"ميتا" تهدد بوقف خدمات فيسبوك وإنستغرام في أكبر دولة إفريقية    بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعوة الإنقاذ لتكريم عبد الله علي إبراهيم .. زيتنا في بيتنا!
نشر في الراكوبة يوم 14 - 06 - 2016

في 29 مايو المنصرم وعلى صفحات "السوداني" و"سودانايل"، كتب السفير خالد موسى، داعياً لتكريم الدكتور عبد الله علي إبراهيم. وذلك تكريم واحتفاء من نظام الإنقاذ لا شك أن عبد الله أهل له وقمين به تماماً، لأن له في دعم الإنقاذ يد سلفت ودين مستحق.
مقال سعادة السفير، مقال منفصم الشخصية. جانب منه يكتبه الدكتور "جيكل" مخدراً القارئ بجرعات من التعبيرات التي توحي بالحيدة والموضوعية والبعد عن الهوى والغرض أو شبهة الميل أو الانحياز لموقف سياسي معين، وتلك بالطبع حيلة ماضية وفتاكة، إذ تعطي زخماً وقوة إضافية لما يتضمنه المقال من مقولات وحجج. وجانب آخر منه يكمن فيه السيد "هايد"، بخنجره المسموم، يذبح الحقائق، ويشوه الوقائع، ويمزق المنطق وطبيعة الأشياء تمزيقا. ولكن القراءة الفاحصة المتمعنة لا تنطلي عليها تلك الشيزوفرانيا، كما لا تفوت عليها التناقضات الصارخة التي يحاول سترها باللغة المفخمة، ولا التحليلات الذاتية التي يلبسها ثوب الوقائع الصلدة، أو التلفيق الذي يرتدي لبوس الحقائق الثابتة، بل ولا حتى التفاصيل الصغيرة التي تشي بحقيقة موقفه ومنطلقاته، لا كطرف متعال على الصراع السياسي في بلادنا، كما يدعي، وإنما كطرف أصيل في هذا الصراع، غائص حتى أخمص قدميه في أسوأ ممارساته. مما سنعرض لأمثلة منه في هذا المقال.
يدرك السفير أن دعوة لتكريم عبد الله علي إبراهيم تصدر هذه الأيام، ستفهم مباشرة بأنها تنطلق من موقع الخصومة واللدد لاحتفالية تكريم الدكتور منصور خالد. لذلك فهو يتحسب جيداً لهذا الأمر بهجوم استباقي جيد السبك والإعداد منذ الفقرة الأولى في مقاله، حيث يقول "أثارت سلسلة التكريم لبعض الشخصيات القومية التي اهتم بها ونشط فيها المجتمع المدني مؤخراً حفيظة بعض الكتاب والمراقبين، إذ احتجت بعض الأقلام المنسوبة للإسلام السياسي على تكريم الدكتور منصور خالد. وانتهت فصول تكريم منصور خالد رغم أصوات الاحتجاج في أبهى حلة" وهكذا، فإن السفير لا يحبط مشروع اتهامه بمناوأة تكريم منصور خالد أو يفرغه من مضمونه فحسب، وإنما يجعله تهمة يوجهها هو نفسه لأطراف أخرى مثل "بعض الكتاب والمراقبين" المجهولين! و"بعض الأقلام المنسوبة للإسلام السياسي"، أما السفير فهو غاية الرضا والابتهاج لأن "فصول تكريم منصور خالد انتهت في أبهى حلة"، وموتوا بغيظكم أيها الحساد. ولكن، إذا لم يكن الأمر كذلك، ولم يكن المقصود منه فعلاً إزالة آثار تكريم الدكتور منصور، فلم هذه العجلة في الدعوة لتكريم عبد الله علي إبراهيم، والتي استدعت السفير، المعروف عنه تمكثه في البحث والاستقصاء والإحاطة بكل جوانب موضوعه قبل الخوض فيه، للكتابة "من الذاكرة"، معرضاً مقاله "لهنات الرصد التاريخي"، أو كما قال.
