د. محمد محمد الأمين عبد الرازق قلنا في الحلقة الأولى إن عجلة التغيير تدور على محورين: الأول هو منهجية التربية في القاعدة ومدى فعاليتها في تغيير النفوس، والثاني هو نظام الحكم وقدرته على الاستجابة لمطالب الشعب.. وخلصنا إلى أننا عندما نتحدث عن ثورة التغيير لابد أن نستصحب هذين المحورين وما ينبغي أن نفصل بينهما.. وأكدنا أيضا ضرورة وجود فكرة للتغيير، وقلنا إن مجرد العمل على الخروج من النظام الشمولي نحو النظام الديمقراطي يعتبر فكرة للتغيير، لأن الأفكار لا تتلاقح بفعالية إلا في إطار دستور يكفل الحقوق الأساسية لجميع المواطنين على قدم المساواة، فالدستور لازمة من لوازم الحكم الديمقراطي لا ينفك عنه.. السؤال هو: لماذا كانت تجاربنا في ممارسة الديمقراطية فاشلة، مما جعل الانقلابات العسكرية تأتي بمثابة إنقاذ للبلاد، وتجد التأييد من الشعب!!؟؟ يمكننا أن نجد الإجابة في هذه الجزئية من مقابلة مجلة الجامعة للأستاذ محمود محمد طه، بتاريخ 4/1/1985م: (هل في العودة للتجربة البرلمانية معالجة لما يمر به السودان من أزمات؟ ج : هو في الحقيقة ما في تجربة برلمانية، ولم نمر بها في أي وقت، و لن نمر بها إذا تقوض نظام مايو الحالي علي سوئه!! فالأحزاب الطائفية كانت تضم المثقفين وكانوا على قيادة الأحزاب وبيجروا وراء قيادات الأحزاب لأنو السند الشعبي.. والنواب كانوا بيرشحوا من زعيم الطائفة، فأم كدادة مثلا يودوا ليها سياسي من هنا ما معروف.. ولاؤه للزعيم الطائفي والقيادة الطائفية.. يتحرك بإشارة!! وبالأغلبية الميكانيكية بيحملوا القرارت.. وهذا ما حصل في تجربتنا حتى تم تعديل الدستور وحل الحزب الشيوعي و إخراج نوابه من البرلمان وهم من خيرة النواب والمثقفين.. وأخرجوهم الناس اللي ما عندهم وزن ولا قيمة، إلا بإشارة زعيم الطائفية للتخلص من الشيوعيين.. ونحن قدمنا لمحكمة الردة لمعارضتنا حل الحزب الشيوعي.. وهذا ما حدث من داخل البرلمان حيث عدلت المادة 5/2 من الدستور والتي كانت تعطي المواطن حق التنظيم و حرية الرأي فأصبح ذلك محرما ، فلا يمكن أن تكون تلك حياة برلمانية بل خديعة مكشوفة!!).. انتهى.. وبتعديل دستور 56 المعدل 64، في مادة حرية الرأي والتنظيم، تقوض الدستور وتحولت التجربة من ممارسة للديمقراطية إلى دكتاتورية مدنية تصادر الحقوق الأساسية للمواطنين، وهكذا أجهضت الديمقراطية الثانية (64-69) حتى جاءت مايو بمثابة إنقاذ للبلاد!! هذا وقد شاهدنا كيف كانت الديمقراطية الثالثة، مسرحا للمكايدات الحزبية والمصالح الضيقة على حساب مصلحة الشعب، فقد تربع (السيدان) زعيما الطائفتين على سدة الحكم أحدهما في رئاسة مجلس السيادة والآخر رئاسة الوزراء.. ونحن أحزابنا ابتداء لم تنشأ على مذهبيات وإنما نشأت حول (الأسياد) في طائفتي الأنصار والختمية، من أجل الوصول إلى السلطة.. ولذلك كان برنامج كل طائفة على الدوام، هو ألا تنتصر الأخرى.. فالطائفية نقيض الديمقراطية، فبينما تقوم الديمقراطية على توعية الشعب وتحقيق مصالحه، فإن الطائفية تعمل على تجميد وعي الشعب لتكسب التبعية العمياء ومن