من السنوات، احتفالا سنويا كل يوم 17 يناير بما سمته "يوم الملك"، وكانت تسعى من وراء ذلك تأكيد صلتها الخاصة وعلاقتها المميزة بمركز الإمبراطورية البريطانية. وبينما كانت بقية المستعمرات البريطانية تحتفل سنويا ب "يوم الإمبراطورية"، فقد أكدت حكومة السودان (بوضعها الثنائي الفريد) على تراثها الخاص وظلت تقيم احتفالها الخاص ب "يوم الملك" تخليدا لتلك الزيارة التاريخية التي زار فيها الملك شخصيا أراضيها، ولو لفترة قصيرة لم تزد عن نصف يوم. غير أنه كانت هنالك بعض المنغصات والقيود على تلك الهوية البريطانية – الاستعمارية، مثل وجود هويات منافسة أخرى، ومطالبة المصريين بالحق في السيطرة على السودان. وغدا الاحتفال بيوم الملك (أو يوم الإمبراطورية) وسيلة من وسائل تقريب الشقة بين الحكام والمحكومين، ومكونا حاسما في البنية التحتية الثقافية، ولكنه لم يكن أبدا نقطة التركيز الأساس في خطاب الحكومة. وفي ظل ذلك المناخ بقيت الهوية البريطانية – الاستعمارية تعد واحدة من الهويات العديدة بالبلاد، غير أنها كانت تمثل لأفراد الصفوة السودانية أداة مهمة لتعزيز وضعهم الخاص.
وكانت تلك الرحلة التي قام بها ملك بريطانيا في عامي 1911 - 1912م هي أول رحلة يقوم بها ملك بريطاني وهو على العرش إلى المناطق البعيدة في إمبراطوريته. وكانت مهمة زيارة المستعمرات قبل تلك الرحلة تسند عادة لأفراد من العائلة المالكة (خاصة ابناء الملك أو الملكة). وأصر الملك جورج الخامس، رغم ضيق وعدم رِضى وزرائه، أن يقوم بنفسه بتلك الرحلة الطويلة، وأن يتم تتويجه بالهند. وعند إكمال رحلته عرج في طريق عودته للندن على شرق السودان في زيارة قصيرة. وهذا ما عدته حكومة السودان شرفا استثنائيا لا يضاهى.
وعند الثامنة تماما من صبيحة يوم 17 يناير 1912م هبط من السفينة الملك وحاشيته إلى سرداق أقيم على رصيف الميناء خصيصا لتك الزيارة. وجلس المدعوون البريطانيون في جانب منفصل على مدرجات مزينة، بينما جلبت قطارات خاصة مئات من السودانيين من المدن المجاورة. وجلس الجميع في انتظار خطبتي وينجت باشا حاكم عام السودان والملك جورج الخامس. ثم نودي على بعض كبار الشخصيات السودانية، والذين تم انتقائهم بعناية فائقة، للسلام على المليك وتسلم بعض الميداليات والهدايا التذكارية منه.
ثم آب الملك وحاشيته للسفينة لتناول طعام الإفطار، واستقلوا بعد ذلك قطارا خاصا حملهم من بورتسودان إلى سنكات في رحلة استغرقت أربع ساعات. وفي سنكات شهد الملك ومن معه عرضا عسكريا شاركت فيه كتائب بريطانية ومصرية وسودانية، وعرضا شعبيا للأهالي أطلق عليه فيما بعد "Wild Arab Show" . وعلى النقيض من العرض العسكري البالغ التنظيم، والذي قام عليه كبار ضباط الجيش البريطاني، فقد كان عرض الأهالي عرضا فجا (raw) لثقافة الفن العسكري المحلي. وكان من بين فقرات ذلك الحفل معركة وهمية (mock) بين رجال الدينكا والهدندوة، وعرض لفنون الفروسية عند العرب الرحل. وأختتم الحفل بعد ذلك بغرس الملك لشجرة في مكان الحفل، ثم غادر الوفد الملكي سنكات عائدا إلى بورتسودان، والتي غادرها عند السابعة مساءً مستأنفا رحلته إلى لندن.
