(2) تناولت في المقال السابق الأسلوب الذي أتى به الدكتور الراحل ليدير به مرافق الدولة؛ لا سيّما وزارات المال والكيفية التي يتعامل بها مع قطاع التجار ورجال الأعمال. لذلك ابتدع بدعةً "ضالة" تتناقض مع الدين وتتعارض مع الأخلاق وهي إقصاء قدامى رجال الأعمال كخطوة أولى قبل التدمير النهائي بل والمحو من خارطة البيع والشراء والاستثمار. ونتناول هنا الامتيازات والتسهيلات التي منحها الدكتور ووهبها لعضوية تنظيمه والتي أودت دون غيرها بحياة العاملين في هذا القطاع ومن ثم سقطت البلاد في فوضى غير مسبوقة؛ بتركيز موارد ومصادر البلاد وفرصها التجارية في أيد حفنة جشعة أساسها الحكم من خلال التحكم. وقد استلم راية العمل في هذه المرافق شباب متعطِّش للتنكيل بالآخرين؛ فاجر في خصومته مع شعبه ومجتمعه؛ لا يحكمه وازع خلقي ولا يردعه حس وطني ما دامت النتيجة هي راحته على رقاب العباد وموارد الوطن بلا مؤهل يذكر أو خبرة تعتبر. ولعل هذا ما يسر عنوان هذه المقالات بأنه دهاء الخبث وخبث الدهاء. أولاً : الإعفاءات + الترحيل "لأعمال وبضائع شركات الحزب" ما يتم من تجاوزات في الترحيل يكفي تماماً لتمويل البند الأول في الميزانية وهو "بند المرتبات". هكذا كان دخل السكة حديد في الماضي يكفي لتمويل 4 وزارات خدمية بكل ما تحتاجه وهي التربية والصحة ثم الشرطة فالدفاع. تحولت هذه المبالغ الطائلة؛ بفضل فلسفة التمكين" لجيوب الأفراد؛ إذ أنّ مؤسسة السكة حديد ووفقاً لسياسة المدراء الجدد؛ أصبح من أهم مبادئها "إعطاء الأولوية" لترحيل بضائع شركات معينة وبأسعار مخفضة وهي شركات تتبع لأسماء لامعة وبرّاقة دوّخت المواطن وأشلّت حياته. هذه الشركات مدمجة في منظمات تبدو إنسانية "ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب"؛ اتخذت أسماء تكسبها تعاطف الناس وهي: رعاية الأيتام وكفالة الأرامل ثم شباب الوطن وذوي الحاجات الخاصة. واجهات هذه المنظمات هي الشركات المذكورة آنفاً وقد تسمّت بأسماء أُخذت من ألفاظ القرآن الكريم ومفرداته كالسابحات والراضيات ثم الغاديات فالكافيات. هذه الأسماء تذكرنا بالأسماء التي تسمّت بها قوافل حرب الجنوب كالعاديات؛ والموريات قدحا. فلكل مقام مقال ولكل صناعة شكل. المدير التجاري الاقليمي لفرع السكة حديد وطاقم موظفيه هم جزء لا يتجزأ من هذه اللعبة القذرة. يقومون بتصديق العدد المعيّن من العربات للشركات المعينة وللأفراد المعنيين "أولئك لهم نصيب مما كسبوا" وهو نصيب "خاص" تحفيزي معلوم "عمولة" مبرر فقهياً. مسألة الترحيل هذه مسألة أساسية في العمل التجاري؛ وهذه التخفيضات هي في المقام الأول أموال القطاع العام تم اقتطاعها لتضاف كفوائد لهؤلاء الأفراد وشركاتهم بدلاً من أن تأخذ طريقها للخزينة العامة. ينتج من ذلك أن صاحب البضائع غير مخفضة الترحيل لن يستطع منافسة هذه الشركات ذات الحول والطول وسيمنى بخسائر فادحة برمج لها الطرف الآخر وأحسن التخطيط لحدوثها. وكمثال لهذه الفوضى فإن جوال الملح في سنة 97, تصل تكلفته إلى 23 ج في الدمازين وذلك للتاجر غير العضو في التنظيم أما أعضاء التنظيم يكلفهم نفس الجوال 15 ج؛ ولك أن تتصور بقية المأساة. يضاف إلى جريمة الترحيل المخفّض جريمة أخرى وهي الإعفاءات, ذلك أنّ هذه الشركات المتوارية خلف هذه المنظمات الوهمية؛ معفاة تماماً من الجمارك ورسوم الانتاج, وتسرح وتمرح حرةً طليقةً من دون دفع أيِّ ضرائب وجبايات أو أشكال الغرامات الأخرى التي تنتحل أسماءً ما أنزل الله بها من سلطان لتضييق الحياة على العاملين في هذا القطاع ليتركوه قسراً فتختفي بذلك الوجوه المألوفة للناس من قدامى التجار لتحل محلهم شاكلة جديدة من فاسدي الذوق وعديمي الأخلاق