محمد خليفة، كادر حزب البعث والقحاتي السابق، يتكلم عن الحقيقة هذه الأيام وكأنه أفلاطون    الدوري الخيار الامثل    عائشة الماجدي تكتب: (جودات)    القوات المسلحة تصدر بيانا يفند أكاذيب المليشيا بالفاشر    اشادة من وزارة الخارجية بتقرير منظمة هيومان رايتس ووتش    أهلي جدة يكسر عقدة الشباب بريمونتادا مثيرة    الهلال يحسم لقب الدوري السعودي    الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته قوات الدعم السريع على الفاشر    المريخ يعود للتدريبات وابراهومة يركز على التهديف    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    مخرجو السينما المصرية    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى 33


بسم الله الرحمن الرحيم
لا يُولد إنسان بلا نرجسيَّة؛ ومعناها حبَّ النَّفس أو حبَّ الذَّات. ورحلة الإنسان من المهد إلى اللَّحد هي كيفية التَّعامل بذكاء مع هذه الطَّبيعة البشريَّة التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بغريزة البقاء والتي تُسبِّب نزاعاً نفسيَّاً دائماً للإنسان في كلِّ لحظة من حياته: " ‫لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ".
والنَّاس عندما تتحدَّث عن مكارم الأخلاق فإنَّها تتحدَّث عن طريقة إدارة الإنسان لهذه الطَّبيعة. فمثلاً إذا ما قلنا أنَّ فُلاناً كريم فنحن نعني أنَّه يعطي الآخرين ممَّا عنده بدلاً من إيثار نفسه فقط، أي أنَّه ليس أنانيَّاً وذلك يعني أنَّه قد روَّض طبيعته النَّرجسيَّة وقلَّل من غلوائها.
وإذا قلنا بأنَّ فلاناً شجاعٌ فنحن نعني أنَّه يخاطر بحياته من أجل مبدأ ما، حتى وإن كان ذلك المبدأ هو حقَّه في الحياة، ولا يهمَّه أن يُضحِّي بحياته في سبيل المبدأ ليضمن الحقَّ للآخرين، ولذلك فالشهداء في كلِّ مجتمع ودين هم أعلي النَّاس مرتبة، لأنَّهم لم يهتمُّوا لنرجسيَّتهم الطَّبيعيَّة ووصلوا درجة عالية من التَّحكُّم في مشاعرهم والنُّكران لذواتهم أدَّت لنفيها تماماً؛ وهو فعلٌ ضدَّ الطَّبيعة البشريَّة.
وينطبق هذا التَّصنيف للأخلاق عندما نتحدَّث عن رذائل الأخلاق؛ ونعني الإكثار من حبَّ النَّفس على حساب كلِّ شيء آخر.
ولا تظهر رذائل الأخلاق أو فضائلها إلا عند الشدائد التي تُميِّز النَّاس عن بعضها البعض ونجد قصائد المدح والذَّم في أفعال النَّاس التي تدُلُّ على أخلاقهم. فعندما تقول إنَّ فلاناً رذيل فقد يكون خائناً، أو طمَّاعاً، أو جباناً أو أيٍّ من الصفات الرَّذيلة الأخرى وإذا ما تتبَّعتها تجدها جميعاً تقود لدرجة النَّرجسيَّة اعتدالاً أو طُغياناً.
وعندما يقول المولي عزَّ وجلَّ: " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ؟ ‫وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ "، فالمعنيِّ أنَّ النَّاس يُدخلون في نار التَّجربة لتمحيصهم من الاستعمال السالب للنَّرجسيَّة وطغيانها، حتي يستقيم عود الإنسان على طريق الاستقامة.
وهو كما تُّدخل الذَّهب في النَّار لتُنقِّيه من الشوائب ولكن لا تأمل أن تُنقِّيه تماماً، وإلا لن تستطيع استخدامه لأنَّه يكون ليِّناً، والإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه حين يقول: "لا تكن ليِّناً فتُعصر ولا قاسياً فتُكسر"، فإنَّما يتحدَّث عن نفس هذا المفهوم.
