لا زلت أذكر ذاك اليوم الذي كنت فيه على متن القطار في تلك المدينة الخليجية الأسطورية حين سمعت صوت مكبرات الصوت داخل عربة القطار بصوت فخيم يردد باللغتين العربية والإنجليزية على نحو آلي: المحطة القادمة هي الإتحاد next station is union عدت بذاكرتي الى بلادي ، تلك البلاد التي لم تفلح في ان تبقى متحدة ، لعل من سخرية القدر أن أكون هابطا بمحطة الإتحاد وأنا قادم من بلاد تتشظى وقلت في سري أن أمة تخلد ذكرى إتحادها لن تنكس لها راية ولن تهزم من قلة ولن تطفأ لها نار وان الرؤية إذا كانت تنموية وطموحة للمضي قدما في قطار يشق الأرض وما فوقها لا يبالي بالمحطات الحزينة التي يلهج أهلها بالمقت والإدعاءات الباطلة بحلم شائه لم تكتمل ملامحه حتى في مخيلتهم عدت بذاكرتي الى أولئك الذين يبتسمون حين يذكرون أصدقاء لي أحبهم ويتهمونهم باللون والعرق والجهة والطائفة وينادون حتى بقتلهم لهذه الذرائع الوهمية فكرت كثيرا في معني أن تكون المحطة القادمة هي الإتحاد ، والقوة والسؤدد والنمو والشموخ في مدينة لا تنام ولا تتوقف عن إبهارك دوما بكل ما هو طيب ونبيل ، مدن ترى في عيونها نظرة تحد لا تخطئها عين ونجاح يدنو قريبا لأيدي كل من عمل وأجتهد وتعب الناس هنا في المدينة الخليجية المستحيلة التي هي برائحة البرتقال وطعم الملح والماء والفرح المعلن على قمة تعلو وتعلو حتى لايعلو عليها شئ في وجه البسيطة ، الفرح بلون الحليب الأبيض والنار المحرقة حلم وفخر وعشق مستحيل الرؤية هي القائد والقائد هو من يحمل الرؤية ليس تعاليا ولكن خدمة للرؤية نفسها، وجدت الناس هناك يحبون القائد والرؤية والعمل والنجاح ويعلنون كل صباح أنهم أعدوا للشمس مفاجأة مذهلة تبهر ضيائها بضياء الإنجاز الإنساني العظيم وليرفعوا قبضاتهم القوية وهم ينظرون الى الشمس هازئين ، فالإنسان هو ذلك المخلوق العظيم الذي عمر الأرض وأبدع فيها وصاغ معانيها ومغانيها وروابيها ، الإنسان العربي جاب البيداء قديما على صهوة الأدهم والأشهب والنوق البيض والغر،هو ذات الإنسان الذي أتقدت بداخله نار الكرامة فأنتفض في شمم طالبا لثأر قد يطول ولكنه لابد أن يحل، وبنى على الزمان حقيقة أن العربي لا يبيت على الضيم ولا يغدر بالعهد ولا يترك الملهوف بل يغيثه ويجيره حتى يبلغه مأمنه ، هي العروبة وقيمها رغم أن المدن الملحية التي أمتهن أهلها قديما بيع اللؤلؤ الآن تبدلت ملامحها بفعل ثورة الإنسان ورغبته في المضي قدما في ذات القطار الذي سيقف طويلا في محطة الإتحاد ،تلك المدن الآن لم تعد ملحية فحسب بل صارت نفطية غطت على سمائها أدخنة شعلة نار لا تنطفئ الإ حين يفنى النفط وينضب كل معين . النار نفسها كانت قبل ألف عام ونيف يشعلها الطائي كرما وإكراما لضيوف قادمين في بيداء لا أول لها ولا آخر .. سبحان الله .. ما أشبه الليل بالبارحة فالضيوف هم الضيوف وإن تركوا النوق وصهوات الجياد وأتوا تحملهم السفن والطائرات يبحثون عن رزق وقوت وأحلام لم تبنى على أرضهم البعيدة ، جاءوا يرجون من الله رزقا ومن ذات العرب خيرا ظلت أياديهم تمده عطاءا من الف عام أو يزيد ، كلهم ينظر الى نار النفط الذي أغدق به الله على هؤلاء الكرام وحاله يقول لأهله علي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. الناس في المدن النفطية وخاصة في جوهرة العالم العربي وشعلته المتقدة التي يحملها الأعراب من أقصى الى أقصى بكل ألوان قوس النصر العظيم ، بسطاء رغم فخامتهم ، متواضعون رغم إنجازاتهم، يدهم ممدودة بالعطاء بلا حدود في طيب معشر وبشاشة وجه وجمال منظر، كنت ضيفهم وشاركتهم فرحتهم بمرور نصف قرن على وصولهم الى محطة الإتحاد التي لم أصل اليها أبدا بل غادرتها نحو التشظي المر لأرض سفكت دماؤها وهي بكر ونيل لم يعد ماءا بل دمعا ثخينا يشقق الأرض بالحزن الأبدي المقيت ، كان فرحي معهم عظيم وفخري بهم لا يضاهيه فخر، ولكن جرحي الغائر ظل ينزف ووجعي الخرافي يجعلني أمقت حتى سمرتي التي قالوا بأنها من نار الشهامة ، نار أخرى ترمي بشرر، نار أخرى وجمر أحمر تحت الرماد لك الله ياقطارا وقف بالإتحاد ومن هنالك أنطلق نحو معاني أخرى وسمو آخر وعالم لا يعرف سوى الاقوياء المتميزون القادرون على صنع النجاح والإنجاز والمستقبل العظيم لأمة كانت ذات يوم سائدة ثم بادت حين تشظى أهلها ولم يستطيعوا أن يقولوا مثل مكبر الصوت في عربة القطار إياه : المحطة القادمة هي الإتحاد Next station is union لست أدري هل كان صوت المنبه في القطار ينبئ عن موقع أم عن حلم،أم ينكت جرحا ينزف في داخلي،ويمنيني بحلمي الوحيد بأن يعود للبيداء أعرابها وللكميت فارسه النبيل،كان حلما أن تكون محطتنا الأولى هناك، في غير هذا الزمان اللئيم زمان التشظي والتفتت والفشل والضياع كان حلما أزليا وأبديا لقوم اعزهم الله بتنزل قيم السماء بلسان عربي مبين. كان صوتا يخرج من التاريخ القديم من صلاح الدين وخالدبن الوليد .كانت عظام الأجداد الراقدون تحت سطح الرمل الساخن تغلي دماؤهم في مرجل أوقدناه نحن بتشظينا و تناحرنا البغيض ٍ، فالتواريخ القديمة مجد بناه النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وعز أعاد لمكة هيبتها و حول قريش من قبيلة عربية الى دولة تمتد من أقصى الى أقصى وصارت للأعراب كلمة على الزمان والمكان ،وجند يملأون البرو البحر والسماء، عز وشرف باذخ برئ من دم التراب. أعياني الألم فأستندت الى عمود صلب فضي لامع يتوسط عربة القطار والصوت يخبر عن قرب وصولنا لمحطة الإتحاد، إقترب المكان كثيرا وأبتعد الحلم أكثر، وابتسمت لي أفريقية وافرة الجسم، ترتدي تنورة حمراء رسم عليها باللون الأسود ليث يتوثب ، غصت في ملامحه عميقا، كان متألما رغم شراسته البادية ، حزن يحجب الآفاق والرؤى ، ولربما تشظت دواخله أيضا مثلي، وفقد حلم حياته الطيبة مع أشباله الأقوياء المتحدين . [email protected]