مع " عاطف الطيب " – 1 - فيلم "سواق الأتوتوبيس " و حكاية الحلم المسروق !! بقلم : مهدى يوسف إبراهيم عيسى ( [email protected] ) لا يمكن قراءة فيلم " سواق الأوتوبيس " – إنتاج العام 83 – بمعزل عن حياة مخرجه الراحل " عاطف الطيب " ، ذلك لأن أفلام " الطيب " – الذى رحل فى سن مبكرة جدا – و التى لم تتجاوز 21 – ترتبط ارتباطا وثيقا بتفاصيل حياة مخرجها الكبير . ولد " عاطف الطيب " فى مدينة القاهرة فى العام 1947 ، فى أسرة تنتمى الى الطبقة المتوسطة ، و لذلك كرس " الطيب " حياته السينمائية لمناقشة قضايا هذه الطبقة مثلما فعل " نجيب محفوظ " ، فكل أبطاله من هذه الطبقة ، بل إن وفاءه لها بلغ مدى أن يختار لأدوار البطولة فى أفلامه ممثلين ذوى سحنات مصرية عادية فلم يختر بطلا أشقرا أو أخضر العينين كما هو الحال مع " نور الشريف " و " أحمد زكى " و غيرهما . أسرة " الطيب " صعيدية تعود جذورها الى محافظة سوهاج . هاجرت الأسرة الى القاهرة و استقرت فى حى " بولاق الضكرور " و هو حى شعبى شديد الكثافة السكانية . فى طفولته الباكرة استمع " الطيب " الى الكثير من أقاصيص و أساطير الصعيد و اختزن صور كثيرة استدعاها فيما بعد و هو يقف خلف الكاميرا ( فيلم الهروب مثلا ) . ميلاد " الطيب " قبل أعوام من ثورة الضباط الأحرار جعل منه إبنا بارا للتجربة الناصرية بكل شعاراتها من تحرير و مساواة و كرامة . تعرض والده إلى الإفلاس و هو صغير فاضطر إلى العمل و الدراسة معا . كان مدمنا لمشاهدة الأفلام منذ صباه فالتحق بمعهد السينما و تخرج فيه فى العام 70 . المدهش أن " الطيب " لم يكن من الطلاب المبرزين فى المعهد بل لم يكن يلتفت إليه أحد على الإطلاق . شارك فى حرب اليمن و فى حرب أكتوبر و لذلك تجد ثيمة الحرب حاضرة بقوة فى أفلامه (" كتيبة الإعدام " على سبيل المثال ) . فى العام 72 أخرج فيلما تسجيليا بعنوان " جريدة الصباح " و فى العام 76 أخرج فيلما تسجيليا آخرا بعنوان " مقايضة " . ابتعد " الطيب " عن أفلام سينما المقاولات التى غزت مصر فى السبعينات و اكتفى بالعمل مساعد مخرج فى بعض الأفلام الأجنبية التى صورت فى مصر كما عمل مساعدا ليوسف شاهين . أول فيلم روائى طويل له كان " الغيرة القاتلة " . خطوط عامة لمشروع " عاطف الطيب " : تعامل " الطيب مع هموم الطبقة الوسطى و لذلك وصفه " نور الشريف " بأنه " نجيب محفوظ " الإخراج السينمائى " . يسير السرد فى أفلام " الطيب " فى خط مستقيم على غرار الحدوتة فلم تتميز أفلامه بالتعقيد و التكنيك السينمائى الموغل فى الصعوبة . تتميز الصورة فى أفلامه بأنها عادية لا تهتم كثيرا بالجوانب العلمية المعروفة و لعل هذا ما يفسر قلة فوز أفلامه بجوائز عالمية كبرى فقد كان همه الأكبر منصرفا الى توصيل رؤاه الى رجل الشارع العادى . تشكل الأسرة ثقلا مهما فى أفلام " الطيب " و كل أبطاله خرجوا من أسر متماسكة حملوا همومها ، لكنهم يتعرضون لظلم اجتماعى ما يؤدى بهم الى الانفجار فى النهاية . ثيمتان ترددتا كثيرا فى أفلام " الطيب " : الإنفتاح الاقتصادى الذى شهدته مصر فى السبعينات وجعل الكثيرين