لقد استغرقت زيارة الملك للسودان أقل من نصف يوم، وكان الوفد الملكي فيه تحت أنظار العامة لساعتين وخمسين دقيقة فقط. غير أن محور الموضوعات (themes) التي كانت قد نتجت عن ذلك الحدث وطرقت أثناء الرحلة أكدت على أهمية تلك الزيارة بالنسبة للحكومة السودانية ولعدد من الشخصيات السودانية. فقد استغلت الحكومة وهؤلاء الأفراد تلك الزيارة لخدمة مصالحهم الذاتية، وعبرت تلك العروض الباهرة عن تلك المصالح برمزية لا تخفى على أحد. ورغم أن زيارة الملك الخاطفة للسودان مرت دون كبير انتباه من المؤرخين (وحتى من كتاب سيرة الملك جورج الخامس نفسه)، إلا أنها كانت بالنسبة للسودان حدثا مهما، استغله الإداريون السودانيون سياسيا لأقصى حد ممكن في غضون سنوات الحكم الثنائي.
وكان البريطانيون وغيرهم يرون في السودان عام 1912م مستعمرة حديثة، إذ لم يكن قد مر على احتلاله إلا 14 عاما فقط، ولم تكن دارفور قد ضمت إليه بعد، وكانت السيطرة التامة على جنوب السودان مجرد سيطرة اسمية فحسب. وكان عدد الموظفين البريطانيين (وهم الحكام الحقيقيون رغما عن تسمية الحكم ب "الثنائي") قليلا جدا، وكانوا في مرحلة تحول من الإدارة العسكرية إلى الإدارة المدنية. وكان هؤلاء الموظفون القليلو العدد يواجهون مشاكل عملية لا حصر لها، إذ كان مطلوبا منهم إدارة أراض شاسعة ظلت، ولسنوات طويلة، مسرحا لحالات عديدة من الاضطرابات والهرج وعدم الاستقرار. وشكل تراث النظام المهدوي السابق هاجسا مخيفا للحكم البريطاني الجديد. ورغم أن الحكومة كانت قد أفلحت بالفعل في إخماد عدد من الثورات المهدوية الصغيرة التي اندلعت عقب الاطاحة بحكم الخليفة عبد الله، إلا أن الشعور بعدم الأمن والأمان ظل يؤرق بال البريطانيين في سنواتهم الباكرة بالسودان، خاصة وأنهم كانوا يحكمون أناسا لا يعلمون عنهم كبير شيء.
ولم تكن الحكومة البريطانية تحس بالقلق والخوف من وقع تمرد علني فحسب، بل كانت تواجه أيضا بلدا شاسعا مترامي الأطراف وبه مناطق تتفاوت في تنظيمها الاجتماعي وعاداتها وتقاليدها وتاريخها. وكان كثير من تلك المناطق تحت سيطرة الحكومة التركية – المصرية في القرن التاسع عشر بمحض الصدفة التاريخية. ولم يكن أمام الحكومة البريطانية إذن والحال كهذه إلا أن تتخذ من "الحكم غير المباشر Indirect rule" نهجا لحكم السودان منذ سنواتها الأولى، وقبل أن يغدو ذلك التعبير شائعا بعد سنوات العشرينيات من القرن العشرين. ومنذ عام الاستعمار الأول أمر كتشنر أول حاكم عام للسودان حكام الأقاليم بالعمل سويا مع كبار زعماء القبائل من أجل "رفع مستوى الأهالي". وكان هذا هو ديدنهم بالفعل بسبب ما كانوا يدركونه من قيود وحدود على سيطرتهم، فاستخلصوا لأنفسهم عددا قليلا ومختارا بعناية من كبار الشخصيات السودانية لإدارة شئون الأهالي. غير أن العلاقة بين الإداريين البريطانيين والذين اختاروهم واعتمدوا عليهم في العمل" قادة محليين" كانت مصدرا في كثير من الأحيان للتوتر، ولكن كان الجانبان يحرصان رغم كل شيء على استدامة العمل المشترك فيما بينهما.
وزادت العلاقة بين مصر والسودان موقف الحكام البريطانيين الجدد تعقيدا، إذ كانت لمصر حقوقا قانونية وصلات تاريخية وثقافية مع المناطق النيلية بشمال السودان، مما يجعل تجاهلها أمرا غير ممكن، وفي ذات الوقت يظل خطرها على الحكم البريطاني قائما، إذ أنها كانت تقدم نظرة بديلة لحكمهم.
