إسحق أحمد فضل الله يكتب: (تعليل. ما يجري)    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    يرافقه وزير الصحة.. إبراهيم جابر يشهد احتفالات جامعة العلوم الصحية بعودة الدراسة واستقبال الطلاب الجدد    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    نوارة أبو محمد تقف على الأوضاع الأمنية بولاية سنار وتزور جامعة سنار    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى 16


بسم الله الرحمن الرحيم
الفوضى تحدث في عالم الإنسان الداخلي قبل أن تنعكس على عالمه الخارجي. والمولى عزّ وجلّ عندما خلق جسد الإنسان وبثَّ فيه من روحه تفاعل الاثنان وأنتجا النّفس التي فيها طبائع مختلفة متنازعة وهي التي أدّت إلى زلّة سيدنا آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنّة.
والجنّة أُعطيت له فضلاً بلا كسب، ونُزعت منه عدلاً بذنب، وسوف يدخلها فضلاً أيضاً ببعض كسب، لأنّ كسبه لا يُوفي ثمنها، ويُحرم منها عدلاً مرّة أخرى إذا اختار الضلالة على الهدى.
هذه الصفات أو الطبائع تخدم غرضاً واحداً وهو "الإشباع الفوري" للرغبات، وهو ما تُمثّله الحياة الدّنيا، أو الشجرة الخبيثة التي قربها وأكل منها بلا حاجة اتّباعاً للشهوات أو للزيادة نتيجة الطمع، بينما "الإشباع المتأخّر" للرغبات هو مقاومة الشهوات والأخذ منها بمقدار وبأمر سماح، أي بإذن، تغليباً لعطاء مُتأخِّر على عطاءٍ حاضر: " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا"، و " مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ".
وما الفلاح إلا في الوعي بأنّ الإشباع الفوري للرغبات لا يؤدّي إلا إلى خسائر ما لم يتم بإذن سماح، أي حلالاً طيبّاً وبدون إفراط، وأنّ العاقل من سعى للإشباع المتأخِّر لرغباته. فاللِّصُ قد يُخطّط ليسرق مالاً؛ لأنهّ لا صبر لديه على الفقر ويُريد غنىً عاجلاً، بينما فقير آخر يصبر على التعليم أو التجارة حتى يستطيع أن يكسب مالاً، فالأوّل اختار "الإشباع الفوري" لرغباته والثاني اختار "الإشباع المتأخّر" لرغباته وهكذا أمر الدّين فهو خيار بين "الإشباع الفوري" الزائل وغير المُقنّن في الدّنيا وبين "الإشباع المتأخّر" الدائم في الآخرة وصاحب العقل يُميّز ويختار وعليه تقع مسئولية القرار.
والمولى عزّ وجلّ أدرى بطبيعة خلقه: " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"، ولذلك يُخاطب في الإنسان هذه الطبائع لإغرائه وترغيبه لعمل الصالحات أو ترهيبه من عمل السيئات. ولأنّه يعلم أنّ هذه الصفات "أصيلة" في نفس الإنسان ولا مجال لتغييرها بصفات "دخيلة"، إلا بالجهاد النفسي والرياضة النفسانيّة، فهو يستخدمها كطُعم لاصطياد عبيده وعباده وإنقاذهم من بحار الظلمات إلى شاطئ الأنوار.
فالعبيد هم كلُّ خلق الله لأنّهم مقهورون بقضائه؛ فلا أحد منهم يملك حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، أمّا عباده فهم الذين اختاروا عبادته طوعاً وحبّاً ولكنّهم درجات، فالإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول: "إنّ قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة، فتلك عبادة التُّجار، وآخرون عبدوه محبّة وشكراً، فتلك عبادة الأحرار الأخيار".
فمثلاً يستخدم المولى عزّ وجلّ فينا طبع الطمع فيعِد النّاس بمضاعفة الثواب وبالجنّة ولا ينهاهم أن يطمعوا ولكنّه يُوجّههم للطمع الصحيح. وكذلك يستخدم طبع طلب المتعة فيعِد المؤمنين باللذات العديدة في الجنّة، أو يستخدم طبع الهرب من الألم فيخوّفهم بالنار.
وأيضاً يدلّهم على أفضل أنواع التجارة فيقايض بعض الطباع بثمن أكبر مثل إثابتهم بالفضل في مقابل التخلّي عن الظلم، وبالرفعة في الجنة في مقابل التخلّي عن الطغيان، وبالكسل في الجنّة وتحقيق كلِّ الأحلام بلا مجهود في مقابل النشاط في العبادة في الدنيا، والسلام في الجنّة في مقابل الخوف من الله فقط في الدّنيا.
وللنّفس طبائع غريزيّة لا يد له فيها تنشط تلقائيّاً ووظيفتها هي المدافعة عن غريزة البقاء إذا ما هُدِّدت، ولذلك فهي بطبعها أنانيّة لا تُفكِّر في أيّ شخص آخر إذا ما جُوبهت بتهديد لبقائها، ويحدث ذلك إن ظلّت على طبيعتها التي خلقها الله عليها بلا مجهود لتغييرها أو تزكيتها من شططها حيث يغلب الفجور على التقوى: " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿8﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿9﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا".
ولا يرغب المولى في "كمالية الهدف"، أي أن يسعى الإنسان لتنقية نفسه من كلِّ شائبة موجودة ولو صغيرة، فهذا المنهج لا يتماشى مع غريزة البقاء ويؤدِّي للتهلكة: "هلك المتنطِّعون"، وفيه مشقّة لا نفع لها وهو ما يسمّيه الفقهاء "الإفراط" في المجهود، أي مشادّة الدين، مثل الذي يصوم النّهار ويقوم الليل في كلِّ يومٍ وليلة، أو كتعذيب النّفس، مثل المريض أو كبير السنِّ الذي يصوم برغم ضعفه، كما لا يرغب المولى عزّ وجلّ في "التفريط" في أداء العمل وعدم تزكية النّفس فيتركها الإنسان على ما هي.