والمولي عزَّ وجلَّ يُدخل بعض أمَّة محمَّدٍ صلَّي الله عليه وسلَّم نار جهنَّم لتنقيتها قبل أن يعتقها من النَّار فالذُنوب ما هي إلا طغيان النَّرجسيَّة. فالمعني أن يُطهِّرها من نرجسيَّتها ولكن لعلم المولي عزَّ وجلَّ بنرجسيَّة من خلق كطبيعة خلقها فيه، لم يُحمِّله فوق طاقته ورضي منه بالقليل، ولذلك خفَّض درجة النَّجاح، وأعطي الإنسان عدداً لا يُحصي من الفرص لينجح الامتحان وأعطاه الفرصة ليدخل الامتحان بكتب المُقرَّر، بل إنَّ المُراقب سيكون سعيداً بمساعدته إذا طلب ذلك، بل قد يُعطيك المولي مرتبة الشَّرف برغم الإسراف في الذُّنوب إذا ما أحسنت التَّوبة وأخلصت وأصلحت، ولكن برغم ذلك فأغلب النَّاس تسقط في الامتحان: " ‫وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ".
وهذا المفهوم يتردَّد في القرآن الكريم كثيراً حيث يرتبط معني الاستقامة أو الاستواء بوعي الإنسان باعوجاج طبيعته أصلاً ولزوم عمله لاسترداد استقامتها: " ‫أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى؟ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ؟"، ولذلك أقسم إبليس، لعنه الله، بعِزَّة الله سبحانه وتعالي على أن يُغوي الإنسان ولكنَّه استثني: " ‫قالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِين"، ويقعد له صراطه المستقيم: " ‫قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ"، إذ أنَّه عندما ييأس من غواية الإنسان من باب المعصية يأتيه من باب الطَّاعة.
وقوله سبحانه وتعالي: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"، وهذا ربط آخر بالاستقامة والتي لا تتمُّ إلا تبعاً لأمرِ الله، والتَّوبة تعني تقليم أظفار النِّرجسيَّة وتغيير وظيفتها بنفع النَّاس في الحياة الدُّنيا ليتمَّ لها النَّفع الدَّائم في الحياة العليا.
وهي عملية التَّنقية حتى لا تطغي مادَّة على أخري ولكن يكون هناك توازن. والنَّاس تفعل ذلك في حياتها فهي مثلاً تتنازل عن جزء من راتبها حتى تنال معاشاً في الكِبر، وبعض النَّاس لا يفعل ذلك وينتهي به الأمر عوزاً وألماً نفسيَّاً.
وما الدِّين في جوهره إلا تجارة تأمين للحياة بشروطٍ مُجزية لا تُقارن، وكلّ ما يطلبه المولي هو التَّنازل عن بعض أنانيَّتك؛ أي نرجسيَّتك وإشراك الآخرين في عطائه لك، وبذلك يُضاعف لك الأموال بل ويُعطيك فوق ذلك ما لم تحلم به: "‫مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".
وهو لا يسألك كلِّ مالك وإنَّما يسألك جزءاً ممَّا استخلفك فيه، لأنَّ النَّرجسيَّة تطغي إذا ما هُدِّدَت غريزة البقاء: "‫وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، ‫إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ"، والنَّفس البشريَّة تُفضِّل أن تُضحِّي بنفسها ولا تُضحِّي بمالها ولذلك قدَّم المولي عزَّ وجلَّ المال على النَّفس:
"‫إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، والمثل الشعبي يقول: "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق".
ويجب أن نلاحظ أنَّ بين النَّرجسيَّة والطَّاغوتيَّة علاقة حميمة وتناسب طردي، فكلَّما ازدادت النَّرجسيَّة ازداد طغيان الإنسان؛ والذي معناه ازدياد حبِّ النَّفس على حساب حبِّ الله وأوامره، وذلك بترك تزكيتها باستمرار، فهي يطغي فيها الفجور على التَّقوي طبيعة، وإذا لم يُنظِّفها الإنسان من الشوائب ويداوم عليها فلن تتَّزِن، ولهذا فُرضت الصلاة التي تنهي عن الفحشاء والمُنكر، أي تنهي عن رذائل الأخلاق وتجذب فضائل الأخلاق من قاع النَّفس البشريَّة للسَّطح.
ونلاحظ أيضاً ارتباط الطغيان بالغواية والبغي، فالطُّغيان حالة نفسيَّة شعوريَّة وتُسمَّي الهوى، وتعني تجاوز الحدّ وسيطرة الشعور على الإنسان نتيجة الغواية والتي هي حالة ذهنيَّة وتعني الحياد عن الحقِّ بتزيين الهوى وتؤدِّي للبغي والذي هو سلوك، وهو الجور والظلم والإكثار منه يقود للفساد وهي حالة الفوضى.