ثم تحقق مصلحتها هي على حساب مصلحة الشعب.. وعندما قامت الإنقاذ، شرح السيد عمر البشير للرئيس حسني مبارك في أول زيارة له للسودان بعد الانقلاب، سوء الطائفية وكيف ضاعت حقوق الشعب تحت هيمنتها، ليبرر انقلابه، وضرب مثلا باتفاق كوكادام واتفاقية الميرغني، وكيف رفض كل حزب اتفاق الآخر بدون أي أسباب موضوعية، وقال إن السبب الوحيد هو أن الاتفاق المعين أتى من الحزب الآخر!! ثم ساق مبررا آخر هو أن كل الأحزاب والنقابات وحتى القوات النظامية كانت قد وقعت اتفاقية في ذكرى انقلاب عبود عام 1985م، فحواه أن تدخل جميع الفئات الموقعة في عصيان مدني بمجرد حدوث انقلاب عسكري، وأسموه ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، وانتهى إلى القول إن شيئا مما اتفقوا عليه لم يحدث عندما قمنا بالانقلاب الأمر الذي يدل على زهد الناس في التجربة الديمقراطية برمتها!! الحقيقة، إن سوء ممارستنا للديمقراطية عبر عنه السيد الشريف زين العابدين الهندي من داخل البرلمان عندما تحدث عن المكايدات والفساد، وانتهى إلى أن يقول: (الديمقراطية لو شالها "كلب" مافي زول بيقول ليهو "جر"!!)، وهذا ما حدث بالفعل فقد خطفها العساكر ولم يقل لهم أحد "جر".. لقد تغير هيكل السلطة من نظام ديمقراطي إلى حكم عسكري عام 89، بتخطيط وتنفيذ من الأخوان المسلمين الذين شاركوا في الديمقراطية الثالثة تحت اسم الجبهة الإسلامية وقد كان اسمهم في الثانية جبهة الميثاق الإسلامي، وحاليا المؤتمر الوطني فهم في كل تجربة يعدلون اللافتة لكن أفكارهم كانت على الدوام، شعارات دينية بلا محتوى روحي، وبرنامجهم الأساسي هو الاستيلاء على السلطة بأي سبيل، من أجل تحكيم الشريعة السلفية، فهم كانوا يظنون أن مجرد إعلان تحكيم الشريعة هو الحل النهائي لمشاكل البلاد، ولكن اتضح بعد التجربة أن إعلان الشريعة ما هو إلا غطاء لتغفيل الناس، لكي يتمكنوا من السلطة والمال وليس هناك أي محتوى روحي في ناحية التربية الدينية، وقد اعترف بذلك جميع قادتهم.. فقال الرئيس عمر البشير في خطاب المفاصلة عن د. الترابي أن منهجه في السلطة هو منهج فرعون، وتلى الآية التي أوردها القرآن في هذا الإطار على لسان فرعون: (ما أريكم إلا ما أرى)، وقال أحدهم من جانب الترابي: (الكنا قايلنو موسى لقيناهو فرعون)، وعن الفساد المؤسس قال أحدهم عبر الفضائيات بعد الانقسام الشهير عام 99: (عندما كنا سويا في السلطة لا فرق بين أموال الدولة وأموال الحركة الإسلامية!!) وقد قال الترابي: (لم أعد أؤمن بنظرية عدم التدخل في شئون الدول) في محاولة لاستدراج المجتمع الدولي ليضرب الانقاذ عسكريا ويزيلها من الوجود!! ومن أجل تمكين السلطة، فصلت الإنقاذ الكفاءات والخبرات الوطنية واستبدلتهم بعضويتها، ثم هيأت الأجواء بأفكارها الخاطئة لينفصل الجنوب، واستمرت الحروب تأكل المواطنين في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.. وقد وظفت أموال الدولة بصورة مبالغ فيها، للأمن والدفاع للحفاظ على السلطة، كما وظفت الثروة الوطنية في مجملها للتمكين، واستبيح المال العام من عضوية