رغم ما أطلقه الرئيس البشير في خطاب العاشر من أكتوبر من إطلاق للحريات الصحفية والإعلامية في اطار دعوته إلى الحوار الوطني المثير للجدل إلا أن الإعلام الرسمي والاعلام الخاص المساند لايزال أسيرا للرقيب الأمني الداخلي بتجنب اتاحة الفرصة للأصوات التي تعارض وجهة نظر الحكومة والحزب الحاكم وتتحفظ على إطلاق الحوار بصيغته الراهنة حسبما هو معلن من تلك الأحزاب المعارضة مما يجهض في الواقع فكرة الحوار نفسها بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف حول صيغتها الراهنة . كل الذين تستضيفهم القنوات الإخبارية كالتلفزيون الحكومي وقناتي الشروق والخرطوم مثلا في إطار حملتهم الإعلامية لإبداء آرائهم حول الحوار هم حقيقة من المشاركين في الحوار أو المؤيدين له بصيغته الراهنة حيث تتجنب تلك القنوات بصورة مقصودة دعوة القيادات المعارضة رغم مناشدتهم سياسيا آناء الليل وأطراف النهار من قبل الحكومة للالتحاق بالحوار الوطني لإبداء وجهات نظرهم حول مقتضيات الحوار التي يرونها . هذا الاحجام عن عدم استضافة المعارضين الحقيقيين للحزب الحاكم من قيادات معلومة للشعب السوداني من قبل تلك القنوات يأتي ربما لعدم إحراج الحزب الحاكم لقوة آراء المعارضين وربما لقناعة تلك القنوات بضرورة تجاهل تلك الأصوات وهو ما يخالف في الواقع مهنية وأخلاقيات العمل الإعلامي والصحفي حتى لو سلمنا بأن معظم تلك القنوات كما يرى البعض هي جزء أصيل من مكونات النظام القائم . ورغم أن من حق الشعب السوداني أن يسمع الرأي الآخر ليقيّم تحفظاته أو اعتراضاته حول هذه القضية الهامة وهو ما لا تتيحه تلك الفضائيات لجمهورها إلا أن مقتضيات مهنية الممارسة الإعلامية نفسها للعاملين في هذا المجال تستوجب قدرا من الحرفية في الأداء الإعلامي بتقديم الرأي والرأي الآخر لا فرض وجهة نظر واحدة على المتلقي وهذا النوع من الممارسة في غرف إعداد البرامج السياسية تجاوزته حتى النظم الشمولية في العالم الثالث لعدم جدواه السياسية فيما لايزال يعشعش هذا المفهوم في عقول البعض ممن يخشون على أنفسهم من إغضاب الحكومة أو يتسقون مع مزاجها . لكن المؤسف أن هذا النوع من الأداء يحول بين مهنية العمل الإعلامي وبين بناء إعلام قادر على التعافي من أمراض الشمولية أو مرض التوحد الذي يسببه الرقيب الأمني . ففي الوقت الذي خطى فيه الاعلام خطوات واسعة نحو حرية التناول الإعلامي بضوابط مهنية إلا أن التلفزيون الحكومي السوداني والقنوات المماثلة له إلى الآن لا تقدم أصلا إلا ما يعبر ومن يعبر عن وجهة نظر الحكومة والحزب الحاكم . فقناة الشروق الفضائية مثلا تبذل مجهودا مقدرا في البرامج التوثيقية والمنوعة إلا أنها تقف عاجزة أمام تقديم أي مادة سياسية أو إخبارية متوازنة بالمقاييس المهنية أو الحرفية في مجال العمل الإعلامي . فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يستطيع مقدم برنامج وجهات نظر في قناة الشروق أن يقنع المشاهد بمهنيته في تقديم حوارات شفافة تقدم للمشاهد وجهتي نظر على الأقل حول قضية واحدة ، فالبرنامج لا يستضيف إلا الموالين للحكومة او الحزب الحاكم أو الأحزاب الموالية للحزب الحاكم ولم يستضيف أي صوت معارض حقيقي لقضية الحوار حتى الآن رغم أهميتها السياسية وهذا خلل مهني صريح بل ربما يكون مثير للدهشة في وسائل الاعلام الحر . ليس هذا فحسب بل حتى إن بدا أن هناك صوت من الذين تمت استضافتهم من طيف الحكومة يبدو مخالفا لخط الحزب الحاكم سرعان ما يتحول مقدم البرنامج المحاور إلى صاحب وجهة نظر متسقة مع وجهة نظر الحزب الحاكم للتصدي لتلك المخالفة بطريقة لاشعورية يتغلب فيها الانتماء إلى الفكرة على الحيادية المهنية دون مراعاة لأبسط قواعد العمل الإعلامي في إدارة الحوارات وهذا بالطبع ينال كثيرا من مقومات وقواعد العمل الإعلامي . أيضا فان برنامج الأخ الدكتور عبدالملك النعيم الذي يقدمه باللغة الإنكليزية لم يقدم حتى الآن أي شخصية معارضة او متحفظة على الحوار بصيغته الراهنة من القوى المعارضة حزبية كانت او قومية بالإضافة إلى كونه يصب في هدف واحد هو دعم الحوار كما تراه الحكومة دون استصحاب لا راء أو تحفظات الممانعين مما حول البرنامج إلى ما هو اشبه بإنتاج إعلامي تابع إلى الحزب الحاكم وأحسب أن مقدم البرنامج مدرك لذلك لحصافته الإعلامية إلا أن يكون قد احيط به . ومثلما تسعى القوى السياسية لاستغلال هوامش الحرية فما نرجوه أن تستغل هذه الوسائل الإعلامية هذا الهامش في تقديم خدمة إعلامية متوازنة بين الرأي والرأي الآخر في عالم لم يعد فيه الحجر على الآراء أمرا ممكنا بكل وسائل العنف المتاحة وأن يسعى المشتغلون بالإعلام في تلك الوسائل إلى المحافظة على قدر من التوازن بين مقتضيات المهنة ومقتضيات الخطوط الحمراء المفروضة عليهم حتى اشعار آخر . أما الذين يتسقون مع آراء الحكومة او الحزب الحاكم في تلك القنوات في الخطأ والصواب فهؤلاء لا حرج عليهم إلا ان ما يقدمونه لا علاقة له بالعمل الإعلامي المهني المتوازن. [email protected]