ويجب أن نلاحظ أنَّ تقسيمنا للنَّاس لثلاثة أنواع فيما يخُصُّ النَّرجسيَّة فهو من باب التَّبسيط وليس من باب الشُّمول حتى يفهم النَّاس المفهوم.
ودرجات النَّرجسيَّة تقع بين طرفيّ طيف أُفُقي مختلف الدَّرجات، فقد يكون الإنسان قريباً من بداية الطَّيف أو من نهايته، وليس هناك ثبات على حالة واحدة إنَّما هو حالة تذبذب متسمرّ وحيوي بين درجات الأطياف جميعاً حسب وعي الإنسان بما يدور في نفسه، وحسب الاستخدام المُبادر لأدوات التَّزكية للنَّفس وذلك تصديقاً لقول المولي عزَّ وجلَّ: " وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون".
ولذلك يقول المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم عن هذه المُبادرة بالأعمال الصَّالحة التي تُقاوم طُغيان النَّرجسيَّة: " ‫بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا".
وهذا يعكس النِّزاع أو الصِّراع النَّفسي الأزلي للإنسان وكيفيَّة انعكاس هذا النِّزاع على واقعه، فكلَّما ازداد النِّزاع النَّفسي بين طبائع النَّفس المُتشاكسة، كلَّما انعكس ذلك على واقعه نزاعاً فوضويَّاً إلا إذا استخدمت نفسه اللوَّامة ترياق الدِّين لمُعادلة سموم شرور النَّفس الأمَّارة بالسُّوء.
ونري الرَّبط المُباشر بين الفوضى الشَّاملة (فتَناً كقِطًعِ الليل المُظلم) وبين تذبذب الإيمان بين طرفيه (يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا) والسَّبب (يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) أي يُفضِّل الإشباع الفوري العاجل لرغباته على الإشباع الآجل، وهو دليل تغبيش الوعي بتزيين النَّفس والشيطان للهوى للعاجل على حساب الآجل بالأفكار التي تروق الإنسان لارتكاب المعصية أو للتَّقاعس عن الطَّاعة: " ‫قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" ، ولا يحدث هذا إلا في حالة الغفلة عن وجود الله سبحانه وتعالي. وهو يُنبِّه أنَّ الذي يتبع طبيعة نفسه بكلِّ شوائبها فلا يُزكِّيها فستظلُّ النَّرجسيَّة فيها طاغية.
وهذا الطَّيف الأفُقي للنَّرجسيَّة تتقاطع معه أطياف رأسيَّة بها طبائع أخري وتفاعلها عند تقاطعها مع بعضها البعض ومع سياق الزَّمان والمكان والأحداث هو الذي يؤدِّي للصِّفات التَّكوينيَّة الخاصَّة بكلِّ إنسان.
وإذا رجعنا لحديث المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم عن "شرار النَّاس" فنجد في الطَّبقة الثَّانية وصفاً يُعرِّفهم:
" ألا أُنبِّئكم بشرٍّ من ذلك؟ قالوا بلى.
قال: "الذين لا يُقيلون عثرةً، ولا يقبلون معذرةً، ولا يغفرون ذنباً".
وبعد أن تحدَّثنا عن الذين لا يُقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة وربطنا ذلك بطغيان النَّرجسيَّة والطَّاغوتيَّة في النَّفس فنتحدَّث عن عدم المغفرة والتي هي دليل على الحقد، والذي قد يؤدِّي للضَّرر والضِّرار إن كان للنَّفس أو للغير، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: "لا ضرر ولا ضرار".
وقد نبَّه المولي عزَّ وجلَّ لذلك، لأنَّ الحياة لا تستمر إذا لم يستطع النَّاس مسامحة الغير أو مسامحة أنفسهم، وضرب سبحانه وتعالي بنفسه مثلاً للمغفرة والتي هي قرينة الرَّحمة: " ‫لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".
وكذلك وصَّانا وحثَّنا على أن نعفو عمَّن ظلمنا: " وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ". ولا يأتل تعني ألا يحلف.
