Nasser: Service in Sudan بيتر مانسفيليد Peter Mansfield ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لما ورد عن خدمة جمال عبد الناصر في السودان في عامي 1939 إلى 1940م عندما كان ضابطا بالجيش المصري، وذلك في الكتاب المعنون "ناصر " والصادر عام 1969م عن دار نشر ماثيون التعليمية، في سلسلتها عن المشاهير الذين "صنعوا العالم المعاصر"، ومن تأليف البريطاني بيتر مانسفيلد. ولد الكاتب بالهند عام 1928م، وتوفي بإنجلترا عام 1996م. وتخرج في جامعة كامبردج ثم عمل دبلوماسيا في وزارة الخارجية البريطانية، ولكنه قام في عام 1956م بالاستقالة من منصبه احتجاجا على مشاركة بريطانيا في "العدوان الثلاثي" على مصر، وتفرغ بعد ذلك للعمل كاتبا سياسيا في عدد من الصحف والمجلات، ومؤلفا لعدد من الكتب التاريخية والسياسية منها كتاب عن "سيرة جمال عبد الناصر" و"البريطانيون في مصر" و "الكويت: طليعة الخليج" و"العرب" و"تاريخ الشرق الأوسط". المترجم ********** ************* ********** ********** تطوع جمال وصديقه عبد الحكيم عامر للعمل بالسودان في عام 1939م، وبقيا هنالك لسنوات ثلاث. ومن ناحية نظرية كان الحكم في السودان حينها حكما بريطانيا - مصريا (ثنائيا)، غير أن السيطرة السياسية فيه كانت لبريطانيا وحدها. وكان أفراد الجيش المصري يقيمون بالسودان في محطات قصية عن العاصمة. وكان يحظر على من يقيم منهم بالعاصمة أن يختلط بزملائه الآخرين. ورغم كل ذلك، فقد كانت الفترة التي قضاها جمال عبد الناصر بالسودان فرصة ذهبية بالنسبة له كي يلاحظ كيفية إدارة الاستعمار عمليا لسلطته. وقبل أن يبدأ جمال في رحلته للسودان، عاد إلى مسقط رأسه الإسكندرية في عطلته السنوية، ثم استقل بعد إنتهائها القطار حتى مدينة أسوان، ثم بلغ مدينة وادي حلفا بالباخرة. وكتب في غضون تلك الرحلة خطابا إلى حسن النشار (أحد أصدقاء عبد الناصر القدامى، وكان قد أقام معه في الثلاثينيات بيته بالقاهرة لنحو ثَمَانِيَ حِجَج. المترجم) حكى له فيه عن حادثة معينة بينت روح الدعابة المتأصلة عنده، وعن نظرته المرتابة في الطبقات المصرية الحاكمة، وهو ضابط صغير لم يتعد عمره 21 عاما. جاء في خطاب عبد الناصر للنشار (بحسب ما أوردته مجلة "المصور" من سيرة لجمال عبد الناصر نشرتها في الخمسينيات) أن القطار قد توقف في محطة الجيزة قادما من القاهرة. وفتح رجل يحمل بندقية باب "القمرة" التي كان يجلس بها عبد الناصر بمفرده، ليدلف بعده رجل محاط بعدد من الخدم ينادونه ب "سعادة الباشا". واستطرد عبد الناصر في وصف ذلك "الباشا" الذي لم يكف عن الكلام بسرعة مذهلة وبصوت عال، وبلا انقطاع، منذ لحظه جلوسه في المقعد المقابل له. فقد بدأ حديثه بأنه هو الوحيد الذي عارض معاهدة عام 1936م. ثم عاد ليحكي تاريخ حياته منذ عام 1907م، ولم يترك له فرصة للتفوه بأي كلمة. وكلما كان عبد الناصر يحاول الرد، قاطعه الباشا بقوله: "انتظر ... انتظر"، مما أضطره لإدامة النظر في وجهه والتظاهر بالاستماع إليه، حتى تيبست رقبته. واستغل جمال فرصة وحيدة لمقاطعة الباشا وسأله عن المدينة التي سينزل فيها من القطار. فقال له الباشا: "ينبغي أن تحمد الله أن قيض لك من يسليك حتى محطة بني سويف". وفي تلك المحطة نزل الباشا، بعد أوصى جمال بأخذ حذره في وسط الزحام! وتنفس جمال