الأخوان المسلمين حتى انقسم الشعب إلى طبقتين، الأولى متخمة وقوامها قادة وعضوية المؤتمر الوطني، والثانية بقية الشعب وهي لا تجد الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وقد فقدت التعليم والعلاج والخدمات العامة.. هذا وقد اتجه الشباب نحو الهجرة إلى أي بلد هروبا من هذا الواقع المرير.. أسوأ من ذلك، صار المغتربون من أبناء الشعب لا يرغبون حتى في قضاء إجازاتهم بالبلاد، وذلك بسبب الحرج الذي يتعرضون له عندما يشاهدون معاناة أسرهم وأقربائهم، المؤلمة، وهم عاجزون عن تقديم عون لهم فقد اتسع الفتق على الرتق.. لقد ركزنا في هذا البحث على ضرورة استصحاب التربية الفردية وضرورة إيجاد فكرة التغيير من الإسلام، لكي نحقق تغييرا مأمون العواقب يمكننا من أن نقيم تجربة في الديمقراطية لا تنتكس، فالدين عنصر أساسي في تكوين الشعب ولا يمكن تجاوزه عندما نتحدث عن آليات التغيير.. فالفكرة التي في أذهان السلفيين عموما هي أن مشاكل مجتمعنا المعاصر يمكن أن ينهض بحلها نفس التشريع الذي حل مشاكل القران السابع الميلادي، ولذلك تجدهم يتحدثون عن تطبيق الشريعة من غير تطوير يجعلها فعالة في معالجة قضايا العصر، وهذا جهل كبير دفع ثمنه الشعب السوداني في تجربة الانقاذ.. لقد حذر الأستاذ محمود كثيرا، ومنذ عقود من الزمن، من خطورة الأفكار الخاطئة في الدعوة إلى الإسلام، ففي كلمة نشرت بجريدة ( أنباء السودان ) يوم 6/12/1958م جاء ما يلي: ( دعاة الفكرة الإسلامية في هذا البلد كثيرون، ولكنهم غير جادين، فهم لا يعكفون على الدرس والفكر، وإنما ينصرفون إلى الجماهير، يلهبون حماسهم، ويستغلون عواطفهم، ويجمعونهم حولهم بغية السير بهم، إلى ما يظنونه جهلا دستورا إسلاميا.. وهم إنما ينصرفون عن الدرس والفكر، ظنا منهم أن الفكرة الإسلامية موجودة ومبوبة ومفصلة، لا تحتاج إلى عمل مستأنف، ولا إلى رأي جديد.. فلست أريد أن أشق على أحد من دعاة الفكرة الإسلامية، فإن أكثرهم أصدقائي، ولكن لا بد أقرر أن في عملهم خطرا عظيما على الإسلام وعلى سلامة هذا البلد.. ثم يجب أن نعرف جيدا أن الإسلام بقدر ما هو قوة خلاقة خيرة إذا ما انبعث من معينه الصافي، واتصل بالعقول الحرة وأشعل فيها ثورته وانطلاقه، بقدر ما هو قوة هدامة اذا ما انبعث من كدورة النفوس الغثة، وأثار فيها سخائم التعصب والهوس.. فإذا ما قدر لدعاة الإسلام الذين أعرفهم جيدا، أن يطبقوا الدستور الاسلامى الذى يعرفونه هم، ويظنونه إسلاميا، لرجعوا بهذه البلاد خطوات عديدات إلى الوراء، ولأفقدوها حتى هذا التقدم البسيط، الذي حصلت عليه في عهود الاستعمار، ولبدا الإسلام على يديهم، كأنه حدود، وعقوبات، على نحو ما هو مطبق فى بعض البلاد الاسلامية ، ولكانوا بذلك نكبة على هذه البلاد، وعلى الدعوة الاسلامية أيضا ) .. انتهى.. هل نحن محتاجون إلى ثورة فكرية تصحح المعتقدات الدينية أم أن حل مشكلتنا يكمن في ثورة كأكتوبر وأبريل تطيح بالانقاذ، وتقيم مكانها تجربة ديمقراطية جديدة على العلمانية كما طرح الحزب الشيوعي في مؤتمره الصحفي الأخير حول الحوار الوطني!!؟؟