ينقلبون على مبادئ الفترة الناصرية كما سنرى فى تحليل فيلم " سواق الاتوبيس " ، و الحديث عن علاقة بين المواطن - سواء أكان مثقفا أم أميا – بالسلطة كما حدث فى فيلم "البرئ" مثلا . خرج " الطيب " من دائرة الصراع داخل المجتمع المصرى كما فى فيلم "ناجى العلى " الذى قدمه عن القضية الفلسطينية ( تأليف بشير الديك ) . فيلم " سواق الأوتوبيس " من تأليق " بشير الديك " و هو المؤلف الذى شكل ثنائيا بارزا مع" الطيب " . بطل الفيلم حسن " ( لعب دوره باقتدار الراحل " نور الشريف " ) هو سواق أوتوبيس نهارا و سواق تاكسى ليلا ، تزوج بعد قصة حب طويلة و له إبن . ينتمى "حسن " الى أسرة متوسطة الحال فأبوه الحاج سلطان ( عماد حمدى ) هو صاحب ورشة فى الحى ، لكن تقدمت به السن فلزم بيته . فى بدايات الفيلم تتحرك كاميرا "الطيب " فى شوارع القاهرة و بطل الفيلم يقود أوتوبيسه . فى مشهد مهم فى البداية تتعرض موظفة الى نشل مرتبها داخل الأتوتوبيس . يهرب النشال حاملا غنيمته فيكتفى " حسن " بالنظر إليه فقط . هذا المشهد سيتكرر فى نهاية الفيلم لكن ردة فعل " حسن " تكون ثورية وقتها ( يرمز نشل ماهية السيدة الى نشل أحلام جيل بأكمله كما سنفهم لاحقا ) . يصل " حسن " الى الموقف و ينصح زميلا له بضرورة أن يصالح زوجته و يعيدها الى بيته . هذه الجزئية العابرة تقدم اضاءة مهمة عن تركيب شخصية "حسن " التى تحترم الأسرة و تحرص على تماسكها ، كما أنها – ذات الجزئية - تقدم إشارة استباقية ذكية من المؤلف لصراع سيدور بين " حسن " وزوجته " ميرفت " ( ميرفت أمين ) فيما بعد . يعلم " حسن " من أخته الصغيرة أن ورشة أبيه سيحجز عليها بسبب عدم سداد ضرائبها البالغة عشرين ألف جنيه . يدرك " حسن " أن زوج أخته " عونى " – و الذى أفسد علاقته بأبيه ذات يوم مما دفع به الى الإلتحاق بالجيش – هو من سرق ورشة أبيه بل و بدأ يتاجر فى الخشب من وراء ظهره ( لعب دور عونى الفنان حسن حسنى ) . يلتقى " حسن " بعونى" الذى يراوغه فلا يجد الأول مفرا من اللجوء إلى أصهاره لعلهم يساندونه . صهره الأول يقطن " بورت سعيد" و يعمل فى الأجهزة الكهربائية و قد حول شقته إلى مخزن . ترك أبناؤه المدارس لأنها لا تفيد على حد قول زوجته . يتقاسم الأب و أبناؤه كئوس الخمر على المائدة أمام خالهم الضيف " حسن " . هذا التصرف يقف شاهدا على التفسخ الأسرى الذى ضرب تلك الطبقة المتعفنة فى ايام السادات و يمكن ربطه بمشهد طلاب الجامعة الذين اعتدوا على "حسن " و سرقوا " تاكسيه " لاحقا ليمارسوا فيه الجنس مع زميلتهم . يرفض " الصهر" مساعدة حسن الذى يضطر الى السفر الى " دمياط " حيث أخته الثانية . لا يتعرف عليه صهره الثانى منذ الوهلة الأولى ثم يرفض صراحة أن يساعد " حسن " – رغم إنه – الصهر - قد اقترض مبلغا قديما من " الحاج سلطان " و لم يقم بتسديده . يعبر الصهر الذى يخبتئ وراء مسوح التدين عن رغبته فى شراء الورشة و هدمها و بناء عمارة مكانها وحين يرفض " حسن " يستأذنه الصهر فى برود لأداء الصلاة . يعود " حسن " خائبا الى القاهرة . تتوالى الأحداث فيعود " ماهر " – إبن خالة