تلك الفقرة الأولى التي أراد منها السفير إبعاد شبهة الكيد عن غرضه من تكريم عبد الله على إبراهيم، لا تنتهي قبل أن تفضح الموقف الحقيقي للسفير، لا من تكريم الدكتور منصور خالد، وإنما من منصور خالد نفسه، ومن "مجمل كسبه الثقافي والسياسي والفكري"، إذ يكتب "فكما تميز مشروع الشيخ الراحل حسن الترابي بلازمتي التجديد والتوحيد، فقد تميز أيضاً المشروع النقدي للدكتور منصور خالد بلازمتي الحداثة والوحدة الوطنية". أولاً، السياق الطبيعي هو أن السفير يكتب هنا عن إنجاز منصور خالد، فما هو دخل الراحل حسن الترابي في هذا الموضوع، حتى يتم حشره حشراً وإقحامه إقحاماً هكذا، ولماذا المقارنة أصلاً؟ ثانياً، وهذا هو مربط الفرس، هل هناك من إساءة يمكن أن توجه لمشروع الدكتور منصور خالد الفكري والثقافي والسياسي أو زراية به أسوأ من أن يعادل بمشروع الدكتور الترابي، بأي مستوى من المستويات وعلى أي صعيد من الصعد؟ هل يمكن، بحال من الأحوال، مساواة مشروع تنويري يقوم على الوعي وسيادة العقل والحداثة ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بمشروع يقوم على الظلامية والغيبوبة الفكرية والتخلف واحتقار البشر. إن هذه الفقرة، لا الكلام المغتغت عن "بعض الكتاب والمراقبين" و"الأقلام المنسوبة للإسلام السياسي" هي التي تعبر بصدق عن الموقف الحقيقي للسفير خالد موسى من تكريم منصور خالد وهي أيضاً، وفي ذات الوقت، تشكل أساس دعوته لتكريم عبد الله علي إبراهيم.
من غير المفهوم أن يدعي السفير خالد موسى الانشراح والابتهاج بتكريم منصور خالد، وفي ذات الوقت يدعو لتكريم عبد الله علي إبراهيم لاتخاذه مواقفاً و تبنيه أفكاراً تتناقض جذرياً مع أفكار ومواقف الدكتور منصور خالد. فمثلاً، لا يمكنك أن تزعم الرضا عن تكريم منصور خالد وانت تدعو لتكريم عبد الله على إبراهيم لأنه "اصطدم مع حزبه العتيد أثناء فترة الديمقراطية الثالثة وهو يخب الخطو إلى السفارة الألمانية محتجاً على دعوة جون قرنق ليخاطب البرلمان الألماني". لا يخالجني شك في أنه في الوقت الذي كان فيه عبد الله علي إبراهيم يتصبب عرقاً في شوارع الخرطوم قاصداً السفارة الألمانية، كان منصور خالد، في كامل أناقته، يجلس خالفاً رجليه على كرسي وثير في البوندستاج يستمع لكلمة الدكتور جون قرنق، فقد كان هو مستشاره السياسي وللعلاقات الخارجية، هذا إذا لم تكن تلك الدعوة ذاتها من ثمرات جهود الدكتور منصور خالد. وإذا كان السفير يرى أن خبب عبد الله ذاك هو من المواقف التي تستدعي تكريمه، فما هو وجه اختلافه إذن عن "بعض الكتاب والمراقبين" و"بعض الأقلام المنسوبة للإسلام السياسي" ممن اعتبروا منصوراً "مسانداً للتمرد ومتآمراً على السودان العربي المسلم"؟
ومن غير المفهوم أيضاً أن يكون السفير راضياً عن تكريم الدكتور منصور خالد، في ذات الوقت الذي يعتقد فيه "جازماً" أن الانحراف التاريخي والاستراتيجي في منهج الحزب الشيوعي قد جاء، من ضمن أسباب أخرى، بسبب انتقال الحزب "من التركيز على قضايا العمال والبوليتاريا (وردت هكذا) والعدالة الاجتماعية، إلى تبني قضايا الهامش السياسي والدخول في تحالفات مع الأقليات المغبونة وهي تحمل السلاح ضد السلطة المركزية." إن الموقف الذي ينعيه السفير خالد موسى على الحزب الشيوعي، أي "تبني قضايا الهامش السياسي والدخول في تحالفات مع الأقليات المغبونة وهي تحمل السلاح ضد السلطة المركزية" هو، وكما يعلم القاصي والداني ورجل الشارع العادي ومبتدئو السياسة في السودان، موقف الدكتور منصور خالد، لا موقف الحزب الشيوعي السوداني. وحتى إذا سلمنا جدلاً بأن الحزب الشيوعي قد تبنى مثل ذلك الموقف، وهو لم يفعل بشهادة الدكتور عبد الله علي إبراهيم نفسه (راجع كتاب "أصيل الماركسية" للدكتور عبد الله علي إبراهيم) فأيهما أولى بالتأنيب، الحزب الشيوعي الذي تبنى نظرياً قضايا الهامش ودخل في تحالفات مع الأقليات المغبونة، أم منصور خالد الذي انخرط شخصياً في الحركة السياسية المسلحة لتلك الأقليات ووضع كل خبرته وعلاقاته ومعارفه في خدمتها؟