وبالنظر إلى العلاقة السيئة بين وينجت باشا حاكم عام السودان والسير اليدون قورست قنصل مصر العام (وحاكمها الفعلي) بسبب كثير من الأمور، والتي كان منها قيام قورست بدعوة خديوي مصر (وليس أحد المسئولين البريطانيين) لافتتاح ميناء بورتسودان، رغبة منه في مصالحة المصريين وإشعارهم بأنهم شركاء مع بريطانيا في حكم السودان، فقد كانت زيارة الملك جورج الخامس للسودان فرصة لكتشنر (قنصل مصر العام الجديد وحاكمها الفعلي) ولوينجت باشا حاكم عام السودان في تأكيد أن السودان هو جزء من الإمبراطورية البريطانية، وفرصة للحكومة لتعرض نفسها باعتبارها "الحاكم الحقيقي للسودان". وكان هذا يتفق تماما مع رغبة وينجت في التباعد عن مصر، وفي امتلاك السودان بتخليه في عام 1913م عن المساعدات الاقتصادية التي كانت تقدمها مصر لحكومة السودان، ولجوئه لبريطانيا لتتولى تقديم تلك المساعدات.
لقد كانت تلك الزيارة الملكية البريطانية للسودان بالفعل فرصة مواتية لحكام السودان البريطانيين كي يواجهوا خطر مصر، وليبرزوا للجميع من هو بالفعل الحاكم في السودان. وتتطلب استبعادهم للخديوي عباس الأول من حضور حفل استقبال ملك بريطانيا مؤامرات سياسية سرية عديدة، وكان ذلك الاستبعاد لأهم شخصية مصرية فعلا رمزيا أرادوا من ورائه تحطيم أي أثر باق للسلطة المصرية بالسودان.
طالما استخدم الحكام البريطانيون الاحتفالات البالغة الأبهة والشديدة الفخامة للتأثير على مواطنيهم ومحكوميهم في المستعمرات لكسب ولائهم وتأكيد سلطتهم، وذلك منذ تلك الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة اليوبيل الماسي للملك فيكتوريا في عام 1897م، ودربار دلهي (Delhi Durbar) في أعوام 1877م و1903م و1911م (وقد شهد الاحتفال الأخير الملك جورج الخامس، وزار السودان في طريق عودته للندن). فقد أتاحت تلك الزيارة لأفراد الشعب السوداني رؤية ملكه والاعجاب به، وبالتالي الاعجاب ببريطانيا وبالإمبراطورية البريطانية التي غدوا جزءا منها. لذا يمكن أن تعد تلك الزيارة عرضا للمجد والشموخ والقوة والنظام والتقدم، وتلك كلها مناقب ترمز لبريطانيا وإمبراطورتيها. وكما ذكر أحد الكتاب فإن تلك الطقوس الملكية لإمبراطورتيها "تمنح أولئك الأفارقة عضوية سلبية وطفولية child - like للعائلة الملكية". وصرح وينجت بأن "تلك الزيارة الملكية فريدة حقا، ولن تتكرر مرة أخرى، لذا فمن الواجب القيام بكل ما يلزم للتأثير بها على الأهالي وانتزاع إعجابهم، والتأكيد لهم على أهمية زيارة جلالة الملك". ولم يكن ذلك غريبا على وينجت، الذي كان يجوب مدينة الخرطوم يوميا في موكب مهيب، ويدعو كبار الشخصيات السودانية وشيوخ القبائل لقصر الحاكم العام ليريهم عظمة الإمبراطورية وهيبتها وقوتها، وليزرع في قلوبهم أيضا العجب والخوف منها والإخلاص لها.
وناقش وينجت تفاصيل تلك الزيارة قبل حدوثها بزمن كاف مع مسئول تلك الرحلة في البلاط الملكي، وقررا أن تكون الزيارة "شرقية الطابع"، وأن توزع فيها صور الملك على كبار الشخصيات السودانية وشيوخ القبائل، وأن يمنح الملك أولئك الشيوخ ميداليات يفاخرون بها فيما بعد، إذ أن وينجت رأي ما فعله زعماء قبائل الكنغو عندما منحهم ملك بلجيكا ميداليات فضية، فصاروا يداومون على التزين بها وتعليقها حول أعناقهم. وراقت له فكرة الميداليات، وعرف أنها ستوافق "المزاج الشرقي" عند زعماء وشيوخ السودان فأمر بسك خمسين ميدالية فضية لتقدم لبعض أولئك الزعماء في يوم الزيارة.