الصعداء رغم الصداع الفظيع الذي أصابه من ثرثرة ذلك الباشا. كانت الحياة بالسودان قاسية موحشة للملازم عبد الناصر، والذي لم يكن من ممارسي "المباهج المعتادة" التي كان يستمتع بها أقرانه في سكنهم بميز الضباط. ولحبه للحيوانات الأليفة ابتاع لنفسه قردا ضخما شاركه السكن بغرفته. وفي الأول من مايو من عام 1940م تمت ترقيته لرتبة ملازم أول، ليعمل معاونا (adjutant) للكتيبة المصرية الأولى بالخرطوم. غير أن الحياة العسكرية بالخرطوم لم تشغل بال الملازم الشاب، فظل متابعا وثيق الصلة بالأحداث في مصر عن طريق مراسلاته المتصلة بزملائه وأصدقائه الخلص. وكان يعبر في تلك الرسائل عن تذمره الحاد وامتعاضه الشديد من الحياة البالغة الترف والمنغمسة في الملذات التي رآها عند رؤساءه، والتي كان لها آثار مفسدة لصغار الضباط. وبقي عبد الناصر بالسودان عندما كانت معارك الحرب العالمية الثانية تدور رحاها في صحارى شمال أفريقيا. وتقدم الإيطاليون في داخل الأراضي المصرية، إلى أن دحرهم الجنرال البريطاني وييفيل (هو آرشيبولد وييفيل Archibald Wavell 1830 – 1955، والذي شارك في عدد من حروب الإمبراطورية البريطانية مثل حرب البوير بجنوب أفريقيا، وفي الحرب ضد الإيطاليين في غرب مصر وشرق ليبيا في عملية حربية سميت "بوصلة Compass" .المترجم). ثم تولى روميل قيادة قوات المحور، وقادها نحو مصر على طول الساحل حتى هدد الإسكندريةوالقاهرة. وفي يونيو عام 1940م أمر السفير البريطاني بالقاهرة السير ميالز لامسون الملك (الصغير) فاروق بحل وزارة علي ماهر لأنه رفض أن يعامل الإيطاليين المقيمين بالقاهرة معاملة الأجانب الأعداء (enemy aliens)، رغم أن مصر كانت قد أعلنت عن حيادها في الحرب الدائرة، وأن زوجة السفير نفسها كانت إيطالية بالميلاد! وأعقب علي ماهر رئيسان للوزارة كانا يتعاطفان مع قوات الحلفاء، غير أن أزمة أخرى أضطرت الملك لإعادة تعيين على ماهر رئيسا للوزارة. وأشعل ذلك غضب السفير البريطاني والذي توجه في مساء الرابع من فبراير من عام 1942م إلى قصر عابدين ليقابل الملك ويوجه له إنذارا شديد اللهجة يخيره فيه بين إعادة تعيين النحاس باشا رئيسا للوزارة أو الاستقالة. ولم يجد الملك بدا من الرضوخ وتعيين النحاس باشا كما طلب السفير. وغدا يوم 4/2/ 1942م يوما مهما في تاريخ مصر الحديثة. وأصابت خيبة الأمل والامتعاض صغار الضباط، وبعض كبارهم أيضا مثل محمد نجيب، والذي بعث برسالة غاضبة للملك سجل فيها أنه لم يعد يشرفه ارتداء الزي العسكري المصري بعد تلك الإهانة التي الحقها السفير البريطاني بمصر ومليكها وجيشها. وكان عبد الناصر ما يزال في السودان في تلك الأيام. وقام، بعد أن أحيط علما بما جرى، بكتابة خطاب لصديقه حسن النشار عبر فيه عن شديد غضبه لما حدث لمصر وجيشها، وقبولها ب "الأمر الواقع fait accompli"، وعن أن "الإمبريالية تهددنا فقط، ولكنها إن علمت أن هنالك من بيننا من يقدم روحه فداء لوطنه، فإنها تنسحب فورا، كما تفعل دوما...". وكان هذا الشاب (جمال) هو ذات من كان يسأل قبل نحو 7 سنوات في مقال له: "أين الكرامة؟" و"أين الوطنية؟"، و"إن الأمة في سبات عميق مثل أهل الكهف". غير أنه لم يفقد الأمل، وظل شديد الثقة في أن جماعة قليلة من الرجال الشجعان يمكنهم بالتصميم والعزيمة أن يفلحوا في تغيير واقع مصر.