تقف التصريحات التي أدلى بها وزير خارجية جمهورية جنوب السودان دينج الوز لصحيفة الشرق الأوسط العدد 13706 بتاريخ 7 يونيو 2016 على النقيض تماما لممارسات سابقة له كوزير لخارجية السودان قبل الانفصال وهو يصول ويجول كيفما أتفق بل تعتبر بكل المقاييس انقلابا ب 180 درجة ..الرجل في عيون أكثر المراقبين حيادا وموضوعية لا يصنف كأكثر صقور الحركة الشعبية شراسة بل كان يتصدر أكثرها فجورا في الخصومة .. فهو احد الكوادر التي نهلت منذ أظافرها من فكر ومنهج الحركة الشعبية على يد الدكتور جون جرنق ..وليس أكثر دلالة على هذا المنحى مواقفه الشخصية وتصريحاته المربكة حينما كان يتقلد وزارة الخارجية أحد وزارات السيادة ويدوس بكلتا قدميه دون أن يرف له جفن مبدأ يعتبر العمود الفقري لعلم السياسة الدولية وهو إن السياسة الخارجية تعتبر امتدادا للسياسة الداخلية .فقد كان يغرد خارج سرب الحكومة التي كان يمثلها بتصريحات وآراء كانت تزلزل الأرض تحت أقدام مكتب الرئاسة .فكم مرة شوهد مسئولى الرئاسة وهم يتراكضون يمنة ويسرة في ارتباك تام نفيا لتصريحاته التي كانت تتعارض مع الثوابت الإنقاذية حينا وتفسيرا حينا آخر بأنها أسيء فهمها فيما ظل هو ثابتا على مواقفه كخميرة عكننة (ياجبل ما تهزك ريح ) .. كان يكتفي بتصريح مقتضب يفسر فيه مواقفه بأنها آرائه وقناعاته الشخصية بحكم انتمائه للحركة الشعبية .. (2) هذا الموقف رغم إرباكه يعتبر نتاجا طبيعيا أو تحصيل حاصل لشراكة بين حزبين متباعدين فكرا ومنهجا بعد الثرى عن الثريا ..وسنرى لاحقا كيف تواصلت تلك المشاهد الغريبة وقد اجتاحت المياه الجسور ليتم شطر لحم البلد الحي لنصفين على طريقة (أمسك لى واقطع ليك ) بتفاهم تام مع غلاة الإنقاذ ..تلك أياما خلت فماذا كانت النتائج ..الذين تحمسوا للانفصال في جنوب السودان وفي دوائر العالم الغربي تنفسوا الصعداء وذبحوا الذبائح من المهندس الطيب مصطفى .. (2) الغرب راهن على انطلاقة جديدة لجنوب السودان يجير لصالح التنمية والاستقرار كدولة علمانية متجانسة متماسكة قبل أن يسف التراب لاحقا ويكتشف كيف إن كل طموحاته التي بنى عليها الآمال العريضة كانت أحلام يقظة حينما انتهى الجنوب الى مسرح ومجزرة لحرب قبلية أكلت الأخضر واليابس ولم تترك للمجتمع الدولي خيارا آخر سوى فرض عقوبات على الإخوة الأعداء ريك مشار وسلفاكير بعد أن تحول الشعب الذي شارك في استفتاء الانفصال الى لاجئين وهاربين ..كل هذا تاريخ لم يجف بعد الحبر الذي كتبت به حروفه ..المؤلم أيضا إن الموقف رغم عودة مشار ضمن المصالحة التي تمت بعملية قيصرية لازال رابضا على بارود وقابلا للانفجار في أي لحظة .. (3) السيد الوزير في حواره مع الشرق الأوسط أيضا كشف عن طموحات جديدة بدراسة الانضمام للجامعة العربية وهو طلب لا غبار عليه فعلى الأقل هناك عربي جوبا الذي يجير لصالح الانضمام كما يقول الوزير سيما وان الجامعة تضم في عضويتها من لا يعرفون حتى عربي جوبا .. الانضمام للجامعة العربية يعتبر واعدا ومبشرا لجهة إخراج الجنوب من عزلته لفتح إمكانياته الزراعية والغابية والمعدنية للاستثمار العربي والخليجي تحديدا ولكن بشرط الاستفادة من تجربة السودان الذي حرمته قوانين الاستثمار المتضاربة والجبايات والضرائب والفساد عن توظيف واستثمار إمكانياته الاقتصادية لجذب رؤوس الأموال الخليجية بالصورة المثلى فهربت الى أثيوبيا والأرجنتين..إن الكثير سيكون مطلوبا من حكومة الجنوب لاجتثاث أوكار الفساد والمحسوبية الضاربة بجذورها في عصب النظام المالي ..المشهد العام في العلاقة بين الشمال والجنوب يصب لصالح مقومات الشراكة والتعاون والتنسيق ولا أعتقد هنا بوجود بلدين أكثر احتياجا لبعضهما البعض مثل الجنوب والشمال ..فالبلدان يندرجان في القائمة السوداء للقوى الكبرى ومؤسسات التمويل العالمية .. كما إن السودان يعتبر الأكثر تأهيلا وجاهزية لتلبية حاجيات السوق الجنوبي فيما يتعلق بالتجارة البينية مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة .. (4) سياسيا هناك نقاط ملتهبة تعكر صفو العلاقات الثنائية من أيبي الى مشاكل ترسيم الحدود الى المشاركة والتنسيق في دفع الديون المستحقة الى مشاكل النزوح وإفرازاتها .. كل ذلك يرشح البلدين للقيام بدور أكثر إيجابية للتكامل بدلا من استخدام الكروت لإيذاء بعضهما البعض سيما وهما يعرفان مواقع وجع الطرف الآخر ..وظلا خلال كل الفترات الماضية في صراع لعض الأصابع وكسر العظام طلبا للاستسلام ولكنهما لم يجنيا سوى الخراب والضياع والألم والحسرة ..الشمال يمكن أن يلعب دورا إطفائيا للوساطة بين مشار وسلفا كير كما إن الجنوب يمكن أن يوظف علاقاته مع الحركة الشعبية لنزع فتيل العداء وتقريب شقة الخلاف ..ولكن من كل التجارب السابقة فقد تعلمنا إن الهدوء الذي يخيم على علاقات البلدين هو الهدوء الذي يسبق العاصفة طالما كانت الألغام جاهزة والإرادة غائبة .لقد سئم المواطن جنوبا وشمالا من هذه المسرحية القميئة السمجة فهل هناك جديد أم إعادة لإنتاج الأزمات التي يقع في شباكها عادة مواطنون تائهون على وجوههم ومغلوبون على أمورهم وتفلت منها قيادات فاسدة تخبئ الجوازات الأجنبية في الجيوب الخلفية ؟ [email protected]