كان نهارا قائظا شديد الحرارة .. رأيته يسير ببطء بالاتجاه المعاكس بمحاذاة الجانب الآخر من شارع الاسفلت والعرق يتصبب من جبينه .. لم اتعرف عليه فى بادئ الامر ، فقد مضت عدة سنين منذ آخر مرة رأيته فيها . تزاملنا سويا فى كلية الآداب .. كان من المولعين باللغة الانجليزية والفلسفة والموسيقى ، وكان اكثر ابناء الدفعة اناقة وادبا ، وكانت تعلو وجهه ابتسامة دائمة حببته الى الكل .. لم يكن لديه اى ميول سياسية ، ولم يعرف عنه كذلك ميوله للجنس اللطيف ، إذ ليس لديه وقت ليبعثره فى مثل هذه الامور الفارغة كما كان يقول على الدوام ، فهو اما فى قاعة الدرس واما فى غرفة الموسيقى واما فى صحبة احد المراجع بمكتبة الجامعة . هرولت ناحيته حتى دنوت منه ، غير انى ترددت قليلا قبل ان اتحدث اليه ، فقد اشتبهت علىَّ ملامحه فطفقت اسائل نفسى : ايعقل ان هذا الذى امامى هو ( مرتضى ) ، فان كان هو : ما الذى غير ملامحه بهذه الصورة المذرية ؟ عينان زائغتان ، ووجه شاحب كسته سحابة من الحزن ، وجسد نحيل كان صاحبه اخذ عهدا على نفسه ان يصوم الدهر . سالته بلهجة غلب عليها طابع الاضطراب : مرتضى ، اليس كذلك ؟ . رفع بصره ناحيتى ونظر الى برهة قبل ان يصيح : الطاهر عثمان ؟ دنا منى فاحتضنته وسلمت عليه بحرارة .. كان من الاصدقاء المقربين الا ان الايام والسنين وظروف العمل فرقت بيننا ، فقد هاجرت انا الى استراليا بعد التخرج مباشرة بينما وجد مرتضى ضالته فى وظيفة مرموقة بوزارة الخارجية . سالته وقد كادت تطفر من عينى دمعة : ما الذى جرى لك ؟ اين ذلك الشباب ، واين تلك النضارة ؟ ما هى قصتك ؟ اجابنى باسى بعد ان تنفس بعمق : كما تعلم لم اكن من مناصرى الاغتراب والهجرة ، فحالما استلمت شهادتى طفقت ابحث بكل جِدٍعن وظيفة حتى عثرت على بُغيتى فى اعلان نُشر باحدى الصحف يُعلن عن شواغر فى وزارة الخارجية .. كنت من المحظوظين القلائل من ابناء الدفعة ، فقد تم قبولى بعد اقل من اربعة شهور فقط من تخرجنا فى وظيفة مترجم . _ ثم ماذا بعد ؟ لم اكن لاطمح لاكثر من ذلك ، ولكن تدرجت بسرعة فى السلك الوظيفى حتى صرت مدير قسم الترجمة بالوزارة ، وفى ذلك الاثناء تزوجت ، وانجبت وائل وعبير ، الا ان حياتى لم تسر وفقا لما خططت ، فقد انقلبت رأسا على عقب ، فبعد سنوات الاستقرار تلك وجدت نفسى ذات صباح فى الشارع ، بعد ان تم اعفائ مع جماعة بحجة الصالح العام . _ وماذا فعلت بعد ذلك ؟ _ وماذا عساى ان افعل ؟ قالها مرتضى بمرارة شديدة ثم استطرد : ما من باب الا وطرقته ولكن دون جدوى ، وفى احد الايام خرجت ابحث عن عمل ، اى عمل ، ولكن كالعادة رجعت اجرجر اذيال الخيبة ، وعندما ولجت الى منزلى فوجئت بخلوه من الزوجة والابناء . _ اين ذهبوا ؟ - ذهبت زوجتى ومعها ابنى لبيت ابيها ، ولم ترجع حتى هذه اللحظة . لم يكن فى استطاعتى الوقوف معه اكثر ، فقد كنت على عجلة من امرى خصوصا وموعد اقلاع الطائرة لم يتبق له سوى ساعة واحدة فستأذنته ثم ودعته وانصرفت وفى قلبى حسرة على وطن يرمى بكفاءاته اما الى الهجرة واما الى الشارع . [email protected]