أنا حقيقة حزينٌ شخصياً لما آل إليه حال الدولة السودانية.. وإزداد حزني وكآبتي وأنا أشاهد الحلقتين الآخيرتين من برنامج شاهد علي العصر مع الدكتور حسن الترابي..فبعد ستين سنةً من الإستقلال لم يقدّر لهذا المواطن السوداني المسكين أن يهنأ ولو بعشر سنوات متواصلة من العيش الكريم المريح يشرب فيها الماء ويأكل الطعام بلا رهق..أطول هذه الحقب حكماً وإستتباباً للأمر وتفرداً بلا منازعة كان للإنقاذ..لقد إنحشد الشعب السوداني للإنقاذ كما لم ينحشد لسواها..ودان لها الأمر كما لم يدِن لسواها ومع هذا فلقد أوردت البلاد ما لم يوردها أتعس وأفشل الأنظمة التي حكمت السودان طوال ستين عاماً.. ما الذي حدث بالضبط؟ وأين يكمن الخلل؟ وأين تتجه البلاد والدولة مع هذا الوضع؟ هل يمكن عمل شئ؟ هل يكتفي الناس بالتفرج؟ هل الحكومة مستعدة للإستماع فعلاً؟؟!! أنّ أسوأ صورة إستطاعت أن ترسمها الحكومة للسودان أنه بلدٌ لا يمكن الوثوق به ولا التنبأ بما يفعل..وهذه بالضبط صورة المغشيّ عليه الذي لا يعلم إلي أين يسير.. تماماً كالذي يتخبطه الشيطان من المس !!... عدم الثقة في دولتنا هذا نراهُ من قبل المجتمع الدولي ومن قِبل الداخل كذلك.. فطوال فترة الإنقاذ أبرمت حكوماتها ما لا يحصي من الإتفاقات مع القوي السياسية كافةً ولكنها لم تفِ ولا بواحدة منها علي وجهه الأتم..!!!! الدكتور الراحل في حلقات شاهد علي العصر أراه يركّز دائماً وكثيراً علي نقطة أن فتنة السلطة والمال أوهنت كوادره وأضعفت أداءهم وأقعدت بأداء الدولة.. أنا لا أستطيع فهم هذه النقطة أبداً..إنّ للسودان تاريخاً طويلاً مع الإنقلابات ومن ثم الكوادر التي تتولي زمام الأمور من بعدها..إن نظام الحكم من بعد إنقلاب عبود مثلاً لا يمكن تسميته إلاّ بأنه كان نظاماً وطنياً طاهرا زاهدا علي الرغم مما شابه من قمع محدود وشمولية راشدة مقارنةً بالإنقاذ!! وكذلك الحال بالنسبة إلي نظام مايو..وكلنا كنا شهوداً علي هذه الفترة..فعلي الرغم من أنه كان نظاماً باطشاً وجباراً ودموياً -ولا يقل من الإنقاذ في ذلك- ولكنه كان نظيفاً وطاهراً في عمومه وحتي من إُتهم من رجاله بالفساد -كبهاء الدين إدريس مثلاً- لم يستطع القضاء أن يثبت شيئاً ذا بال من الفساد عليهم.. لماذا إذن يشكو الدكتور الترابي من العسكر ونزوعهم نحو الثراء الحرام والفساد عموماً ولم يكن ذلك طبعهم طوال الحقب الماضية التي حكموا فيها؟؟!! ما أعلمه أنّ للعسكر تربيةً عسكرية صارمة فيما يختص بأكل أموال العامة والعقوبة في أكل أموال السرايا والكتائب غالباً ما تكون الإعدام رمياً بالرصاص ناهيك عن أكل أموال الشعب عامةً وهذا ما جعلهم يحكمون ويخرجون من الحكم وهم فقراء..ونظاما عبود والنميري خير مثال.. لماذا إذن فسد عسكرُ الإنقاذ كما يقول الترابي؟! عندما جاءت الإنقاذ لا أقول تحمس كل الشعب السوداني لها ولكن أقول كثيرٌ منهم فعل، وكثيرٌ منهم تقبّلها علي الرغم من انها قد وأدت حكماً ديمقراطياً.. تقبلها الناس أو سكتوا عنها بأمل ان تستطيع ان تخطو بالبلاد نحو آفاق ارحب ولأجل ان تصنع وطناً يسع الجميع وفي الحلق -عند الكثيرين- غُصة علي الديمقراطية الوئيدة..(أنا شخصياً لا أؤيد أي إنقلاب ولوجاء بقيادة وليٍّ من الأولياء الصالحين)..قال الناس لا بأس ربما ينجحون فيما فشل فيه الآخرون..قالوا لا بأس طالما أنهم رفعوا شعاراتٍ طموحة وافقهم فيها كثيرٌ من الناس.. ما هي النتيجة الآن؟ ودون الدخول في تفاصيل السبع وعشرين سنة النتيجة هي فشل ماحق للدولة السودانية تمثل في كل مظاهر الحياة من تجزئة وظلم وقهر وحروب تأكل البلاد من أطرافها وجهوية مقيتة وقبلية بغيضة وفساد يزكم الانوف وتفسخ إداري وإسترزاق دولي وذوبان في الآخر وتبعية ذليلة وضحك علي العباد..والاهم من ذلك كله تلاشي من خريطة السودان أجزاء عزيزة وهناك أجزاء أخري في طريقها إلي التلاشي إذا ما سارت الأمور علي هذا المنوال.. أنا كلما أشاهد حلقات الراحل الشيخ الترابي في برنامج شاهد علي العصر تلجمني الدهشة ويستبد بي الأسي والحسرة.. فلقد إنمحت كل تلك الآمال المعقودة بالإنقاذ ومن زعيمها شخصياً إلي حصادٍ حصرم..ليس من أحد الآن يحترم دولتنا لا داخلياً ولا إقليميا ولا خارجيا.. وليس من احدٍ يصدقنا الآن لا هنا ولا هناك ولا في أي مكان..لقد اصبح السودان مُثلة و اصبحت الدولة أضحوكة وملطشة.. حدث هذا تحت سمع وبصر (وعجز) الشيخ الترابي كما يقول بعضمة لسانه...كان هذا قبل خمس سنوات حين سُجّلت الحلقات وحتي الآن..فماذا يا تري أهل السودان فاعلون؟؟!! بشير إدريس محمد.. أمريكا.. [email protected]