أما الأسماء التي اختفت من عوالم السوق فهذا شأن تمكيني لا تنتطح فيه عنزتان يتجلى فيه مدى الخبث والنوايا المبيّتة للإضرار بالآخرين. الغرف التجارية: لكل مدينة غرفتها التجارية الخاصة بها ويُناط بها القيام بالتسويات وفض المنازعات المالية بين التجار. فعندما تسوء ظروف تاجر ما وتكثر عليه المطالبات تتدخل الغرفة التجارية وتكون بينه وبين دائنيه "معلناً التفليسة". تستلم الغرفة التجارية مفاتيح المحل أو المحلات ثم مفاتيح السيارات وكذلك أوراق البيوت وتضع يدها على ممتلكاته. تحدث عملية التسوية بإعطاء الدائنين نسبة من حقوقهم على أن يتنازلوا عن الباقي رفقاً بهذا الزميل ومن ثم يرجع هذا التاجر لمعاودة العمل من جديد وبسياسات جديدة؛ "يعني لا يذهب إلى السجن ويبقى لحين السداد" وقد ظلت هذه الغرف تعمل بمستوى أخلاقي معقول منذ تأسيسها في سنة 1923 حتى مجيء الإنقاذ المشؤوم لتنقلب هذه الأعراف رأساً على عقب؛ وليصبح وجود الغرف التجارية وبالاً على التجار وأصحاب العمل.. في عهد الانقاذ؛ تعمل الغرف التجارية بطريقة غاية في السريّة؛ فهم لا يُطلِعون على غيبهم أحد إلا من ارتضوا من المقربين فكراً وربما دماً في رواية أخرى. هم يعرفون عن كثب, التجار الذين يترنحون نحو التفليسة؛ إذ أن مهمة بعض موظفي البنوك؛ "وجلهم من الأخوان المسلمين" مهمتهم كشف حسابات العملاء "للتنظيم" ربما لأسباب أمنية أو بغرض الاضطلاع على حجم الحركة داخل الحساب. تقوم الغرفة التجارية بالاجتماع بالمرشح للتفليسة خلسة؛ بعيداً عن أعين الخلق ثم تجري المساومات بين الطرفين؛ والتي تنتهي بتحويل ملكية دكاكين وعقارات هذا الشخص وتسجيلها وإضافتها إلى ممتلكات أعضاء الغرفة التجارية بأقل من نصف أسعارها الحقيقية. يستخدمون في ذلك لغة الترهيب والترغيب ليضعوا أياديهم على المواقع الاستثمارية والمشاريع الناجحة ولا تخلو جلسات المساومة من وعود بالتعاون في الجولات القادمة لتعويض الخسارة. ويقول المراقبون لهذه البلطجات أن الدائنين هم ذات أفراد وعضوية الغرف التجارية؛ بل أنها عمليات مخطط لها سبقتها ضربات قوية في كل المراحل التي تمر من خلالها البضائع؛ أفضت إلى إخراج هذا الشخص من السوق ليحل محله المجاهد عضو تنظيم الأخوان المسلمين. المكايدات وطرد المشاهير من السوق: ظلت العلاقة بين رجال الأعمال ومدراء البنوك ولطيلة العقود الماضية علاقة تقوم على الثقة وعلى قويم الأخلاق السودانية المعروفة والتي لا تعرف الغدر وصفات الكذب والمكايدات بل والنفاق وبأن هناك "عصا نايمة وعصا قايمة". فرجل الأعمال المورّد في تعامله مع الشركات الخارجية المنتجة يحتاج لما يعرف ب "خطاب كرديت" يتم تحريره بواسطة مدير البنك. في هذا الخطاب يشهد المدير بأن هذا التاجر "وهو عضو بمجلس الإدارة وأحد مؤسسي البنك"؛ يشهد بأن رصيده به مبلغ كذا وهو يساوي 30% من قيمة البضاعة المراد استيرادها. وهذا هو الشرط الإجرائي الأول الذي تقوم بموجبه الشركة الخارجية بإرسال البضاعة. الشرط الثاني إكمال المبلغ حين وصولها إلى الميناء. الشاهد في الأمر أن بعض هذه الخطابات يُحرر بدون رصيد موجود وجود فعلي في الحساب؛ ولعل المدير الذي قام بتحريرها متيقِّن من أن هذا العميل سيورِّد غداً أو بعد غدٍ أضعاف مضاعفة لل30% الموجودة في الخطاب. بناءً على تجاربه التي لا تُحصى معه ومتيقِّن أيضاً من أنه سيكمل ال70% المتبقية من إجمالي المبلغ عند وصول البضاعة إلى الميناء. وقد ظل الحال يسير بهذه الطريقة منذ خمسينات وأربعينات القرن الماضي وحتى مجيء الإنقاذ على الرغم من "خرقه الواضح للنصوص الصريحة للقانون.." لم يكن الأخوان "بعد استلامهم للحكم"؛ يجهلون هذه الممارسات بل كانوا على علم تام