تظللنا بعد أيام قليلة ذكرى يوليو الدامي ... وتطل مشاهد ماجرى من النميري وزمرته من دموية وظلم تجاه من ؟ تجاه الرفاق وأبناء الدفعة والأصدقاء الأعزاء .....وأرباب الفكر. للأسف تاريخنا السياسي يمتلئ بكثير من المآسي والآلام ..... سأقفذ بكم متجاوزا الكثير لنقف عند محطة محاكمات الشجرة الشهيرة... والتي حدثت في العام 1971م، بعد أيام من مذبحة بيت الضيافة. لا أود الحديث عن الملابسات ولا حيثيات مادار ...... إنما سأحاول تسليط الضوء على الجانب الإنساني والإجتماعي للحدث، ولطالما أرقني هذا الجانب بحسبان أن من راحوا ضحيتها هم رجال من أفضل وأكرم من أنجبتهم بطن حواء.....كما كان لهم زوجات وأبناء وبنات وأهل وأصدقاء فجعوا ولايزال البعض منهم يعاني حتى الآن... كان عبد الخالق محجوب شامة على وجه الامة، وكان الشفيع من حكماء بلادي.... وكان العسكر المقتولين من أرجل وأضكر ما جاد به رحم القوات المسلحة السودانية، ولازال رجال القوات المسلحة يذكرونهم بالخير كلما جاءت سيرة فاروق حمد الله وبابكر النور وهاشم العطا وأبو شيبة. كانت تربط بين أعضاء مجلس قيادة ثورة مايو علاقات قوية، ودائماً ماتكون العلاقة بين رفقاء السلاح من أقوى العلاقات وهي عقيدة يتلقونها من أيام التدريبات، العلاقة بين فاروق حمد الله وخالد حسن عباس كانت قوية جداً، وكثيراً ما يتقابلون في الأمسيات في منزل أحدهم لإحتساء الشاي والونسة. كان بابكر النور مقرباً جداً من النميري، لدرجة أن النميري وزوجته بثينة كانوا يتعبرون إبنة بابكر النور(هند) بمثابة بنت لهم وكانت تقضي معهم كثير من الوقت وتنام عندهم برضا وقبول من والدتها (الخنساء). ولم يرزق النميري بذرية طيلة حياته. أما هاشم العطا فقد كان رفيق الكل وصديق الكل. الصداقة هي من أسمى العلاقات وأجلّاها ... والسودانيون يجلون الصداقة والخوة، وعندما تمتد العلاقة نحو البيوت والأسر فإنها تخلق جداراً من الثقة والعطاء يصعب إختراقه... لكن للأسف إنهارت كل هذه المفاهيم في لحظة جنون متسرعة ونكّل الرفاق ببعضهم ولم تسلم حتى الأسر والنساء من بعض التجريح والإساءات..... وأخطرني الدكتور محمد سيف من كلية الموسيقى والدراما أن إبنة بابكر عوض الله (هنداً) ذهبت للنميري تستجديه في فك أسر أبوها علماً بأنها كانت تقضي كثير من وقتها ببيته كإبنة له إلا أنه قد أشاح عنها ورد عليها (تو ليت) ... أي أن الأمر قد قضي وتروي أنها إكتشفت بعد زمن أن النميري عندما قال لها تو ليت لم يكن أبوها قد أعدم...... ومن المفارقات انه حتى الآن يدور جدل كثيف حول حقيقة إشتراك الحزب الشيوعي السوداني في التخطيط لإنقلاب هاشم العطا .... وأجدني منحازاً لفكرة ان الحزب لم يخطط لذلك بل كانت محاولة جريئة من هاشم العطا الذي قلبها وقدم بابكر لقيادة الدولة. وبذلك يصبح معظم من تم إعدامهم ماتوا ظلماً ... ظلماً. صدر الحكم رمياً بالرصاص على كلٍ من بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا وعثمان أبو شيبة. ومن المواطنين صدر الحكم بإعدام عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق وهم كانوا من قادة الحزب الشيوعي السوداني القوي، ومن أبكار المثقفين ويشهد لهم جميع من عاشروهم بقوة الشخصية والإتزان وسماحة الخلق والذكاء. أُعدم عبد الخالق محجوب وكان له طفلان صغيران وترملت زوجته نعمات مالك. أُعدم الشفيع أحمد الشيخ وله أولاد وترملت زوجته فاطمة أحمد إبراهيم كما كان لهاشم العطا من الذرية ثلاث. لم يحظى المقبوض عليهم بأدنى الحقوق، وكان التعذيب يطالهم يومياً خاصة الشفيع أحمد الشيخ والذي يروى أنه جيئ به لحظة النطق بالحكم كأنما قد فارق الحياة من شدة مالاقاه من صنوف العذاب. أظهرت الصور خالد حسن عباس وهو في قمة غضبه يضرب (بالكف) على وجه صديقه فاروق حمد الله. أين ياترى إختبأت مشاعر الخوة والصداقة بينهم ليروعنا ما بدا من بغض وشحناء ؟ لعن الله السياسة ... لم يحظى المحكوم عليهم بمحاكمات عادلة كما لم ينالوا أي حق من الحقوق المكفولة لهم قانونياً، طغى حقد النميري وزمرته على قيمة العدل عندهم وكانت المحاكمات مهزلة ومسرحية سيئة الإخراج، وحتى بعد إعدام المحكومين لم تسلم جثامينهم لذويهم كما هو متبع، بل تم إخفاء مكان قبورهم عن أهاليهم ، ولا يزال أبناءهم حتى الآن لا يعلمون أين تم دفن آباءهم. علي أستعير عبارة محمد سيد حاج رحمه الله (الدين خلي ... رجالة مافي). البلد دي حقت منو ؟ عاشت أسر المحكوم عليه خارج السودان، ومسخت عليهم البلد ولا زال أبناءهم خارج القطر يرضعون العدالة والحق من ثدي أوروبا وأمريكا، تعلموا وإرتقوا وسيفيدون بعلمهم وذكاءهم الذي لا شك فيه (جينات الوالد) وإفتقدتهم بلادهم التي ظلمت أبواتهم. كل الحب والشوق والشهامة بين الأصدقاء إستحالت إلى مجرد كلمات كأنو ماعشناها ضمانا أحلى غرام. هذا والله لمن سئ العمل وسئ الفعل. أين ياترى إختفت المشاعر الحلوة بين الرفقاء والتى كانت بينهم ردحاً من الزمان لتطل هذه الكراهية الشديدة وتنطفئ نار العدل وتظلل الناس سحابات الظلم والطغيان العاتية، أليس منكم رجلٌ رشيد ؟ لهفي على أُسر الضحايا الكريمة التى عانت ماعانت طوال أيام المحاكمات وأتساءل كيف ياترى هو حال أبناءهم الآن وقد ظلمتهم البلد في أغلى الناس لديهم (الوالد). تخيل أيها القارئ أنك كنت مكان أحدهم ... كيف يكون الحال ؟ محاكمات الشجرة الظالمة نقطة سوداء في تاريخ السودان، ولم نسمع أنه رشح صوت من الدعاة أو القضاة أو الأحزاب السياسية في حينها مندداً بما يجري وبما تم. بريطانيا العظمى تكشف كل ثلاثون عاماً كثير من وثائقها التي تصنف بأنها سرية جداً ... اما آن الأوان للكشف عن مكان دفن الأبرياء حتى تتاح فرصة لذويهم لزيارة قبورهم والترحم عليهم. أليس هذا من أبسط الحقوق. [email protected]