ومن التفاصيل الصغيرة التي تشي بحقيقة موقف السفير، مثلاً، أنه حينما يذكر حل الحزب الشيوعي السوداني فهو لا يتحدث عن مؤامرة دبرت بليل ضد أسس الممارسة الديمقراطية، إنما عن "حل الحزب الشيوعي من داخل البرلمان"، في إيحاء بأن تلك المؤامرة إنما هي فعل ديمقراطي أصيل تم وفق الأصول الديمقراطية. وحينما تحدث السفير عن الانتصار لقضية المرأة، لم يكن من قبيل الصدفة أنه في كل مرة أورد اسم الدكتورة سعاد الفاتح، أورده أولاً مقدماً إياه على الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم والدكتورة خالدة زاهر، موحياً بأن تحرير المرأة في السودان إنما هو إنجاز يحسب أولاً للحركة الإسلامية، وأن اليسار لم يكن إلا تابعاً في ذلك، ويتأكد ذلك بقوله أنه "لم يجد في تاريخ السودان المعاصر من اهتم بتحرير المرأة بعد بابكر بدري مثل الزعيم والمفكر الراحل الدكتور حسن الترابي". أي تحرير للمرأة هذا الذي حطها إلى أسفل سافلين من الإهانة والاضطهاد والتحقير في عهد جماعة سعاد الفاتح ودولة الترابي ونظام السفير؟
إن "كسب" الدكتور عبد الله علي إبراهيم في الكيد لكافة قوى التقدم في السودان وفي تشويه مواقفها وفي ممالأة وخدمة الحركة الإسلامية وانقلاب الإنقاذ لا يحتاج إلى إضافة، بل هو ثابت وشاهق لا يخطئه الأرمد، ولكن السفير لا يكتفي بما لعبد الله من كسب لا ينافسه فيه أحد، وإنما يضيف إليه من خياله شططا. فحينما يعدد السفير مناقب عبد الله علي إبراهيم يذكر، مثلاً، أنه "قد استقى من تجربة الاختفاء والقرب من عبد الخالق معارف جديدة وهو يسهم في صياغة ومناقشة عدد من الوثائق الهامة منها وثائق المؤتمر الرابع وتجربة الخطأ في العمل الجماهيري" (والصحيح "إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري). المعروف أن عبد الله لم يشارك عبد الخالق الاختفاء ولا العمل تحت الأرض لأن عهد عبد الخالق بهذين النشاطين انتهى في يوليو 1971، بينما بدأ عبد الله تلك المغامرة في أعقاب ذلك التاريخ وبعد اغتيال الشهيد عبد الخالق. وعبد الله أيضاً لم يشارك في صياغة أي من الوثيقتين اللتين ذكرهما السفير، ولا أذكر أنه ادعى ذلك، فتلك وثائق معروف من صاغها من الألف إلى الياء. ثم يردد السفير افتراءات عبد الله بقوله "كما وقف على المراجعات العميقة التي أجراها الراحل عبد الخالق محجوب من قضية الدين"، وهي الافتراءات التي سبق أن وصفها الراحل الخاتم عدلان بالاغتيال المعنوي لعبد الخالق، وطالب عبد الله بأن يقيم عليها الدليل فلم يفعل حتى يومنا هذا.
يقول السفير أنه لم يعثر "على أي رواية موثقة تكشف ملابسات خروج البروفيسور عبد الله علي إبراهيم من الحزب الشيوعي"، ولكنه يستطرد أن عبد الله خرج "بعد أن استنفد طرق المراجعات الداخلية والاستقامة على النهج الماركسي". حسناً، إن لم تكن هناك رواية محددة، موثقة أو غير ذلك، فكيف عرف السفير أن عبد الله قد استنفد طرق المراجعات الداخلية؟ هذه مسألة لا تخضع للاستنتاجات، وإنما للوقائع، إما حدثت أو لم تحدث. أما مسألة "الاستقامة على النهج الماركسي" هذه فهي من اختصاصات الفتيا لدى سعادة السفير الانقاذي وليس بوسعنا منازعته فيها.