بها؛ ولكنهم غضوا الطرف عنها مؤقتاً؛ حتى يغرق رجال الأعمال أولاً ومن ثم مدراء البنوك في هذه المخالفات "لمزيد من التورّط" فينقضوا عليهم في لحظة معينة. . جندوا لهذا العمل نفير من المختصين في مجال المصارف ومن الضليعين في مهنة القانون.. قام هذا النفير بحصر مثل هذه المخالفات بأثر رجعي؛ ووجدوا أن هؤلاء التجار يأخذون هذه الخطابات ويسددون ما عليهم "بالمهلة" واستمر ذلك لسنين طويلة جداً. وبناءٍ على ذلك؛ بدأت المحاسبات عبر المحاكم يسندها كم هائل من الوثائق الدامغة التي تثبت استغلال المنصب "من جانب المدراء" لتزوير المستندات مما يعد انتهاكاً لما منصوص عليه في القانون الجنائي السوداني لسنة1991 المواد 122؛ 123؛ 124. أدانت المحاكم مدراء البنوك والتجار على السواء وزجوا بهم في السجون. وقضت بعض محاكمهم الجائرة بأن تلك الثروات وبدون استثناء إنما بنيت مع الأيام بذات الأسلوب مما يستوجب مصادرتها. وبناءً على ذلك صدر أمر مصادرة وتجريد رجال الأعمال من جميع ما يملكون من شركات وعقارات ومصانع وخلافه بعد الإدانة. ومن الأمانة أن يذهب كل فلس وشبر أرض تمت مصادرته إلى الخزينة العامة ولكن آلت ملكية كل هذه الثروات إلى المتنفذين الاسلاموين. غياب تام للشفافية في ظل نظام شمولي باطش. ويكفي أنه ووفقا لمؤشر منظمة الشفافية الدولية يتذيّل السودان القائمة ويحتل الموقع الأدنى في كل سنة حتى وصل به الحال لاحتلال المرتبة الرابعة قبل الأخيرة في العالم كانت الخطوة التالية لهذا العمل هي الدراسة المتأنية للسجلات التجارية لهذا النفر من رجال الأعمال ليحلوا محلهم ويرثوا أعمالهم.. هكذا هم الأخوان المسلمون يجيدون الغدر وأخذ الطرف الآخر على حين غرة. يتلذذون بمصارع أعدائهم؛ ولا توجد مفردات الضمير والأخلاق في ممارساتهم ومعاملاتهم البنكية والربحية وإدارة الأعمال. هكذا انتهى المطاف بمدراء البنوك ورجال الأعمال إلى السجون وهرب كثيرون من رأسمالية البلد وفي زمن قياسي إلى بقاع مختلفة في أرض الله الواسعة؛ حتى لا يتعرضون إلى الذلة والمرمطة ثم الهمبتة وقلع الممتلكات عنوة ورجالةً.. هنالك أسلوب آخر يتبعونه مع تجار الإجمالي والتجزئة وهو فرض ضرائب تعجيزية تفوق حجم العمل لدى التاجر. فهم يراقبون حركة الدكان والبضائع ويلقون بنظرات إلى الرفوف والعربات المحمّلة التي تغدو وتروح على المحل ولا يسألون أو يفكرون في حجم الشيكات الآجلة التي تم بها شراء البضائع. يأتون بفواتيرهم ويطالبون التاجر بالدفع وهو لا يملك لهم دفعاً ولا رداً. وعندما يتبينوا أنهم وصلوا إلى طريق مسدود مع هذا التاجر "بسبب عجزه" يفسرون ذلك بأنه تمرد على الحكومة المسلمة وأن هذا التاجر هو مجرد طابور خامس لا يريد لراية الاسلام أن تعلو وترتفع؛ حينئذٍ يأتون بالطبل ويغلقون الدكان ويفيدون ذلك التاجر بأنه عليه الالتحاق بكتيبة الشهيد محمد أحمد عمر ببحر الغزال. وهكذا غادرت أعداد لا حصر لها هذا المجال تحت التهديد وأساليب قهرية لا يسندها دين ولا أخلاق.. غسيل الأموال إشارة إلى أنّ البلد يحاصرها الفساد وتخنقها الفوضى. وهي من المساوئ التي اشتهر بها العهد الإنقاذي اللئيم ولم يتورعوا أبداً من ارتكاب مثل هذه الجناية. هذه الأموال المراد غسلها تأتي من بلاد أخرى قد تشاركنا الحدود وقد تشابهنا في قضايا أخرى وما أكثرها. فهي أموال مخدرات أو سلاح وربما دعارة. لم يستطع أصحابها إدخالها في النظام البنكي للبلد المعين. تبرع اخواننا في العقيدة بغسيلها ومكوتها وتعطيرها ليعبروا بها إلى آفاق الثراء والفوضى غير المحدودة التي تدنت معها كل القيم النبيلة التي تجعل السوداني مرفوع الرأس, عالي الأنف. ولكن كل دورٍ إذا ما تم ينقلب [email protected]