وتم انتقاء أولئك الشيوخ ليمثلوا مختلف مناطق السودان بواسطة حكام المديريات وفقا لمدى إخلاصهم للحكومة وأهميتهم في أوساط مواطنيهم. وأرسل هؤلاء الحكام مذكرات قصيرة لونجت توضح أسباب اختيار كل منهم لصاحبه. فكتب مثلا مدير مديرية النيل الأزرق عن الشيخ عبد الله ود مساعد الآتي: " هو زعيم عمد قبيلة الحلاوين، أكبر زراع الذرة في السودان. إنه رجل ثري ومخلص". وكانت الحكومة السودانية، باختيارها لأفراد بعينهم، تكافئ من يخلص لها، وتوضح بجلاء ماهية المطلوب من الفرد في الدولة المستعمرة، وتعبر عن امتنانها لمن يخلص لها بإدخاله (على الأقل احتفاليا) في دائرة هياكل سلطة الحكومة الاستعمارية الجديدة.
واِهْتَبَلَ هؤلاء الزعماء الذين تمت دعوتهم لحضور احتفال زيارة الملك الفرصة لتجديد وتأكيد اخلاصهم وولائهم للملك وللحكومة الجديدة من أجل خلق صلات أقوى بينهم وبين الدولة. وفي ظل مناخ عدم الثقة الذي كان سائدا في ذلك الوقت، فقد كانت الحكومة تمنح من تثق به مزايا وأعطيات مادية ورمزية جمة.
ومن أمثلة ما عبر به السودانيون المختارون لحضور ذلك الاحتفال عن اعجابهم وامتنانهم للإمبراطورية البريطانية ومليكها ما ألقاه الشاعر عبد المجيد وصفي أمام الملك البريطاني نيابة عن الشعب السوداني (والرجل من مواليد دنقلا في عام 1870م، ودرس بمصر، وعمل معاونا في حكومة السودان حتى عام 1916م، حيت استقال ليعمل بالتجارة. ومن أبيات القصيدة المادحة التي ألقاها في حضرة الملك جورج الخامس (وهي محفوظة في أرشيف جامعة درم) التالي:
رب الجلالة "جورج" من تعنو له كل الملوك بذلة وصغار
هو شبل "أدوارد" العلي وحفيد من بين الأنام لها عظيم فخار
"فكتوريا" ذات المآثر والتي شهد الوجود بفضلها المدرار
وافيت للسودان سعدا طالعا فغدا بزورتكم رفيع منار
أوليته نعما غزارا قبل أن تأتي وقد أردفتها بغزار
وله انتخبت من الرجال أخايرا بالعدل شادوا دارس الآثار
عرفوا الدواء لكل الداء إذ هم حكماء فينا ثاقبو الأفكار
المترجم).
وجاء في خطاب الملك جورج الخامس لمستقبليه التأكيد على فوائد الانتماء للإمبراطورية البريطانية، وعلى أن الأمن والرفاهية والتنمية والتطور في السودان في بدايات القرن العشرين مرتبط أشد الارتباط بالحكم الاستعماري. وكان مما قاله الملك:
"على الرغم من أن قسما كبيرا منكم أو من أسلافكم قد حارب قبل أن تستعيد الحكومة المصرية وجيشنا السودان.... آمل أن تكونوا الآن قد اقتنعتم بأنه، ورغما عن تضحيتنا بأرواح عزيزة مثل الجنرال غردون وآخرين، بأننا قد قدمنا لهذه البلاد ليس من أجل الانتقام، بل من أجل تأسيس الأمن والرفاهية ... ولتطوير موارد البلاد، وجعل السودان على مقربة أكثر من المدنية والتجارة".
وعرض البريطانيون للسودانيين بعضا من انجازاتهم التكنلوجية فبنوا ميناء بورتسودان والسكة حديد. وكانت الرسالة التي بعث بها الملك بزيارته القصيرة تلك هي أن البريطانيين هم القادة الحقيقيون للسودان، إلا أن صفوة السودانيين المخلصين (لبريطانيا) لهم دور أيضا في منظومة التراتبية التي يقف على قمة هرمها البريطانيون.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.