لقد أشار عبد الله علي إبراهيم بصورة معممة في عدد من المواقع (يمكن الرجوع لحواره التلفزيوني في برنامج "حتى تكتمل الصورة" والذي نشر لاحقاً في كتاب، وإلى مداخلات له على موقع "سودان فور أول" الإسفيري) لأسباب خروجه من الحزب الشيوعي السوداني مجملاً ذلك في دعوة له لم تجد استجابة من قيادة الحزب آنذاك للانخراط في ترتيبات ما سمي بالمصالحة الوطنية في عهد النميري، وبالتالي فإن قول السفير بأنه لم يعثر على رواية موثقة لخروج عبد الله من الحزب الشيوعي، لا يعني مطلقاً، كما يوحي المقال، بأن تلك الرواية ليست موجودة على الإطلاق. وحتى إذا سلمنا جدلاً بأن تلك الرواية ليست موجودة، فإن الطريق الأمثل والأسهل للرواية الموثقة هو الاتصال بعبدالله علي إبراهيم، الذي لا زال موجوداً بيننا حياً يرزق. ولكن بدلاً من هذا الطريق القويم السهل، فإن السفير ينطلق عامداَ متعمداً، متكبداً المشاق وراكباً الصعب، إلى ما أسماه "سياق الأحداث" ليفسر لنا أسباب الخروج بروايات من نسج خياله وعلى هواه.
ومن قبيل تلك الروايات التي حبكها السفير من "سياق الأحداث" عن استقالة عبد الله قوله أن انتقال القيادة بعد "إعدام" عبد الخالق "قد أحدث تحولات كبيرة في البنية الداخلية للحزب فصعدت وجوه جديدة تبنت منهجاً مغايراً عن الثقافة السائدة تحت قيادة عبد الخالق" وهذا غير صحيح على الإطلاق، لأن القيادة التي أعقبت الشهيد عبد الخالق كانت، جوهرياً، هي نفس القيادة التي تركها عبد الخالق، باستثناء من اغتيلوا معه، ولم تصعد لها أي وجوه ذات أثر في تركيبتها سواء فكرياً أو سياسياً أو تنظيمياً. ولربما لو كان هو تغيير ملموس واحد في تلك القيادة فقد تمثل ذلك في صعود عبد الله علي إبراهيم نفسه، لا غيره، للمراكز القيادية، وهو ما أشار إليه السفير في موقع آخر وهو يتحدث عن سيرة عبد الله في الحزب بقوله " ما هيأه للعب دور قيادي رفيع وهو يشرف على عمل المكتب الثقافي للحزب".
. وبالرغم من أن السفير يفسر الأمور، كما قال، من "سياق الأحداث"، إلا أنه يعتقد "جازماً" أن الحزب انتقل "من التركيز على قضايا العمال والبوليتاريا والعدالة الاجتماعية، إلى تبني قضايا الهامش السياسي والدخول في تحالفات مع الأقليات المغبونة وهي تحمل السلاح ضد السلطة المركزية." وليت الحزب فعل ذلك، فالسفير لا يعلم، أو ربما يتجاهل عن عمد، أن عدداً من أعضاء الحزب الشيوعي السوداني آنذاك استقالوا أو تركوا الحزب وذهبوا للالتحاق بالعمل المسلح لجماهير الهامش في الحركة الشعبية لتحرير السودان، فهل كانوا فعلوا ذلك لو كان الحزب قد تبنى فعلاً خطاً يقوم على التحالف مع جماهير الهامش في نضالها المسلح؟ وفي حقيقة الأمر، فإن من مآخذ عبد الله على الحزب، كما ذكر في مؤلفه "أصيل الماركسية" الذي أشرت إليه من قبل، تركيزه على "قضايا العمال والبوليتاريا"، أي الصراع الطبقي، إلى حد إغفال دور العرق وغيره من العوامل، وطمس تاريخه في العمل الثوري وسط العمال الزراعيين وجبال النوبة وفي الريف، واستعلائه على منظمة "نام" الماركسية الجنوبية "التي شخصت وضع السودان بأنه يعاني من الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني العربي". وإذا كان فيما أشرت إليه هنا ما قد يدفع السفير إلى التراجع عن دعوته لتكريم عبد الله، فأرجو أن يعذرني عبد الله على هذه "القوالة".