يقول هذا لسيدنا أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه في رجل فقير من المُهاجرين من أقربائه يُسمَّي مسطح بن أثاثة كان يُنفق ويتفضَّل عليه، وجازاه هذا الرَّجل باتِّهام ابنته السيَّدة عائشة رضي الله عنها في عرضها وشرفها.
أي لا يُمكن أن يكون الإنسان متضرِّراً أكثر من ذلك، ولا مُتألِّماً وغاضباً أكثر من ذلك. فماذا كان ردُّ سيدِّنا أبوبكر الصدِّيق رضي الله عنه صاحب البصيرة والفهم؟
"بلى، والله إنِّي أُحبُّ أن يغفر الله لي".
فالقوَّة الحقيقيَّة هي القدرة على المغفرة والرَّحمة، اللتان تنبعان من قلبٍ مؤمنٍ رقيقٍ، على الرَّغم من الظلم، وليست المقدرة على التَّشفِّي والانتقام.
فهو يُوضِّح الصلة بين مصلحتنا ومصلحة الآخرين، فإذا كان قلبك قاسياً لا يستطيع الصفح عن الآخرين بأن تكون بخيلاً فلا تنتظر ذلك من المولي عزَّ وجلَّ وتطلب كرمه، ولذلك ما تُحبُّه لنفسك يجب أن تُحبُّه للآخرين.
وفي حالات ظُلم سفاح القُربي بالتعدِّي الجنسي لأفراد العائلات مثلاً، خاصَّة من الكبار للصغار، والتي تكثر في بلاد الغرب والشرق، يجد الضَّحايا صعوبة شديدة في التَّعامل مع آثار الإساءة وتجاوزها طوال حياتهم.
فتملؤهم أحاسيس الغضب والرَّغبة في دمار مرتكب الجريمة، الذي غالباً ما يكون قد مات، فتسيطر عليهم فيُوجِّهون هذا الغضب لأنفسهم تعذيباً لها، أو تغييباً لها باستخدام الخمر والمخدِّرات، أو للمجتمع جريمةً وضرراً.
وحتى لو نجحت الضَّحيَّة في سجن المُجرم فإنَّها لن تستطع أن تتجاوز الأمر تماماً، ولا أن تُقفل بابه للأبد وتشفي من الألم النَّفسي لأنَّ الجُرم أكبر من العقاب.
وقد ظهرت مدرسة نفسانيَّة جديدة في أمريكا سمَّت نفسها "معهد المغفرة"، بعد فشل معظم مدارس العلاج النَّفساني في علاج هذه المجموعة من المرضي؛ وخاصَّة من كانت تجاربهم وحشيَّة، وحجَّتُها أنَّ الضَّحيَّة إذا لم يغفر لمثل هذا الشَّخص فإنَّ غضبه سيدمِّر حياته هو ولا يضرُّ المجرم، ونتيجة لذلك تتحوَّل الضَّحيَّة إلى مُسيئة لنفسها بتعذيبها لها.
وقد فطن المصطفي صلي الله عليه وسلم لهذا المعني وضرب لنا مثلاً في الغفران والسماح يوم فتح مكَّة حين قال لمن عذَّبوه وتآمروا على قتله، وأخرجوه من دياره، وحاربوه: "اذهبوا فأنتم الطُّلقاء"، والذي اتَّخذه نلسون مانديلا مثلاً يتطلَّع إليه صرَّح به ولام المسلمين على عدم الاقتداء به عند أوقات النِّزاع.
والسَّبب أنَّه عندما تصل الوحشيَّة لقمَّتها فلا يمكن لعقوبة مهما كانت حتى وإن صُلب المرء، أن تمحو آثارها، ولذلك الأفضل أن يسعي المرء لبرء جروحه في الحياة الدُّنيا أوَّلاً بأن ينتهي عن تعذيب نفسه بتذكُّر الماضي، والدِّين أنجع وسيلة للوصول لهذا الهدف وذلك بالرِّضا بالقضاء والقدر وترك العذاب الأمثل لله في الحياة الآخرة.
ولو كان هناك من سببٍ واحدٍ للإيمان بالآخرة لكان هذا، فمعظم الضَّحايا يقولون أنَّ المجرم نجا من العقاب لأنَّهم لا يؤمنون بعقاب آخر غير الدُّنيوي، فما قيمة الحياة إذا لم يكن هناك أملٌ في عدلٍ مُطلق إذا تعذَّر في هذه الحياة الدُّنيا؟
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي
د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.