حجّيتكم ما بجيّتكم خيرًا جانا وجاكم أكل عشاكم وجرى خلّاكم هكذا كانت تبتدر "حبّوبة" السهرة ونحن كواكب طفلة تتحلّق حول هالة "حُجاها".. نتنصّت بترقّب بريء يليق بنعومة أظفارنا.. نطلق أشرعة مخيلتنا فنرى عند الحافة "فاطنة السمحة" وهي تمشط شعرها بزيت "الكركار".. تحبس أنفاسنا "حجيّة" "الغول" النائم وعينه مفتوحة في تناسب عكسي فريد.. نتعاطف مع "أبو القردان/ خنفساء الروث" في ولهه بالقمر ورغبته العارمة في الزواج منه.. كانت قصصًا توقظ فينا حس الدهشة الغضة، والانحياز للخير في حربه الدائمة مع الشر.. وليس بمنأى عن ذلك ما خلّفه لنا الأديب الكبير وبديع زمانه عبد الله الطيب-حيّا وميّتا- في سفر القيّم "الأحاجي السودانية"، بما حواه من كمٍّ مقدرً من الحكايا الشعبية التي وصفها أستاذنا عجب الفيا بأنّها ذات صبغة أسطوريّة وشبيهة بحكايات وقصص "ألف ليلة وليلة" وحكايات "السندباد البحري" وغيرها. قبل أن يضيف الفيا لحديثه عن الأحاجي نوعًا آخر من الأحاجي السودانية وهي الألغاز، أو ما يُسمى في اللهجة العامية ب "الغَلوطيّة" أو "الغلوتية"، ومن هذا النوع، اللغز:" دخل القش وما قال كش" و "عمتي في ديوانا تاكل في مصرنا".. وغيرها. وطالما أدب الأحاجي قديم قِدم حضارتنا السودانية؛ فحري بها أن تكون ذات صبغة أسطوريّة، لاسيما إذا علمنا أنّ الأساطير كانت المهاد الأولى لما يُعرف بفن الحكايا الشعبية، ومن ثمّ فنّ القصة والرواية؛ ولا تخلو ثقافتنا السودانية من الأساطير ك "الحرازة والمطر" و" زواج أبو القردان من القمر" و" البعاتي" والأساطير النوبية القديمة ك "سحرة ناوا".. إلخ ولأنّ الواقع ينمّ عن "خطبٍ لِسانُ الحالِ فيهِ أبكَم"ُ كما يقول صفي الدين الحلي؛ ونعيش في زمان تُنحر فيه الثقافة على مذبح الرأسمالية الماديّة؛ فقد خسر مشروع "الحجّاي" القائم على توظيف الميديا في عكس موروثنا الحكائي الشفهي عبر وسائط تقنية حديثة؛ قبل عام ونيف فرصة التمويل في مسابقة مشروعي على شاشة قناة النيل الأزرق أمام مشروع "راندوك" الذي تدور فكرته الأساسيّة حول تصميم أزياء - زعمت صاحبتها بأنّها سودانيّة - تحمل لغة المحكي المتداول أوساط الشباب على شاكلة "أقطع وشك" "أصلي كيف" "دا الزيت"... إلخ وكأنّ هذه اللغة الدخيلة على لهجتنا العامية – بطبيعة الحال- هي أحق بالتسويق وتسليط الأضواء عليها أكثر من أدبنا الشفهي.. مع العلم أنّ مشروعًا كمشروع "الحجاي" لو قدّر له النجاح لأضاء كثيرًا من الجوانب المهمة في تاريخنا، ولنفحنا بعدد من العظات والعبر، ولغرس في نفوس أطفالنا والنشء معاني العراقة الهويّة والمواطنة، ولزرع فينا شعور الفخار بالانتماء إلى أمّة سودان كوش ونبتة والبجراوية ومملكة علوة.. ويمتد عمر حضارتها لأكثر من 10 آلاف سنة.. لم يرد "الحجاي" سوى أن يرفد عقولنا كبارا وصغارا بلمحات مشرقة من ماضينا عبر الانتقال من مشافهة النص المحكي إلى إنتاج أقاصيص تاريخية وتراثية في قالب وتقنية رقميّة جديدة تتضمن عناصر الصورة الملونة- والصوت- والحركة الإلكترونية كما في أفلام الكارتون.. أقاصيص تُعرّف بلدنا بشكل أفضل من نشرة الأخبار.. كان لديه حلم بأن يكتمل مشروع "أستوديو الحجاي" ليستدعي وفق رؤية بصرية وحركية جديدة سِيَر الملوك الأوائل، فيحضر ألارا، وكاشتا، وبعانخي، وشينكو، واسبلتا.. كان يحلم بأن نشاهد بطولات تهارقا وهو ينتصر في حربه ضد الفرس.. كان في خاطره أن "يُحجّينا" بالملك "أركوماني" ناقل العبادة من آمون إلى أباداماك.. عشر سنوات كاملة قضاها "الحجاي" محمد يحيى عاكفا على جمع المادة العلميّة لهذا المشروع، ومن ثمّ تبويبها، ومراجعة النصوص وتدقيقها وفق منهجيّة علميّة محايدة نأت بنفسها عن أية إسقاطات أيديولوجية أو عرقية؛ فالمادة المصورة من رسوم وأفلام كارتون تُخاطب الكل على حد سواء، ومبوّبة ضمن تصنيفات محددة راعت الشريحة العمرية حتى يكون للأطفال فيها نصيب، كما سيتم بثّها بلغة عربية وإنجليزية وفرنسيّة وبلهجات محليّة مختلفة.. لم يفت الأوان بعد فالحلم مازال شاخصا، وبقليل من الدعم وتضافر الجهود بإمكانه أن يصير واقعا.. هذه مناداة للوقوف جميعا خلف مشروع "الحجاي" بوصفه مشروعا قوميا كبيرا سيجعل أفئدة كثير من السودانيين تهوي إلى هذا التراث المشترك بعد أن فرّقتهم حروب الهامش وميكافيلية السياسة وعصبية القبيلة.. الحصاد قاب قوسين أو أدنى؛ فقط المشروع يحتاج في هذه المرحلة للنفير والمؤازرة المعنوية والمادية التي تمكنه من إنشاء أستوديو القصص المصورة بكامل تجهيزاته، بجانب أجهزة حاسوب بمواصفات محطة تصميم قرافيك عالية الجودة, وعدد من ألواح الرسم الرقمي.. نسوق الدعوة لكل فئات المجتمع من المهتمين بالقصص المصورة والمختصين والحادبين على تاريخ وتراث هذا الوطن بأن حيّ على بعث تاريخ رُماة الحدق باستخدام تقنيات العصر المرئية، فمن حق أطفالنا أن يشاهدوا أفلام كارتون هادفة، مستوحاة من صميم تراثنا الإنساني لا كما في فيلم ( (The lion kingحيث تسير (تالا) مع ابن عمها (سمبا) وهما صغيران إلى مقبرة الأفيال؛ وفي الطريق ينظر إليهما الطائر (زازو) معجبا بهما قائلا: "ياسلام عليكو لايقين لبعض" فيتساءلون: "يعني إيه"..؟ فيقول: "بكرة لما تصيروا كبار حتتجوزوا وتخلفوا أولاد"، وحين يسمع (سمبا) ذلك يكاد يصاب بالغثيان من فكرة الزواج فيقول: "أنا بكرة لما أحكم حألغي الفكرة دية" ليرد عليه الطائر قائلا: "ما تقدرش" فيرد (سمبا) بتحد: "بكرة بنشوف...". [email protected]