الدولة التي أقامها الترابي بعد أن وقف حائرا أمام أبنية الدولة المدنية الحديثة المتطورة التي تتجاوب وتتناغم مع درجة التطور الاجتماعي وحاجاته كانت دولة مجردة مثالية تخففت من كثير من الأحمال الاجتماعية وكان من الواجب عليها أن تكون جزءا من المجتمع ومن الدورة الاقتصادية والدورة السياسية , ولكنها انفصلت عنه وأصبحت نقيضة له . وكل دولة مجردة مثالية أي بلا وظائف اجتماعية وليست نابعة من إرادة سكانية لابد أن تكون دولة مستبد . ومن أشنع أفكاره التي تقدح في قدراته كسياسي شرب الدهر عليه وشرب في المضمار السوداني تعجله لفرض نظام فيدرالي داخل نظام استبدادي أيديولوجي مع أن الفيدرالية هي التعبير الأسمى للنظام الديمقراطي وهي المرحلة التي تتوج كل ثمراته من استقرار وقناعات بضرورة التبادل السلمي للسلطة والتقارب بين الحاكمين والمعارضين فكريا ومصلحيا ورغبتهم المتجذرة في الحفاظ على الدولة ونظامها , فكان نتيجة دولة الترابي الفيدرالية أن صارت الفيدرالية نفسها أداة سياسة في الصراع السياسي فقسمت المديريات القديمة لأقسام هدفها الحفاظ على سلطة الخرطوم وحمايتها من الدخلاء والمعارضين وكانت نتيجتها المحاصصات والترضيات القبلية والسياسية وتقسيم المديريات على أسس قبلية وعنصرية وجهوية وتسليح القبائل التي تحكم جغرافيتها كأنها دول منفصلة لا علاقة لها بالجيش القومي , فبدت الحكومة نفسها في ثياب التمرد الذي تحاول القضاء عليه , فنشأ الدعم السريع , والدفاع الشعبي , وهي كلها قوات حق أريد بها باطل تتمركز بعيدا عن القومية , وذات عقيدة جغرافية ضيقة لا تتسع لوطن ولا تتعرف على ملامح المواطنين عندما تتحرك بسيارات الدفع الرباعي والأسلحة الثقيلة والطيران , فترنحت دولة الترابي وكان مظهرها الفيدرالي العام يدل على التمزق أكثر من الوحدة وعلى الانقسام أكثر من تقصير الظل الإداري , فتفتت السلطة المركزية إلى وحدات غير مأمونة أصبحت أداة طيعة في يد الإملاءات والمؤامرات والفتن ولا علاقة لها بالوحدة المستقبلية و بالتنمية المنشودة اللصيقة بالموارد وحاجات المواطنين . الفيدرالية هي بغية كل مجتمع يريد أن يطور كل شيئ بداخله وأن يراقب ذاته , وأن يزيد في إنتاجه , وأن يفجر موارده ويحسن إدارتها , وأن يذوب السلطة السياسية داخل الحياة الاجتماعية والاقتصادية وداخل أحلام النساء والشباب والرجال ولكن الترابي كان متعجلا ومتسرعا في تطبيق نظام يحتاج لدعامات وممارسة ديمقراطية أولية ربما من أجل تفكيك السودان , فرأيناهم يتخلون عن الجنوب بسهولة ثعبان يتخلي عن جلده النافق , وسببت هذه السهولةصدمة لم يتعاف منها السودان ولم تتعرض للدراسة النفسية والاجتماعية الكافية حتى اليوم بحجج واهية من قبيل حجية الاستفتاء وضرورة الرعاية الدولية للسودان والانسجام الديني والسلالي بين المواطنين مع أن هناك نوعا من الانسجام الوطني الجنوبي قد حدث واستشري في شكل قناعات ووجدانات في كل بقعة في السودان , ومع أن الدولة الحديثة خلقت من أجل وحدة المختلفين وضم أكثر من نوع واحد ودين واحد وفكرة واحدة داخل المجتمع الذي يتحرك أحيانا داخل أحشاء الماضي واعتقاداته ونزواته , ومازال السودان حتى اليوم مختلفا لأن الاختلافات الحديثة أكثر من الوحدة الدينية الظاهرة بل وفي داخل الظاهرة الدينية نفسها في أي مكان في العالم وفي أي مرحلة في التاريخ حى في أزمان الأنبياء نجد الاختلافات والمذاهب والملل . الدولة الحديثة هي دولة من أجل تجاوز الماضي ولكن عند الترابي هي دولة من أجل بعثه وكان الثمن أن يضمحل السودان فيصير دولة حزب ومذهب وأن يقصر ظله فيصير دولة ملة وسلالة , أصغر بكثير من مثلث حمدي والذي عاجلا أم آجلا ستصل إليه جغرافية السودان ما لم تتداركه الأيدي والسياسات الجامعة التي توحد وتعترف بالتنوع والاختلاف. [email protected]