ويختم السفير تفسيراته الخيالية بالقول بأن الحزب الشيوعي أخرج "من جرابه التاريخي كل أدوات القمع المعنوي ضد الخارجين عليه أو المنشقين عنه .. وأزال الحزب اسمه من وثائقه التاريخية ومنع تطلعه الطبيعي بأن يكون المؤرخ الأول للحزب الشيوعي والحركة الماركسية في السودان". وأستطيع أن أقول "جازماً" بأنه ليس هناك من هراء أكثر من هذا لأنه ليس هناك عضو واحد خرج على أو انشق عن أو استقال من الحزب الشيوعي السوداني ووجد من التسامح بل والتدليل مثل ما وجده عبد الله علي إبراهيم. لقد كنت آنذاك عضواً في الحزب الشيوعي، ولا زلت أذكر التعميم الذي صدر من قيادة الحزب بأن الزميل عبد الله علي إبراهيم قد استقال من الحزب، وكفى، مع توجيه واضح بألا يتم التعرض له بأي صورة من الصور على الإطلاق. وقد استمر ذلك التوجيه سارياً إلى يومنا هذا، فلم يصدر عن الحزب أي موقف تجاه عبد الله، ومن تعرضوا له كانوا إما من "صغار الأحلام"، كما وصفهم سعادة السفير، أو ممن تركوا الحزب. فلم يحدث مطلقاً أن أخرج الحزب من "جرابه التاريخي" أو من أي جراب آخر أي أداة قمع، معنوي أو غير ذلك، ضد عبد الله. وعن إزالة اسم عبد الله من وثائق الحزب التاريخية، فهذه فرية ليس إلا، فوثائق الحزب الشيوعي أصلاً لا تحمل أسماء من كتبوها، لأنها ملك الحزب لا الأفراد، ووثائق الحزب الشيوعي السوداني التاريخية، فيما أعرف، جميعها مبذولة للعامة ويعاد طبعها كل آونة وأخرى ولم نسمع قط بإضافة اسم لها أو حذفه منها. أما عن منع عبد الله من أن يكون المؤرخ الأول للحزب الشيوعي والحركة الماركسية في السودان، فهذا تهريج لا أكثر ولا أقل، لأنه، وحسب علمي، لا يوجد مثل ذلك المنصب في هيكلية الحزب الشيوعي، ولا أعرف كيف يمكن للحزب أن يحظر على عبد الله أو أي شخص آخر أن يكون المؤرخ الأول للحركة الماركسية في السودان، بل وفي حقيقة الأمر، وسواء أراد الحزب أو لم يرد، فإن عبد الله قد نصب نفسه فعلاً كذلك. وإن شاء السفير معرفة المزيد عن موقف الحزب الشيوعي المتسامح إزاء عبد الله، فبوسعه المقارنة بين موقف الحزب من عبد الله الذي ما زال ينازع الحزب في ايديولوجيته ذاتها ويرى نفسه الماركسي القابض على جمر الماركسية التي هجرها الحزب، وموقف الحزب من الخاتم عدلان الذي لم يستقل من الحزب جهاراً نهاراً وبوضوح تام معلناً أسبابه وحيثياته فقط، وإنما أعلن تخليه الكامل عن الماركسية كنظرية للثورة الاجتماعية وتركها بقضها وقضيضها للحزب الشيوعي.
ختاماً، سواء أن كان هناك تكريم لمنصور خالد أو لم يكن، فإن عبد الله علي إبراهيم، كما ذكرنا في فاتحة هذا المقال، جدير بتكريم الإنقاذ وكل أقلام الإسلام السياسي له، فهو الذي خرج من دراسته عن كسب الترابي وفكره الحداثي من إسار التفكير الماركسي "بما ظلت تتجاهله قوى اليسار في السودان من أن الترابي ليس انتهازياً يتجر بالدين بل داعية للحداثة"، وهو الذي جعل شغله الشاغل نقد العقل السياسي "لليسار الجزافي، ووطن نفسه على أهمية عودة الوعي الماركسي لبقايا اليسار"، حتى إذا ما فاتهم ذلك الوعي، "وجاءت حكومة الإنقاذ" (لاحظ "جاءت" البريئة هذه) وقف عبد الله ومد لسانه لكل اليسار ،جزافياً وغير ذلك، وقال لهم مستهزئاً عبارته الشهيرة "عقرباً تطقكم"، ثم خب الخطو ليشارك في مؤتمر الحوار الوطني في بداية سني الإنقاذ. نعم لقد كتب عبد الله "الصراع بين المهدي والعلماء" ولكنه عاد لينتصر للقضاة الشرعيين وهم سلالة أولئك العلماء وورثتهم. ونعم كتب عبد الله "الماركسية ومسألة اللغة في السودان" ولكنه عاد مدافعاً شرساً عن هيمنة الثقافة العربية الإسلامية، فإن لم تكرمه الإنقاذ على كل هذا "البصق على التاريخ" فمن تكرم؟
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.