زوجة " حسن " – من الخارج و يلتقى بها فى حفلة صغيرة ليريها كيف أنه غدا ثريا رغم أنها كانت تنعته قديما بالفاشل . نعلم أن " ماهرا " كان يريد الزواج من " ميرفت " قديما لكنها رفضته لحبها لحسن . ينجح " حسن " فى استصدار قرار قانونى بتقسيط المبلغ و يقرر أن يبيع التاكسى لمساعدة أبيه لكن زوجته – المتأثرة بنقد أمها المتكرر لحسن و بسبب تطلعاتها – ميرفت - الجديدة للهروب من الطبقة الوسطى - ترفض . تعود " وفاء " – أخت حسن الثالثة - من الكويت مع زوجها – صديق حسن و رفيقه فى الجيش . ترى أباها فى الورطة فتقرر التخلى عن حلم شراء شقة لكى تساعده . يحاول " أبو عميرة " – تاجر مخدرات سابق قضى جل حياته فى السجن – أن يصطاد فى الماء العكر و أن يغرى الحاج سلطان بتزوجيه إبنته الطالبة التى تصغره سنا نظير أن يدفع هو مبلغ العشرين ألف جنيه . هذه الجزئية تزيد من إحساسنا باختلال معايير المجتمع المصرى فى السبعينات حينا نقارنها بوضع الشاب " ضيف " الذى يعمل كمساريا مع " حسن " فى الاتوتوبيس و يدرس فى كلية الحقوق فى نفس الوقت . يرفض " حسن " عرض أبى عميرة و يقرر تزويج أخته الى " ضيف " الذى تقدم لها خاطبا . يلفت انتباهنا فى الفيلم ان كل الشخصيات التى صارت ثرية ليست مؤهلة أكاديميا بل هى نماذج طفيلية استغلت أيام الحرب و التهمت كل شئ ( هذه الثيما عاد اليها " عاطف الطيب " لاحقا فى فيلم " كتيبة الإعدام " عبر التطرق لحياة مصرى خائن أثرى ايام الحرب من خلال تعاونه مع العدو الإسرائيلى ) . يلتقى " حسن " بشلة الجيش القديمة قرب أبى الهول و يسترجعون ذكريات الحرب و بطولات عبور خط بارليف ، يكون اللقاء قرب أبى الهول ( لا تخفى رمزية المكان التأريخ ) . نشعر بمرارة المقارنة بين من ضحوا بحيواتهم لأجل وطنهم فى الوقت الذى اثرى فيه آخرون و سرقوا كل شئ فى داخل مصر ( يرمز أصهار "حسن " و أبوعميرة الى هذه الشريحة المتعفنة ) . يقرر " حسن " أن يبيع شقة الأسرة لفك الحظر عن الورشة لكن الأصهار يتجمعون و يطالبون بحقوق زوجاتهم فى مشهد ينبئ عن مدى تآكل المجتمع المصرى فى فترة الانفتاح . يطلق " حسن "زوجته " التى اشترطت أن يكتب التاكسى بإسمها حتى تبقى فى عصمته . ينجح " حسن " فى بيع التاكسى و جمع المبلغ المطلوب ويعود ليبشر أباه غير أن القدر كان قد قال كلمته أولا فيموت الأب و هو جالس على كرسيه فى الصالة . فى المشهد الختامى - و هو المشهد الأساسى فى رأى - و فى داخل الاوتوبيس تتعرض سيدة الى نشل أيضا . يهرب النشال عبر النافذة لكن " حسنا " لا يكتفى بالمشاهدة هذه المرة ، بل يركض وراءه و يشرع فى ضربه بعنف و هو يصيح " يا أولاد الكلب " . يرمز النشال فى المشهد الأخير الى كل الطبقة المتعفنة التى سرقت احلام من ذهبوا الى الحرب و لذلك يأتى النداء بضيغة الجمع " يا أولاد الكلب " رغم أن النشال كان واحدا . مشهد النهاية هو لحظة الانفجار التى يمر بها غالبا معظم أبطال أفلام" عاطف الطيب " وهو مشهد يلخص التغيير الذى حدث فى شخصية " حسن " بعد تراجيديا خذلان أصهاره وموت أبيه . ............... يتبع [email protected]