وقد ربط المولى عزّ وجلّ بين مفهوميِّ "التزكية" و"الفلاح"، والفلاح مأخوذ من فعل "الفلاحة" والتي جاءت منها كلمة الفلّاح الذي يفلح الأرض، ومعناه شقّها وتنظيفها لتكون جاهزة لبذر البذور وسقايتها.
فإذا كانت "النّفس" تُماثل "الأرض" التي خُلقت منها، فهي لا تخلو من شوائب، ولا هي مُمهّدة طبيعة للزراعة من غير مجهود، وإذا أراد الإنسان ثمرها فعليه فلاحتها ومعنى ذلك تنظيفها، ثمِّ شقّها، ثمّ بذر ما يُفيد وسقايته ورعايته حتى يحين أجل حصاده.
فالفلّاح لا يهدأ أبداً فهو في حركة دائبة يبدأ دورة مباشرة بعد أن تنتهي دورة، يراقب مزرعته ويحميها من المُفسدين، ويقلع الحشائش الضّارة وهكذا. فهذا حال الإنسان يتعهّد نفسه بالذكر والعمل الصالح لا يفتر.
ولذلك يتبع الفلاح ثلاثة مراحل هي التخطيط للموسم بتحضير البذور والسماد والماء وأدوات الحراثة والزراعة واختيار الفصول وتأكيد الأيدي العاملة، ثمَّ يدخل في مرحلة العمل أو التنفيذ حتى الحصاد، ثمَّ يدخل إلى مرحلة المراجعة والتخطيط للموسم الثاني بناءً على التجربة السابقة. فإذا كان قد زرع فاكهة طماطم وكان سعرها متدنّياً فقد يزرع بصلاً في الدّورة التَّالية.
وليس المطلوب من المزارع أن يُزيل كلّ شائبة في أرض مزرعته قبل أن يبدأ الزراعة، ولكنّه أيضاً غير مُتوقّع منه أن يغرس فيها أشجاره كما هي بلا مجهود. فالأوّل "وسوسة" كمالي والثاني "كسل" طويل أمل.
فما هي الصفات التي يجب على الإنسان إزالتها من أرض نفسه وما هي الصفات التي يجب عليه غرسها؟
الإنسان لم يكن في بؤرة وعيه صفاته السالبة حتى أثارها إبليس في نفسه وأوّلها الطمع، وثانيها الخوف من الفقد؛ إن كان فقداً للحياة أو لمعينات الحياة. فالطمع هو حبُّ الاستزادة من المرغوب المُشتهى، وأشهى المرغوب للإنسان هو الممنوع، أمّا الخوف من الفقد فهو خوف ضياع الموجود.
وقد رأيت ابني وهو يحضّر لامتحان الجامعة، وهو ليس بقارئ للكتب غير المدرسيّة، يتناول كتاباً بعد كتاب من مكتبتي ويقرأه، برغم من أنّني نهيته، بدلاً من قراءة كتبه المدرسيّة التي منها امتحانه، وبمجرَّد أن خلُص من امتحاناته رجع كما كان. فهذا مثال لشجرة الجنّة الممنوعة المرغوبة حتى وإن لم يكن فيها فائدة ولا تُورث إلا ضرراً. لقد فضّل "إشباعاً فوريّاً" لرغبة على "إشباعٍ مُتأخِّر" لرغبة إحراز نتائج ممتازة لأنّه لا ذكاء عاطفيّ لديه يجعله يري أولويّاته فيصبر على مشقّة "أمر التكليف" تعلّم العلم، فخالف "أمر النهي" بلا تقرب الكتب غير المدرسيّة من أجل متعة وما السّبب في ذلك إلا الغفلة ولكن الإبصار سوف يأتي يوم نتيجة الامتحان فيكتوي بنار الدرجات غير المُشرِّفة التي سوف يحرزها.
وكفاية الإنسان من المرغوبات لا نهاية لها ما لم يضع لها سقفاً ولذلك فقد كان الهدى النّبويِّ الكريم: "حسب ابن آدم بضع لقيمات يُقمن صلبه"، فليس المعني بهذه اللقيمات هو الطعام فقط وإنّما كلّ ما يُقيم أود الإنسان ويُغطّي حاجاته من ملبس ومسكن ومال، وفي وصايا المصطفي صلوات الله وسلامه عليه: "تبنونَ ما لا تسكنونَ، وتجمعونَ ما لا تأكلونَ، وتؤمِّلونَ ما لا تُدرِكونَ".
والمولى عزّ وجلّ لخّص لنا هذين المعنيين في الآيتين التاليتين:
"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"
وفي الآية:
"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".
والقناعة بالموجود هو سنام الحكمة، ولو أنّ سيدنا آدم عليه السلام اكتفى بما عنده ولم تزغ عينه للممنوع لكان يرفل في النّعيم إلى هذا اليوم. وإذا أراد الإنسان شيئاً إضافيّاً يظنّه ذا فائدة له فلا يُحكّم نفسه للحكم على قيمة الشيء ونفعه وإنّما يردّه لله، فالله سبحانه وتعالى قريب يُجيب دعوة الداع إذا دعاه فإن كان فيه خيره يسّره له في هذه الدّنيا وإن كان فيه ضرره ادّخره له ليوم المعاد.
وهكذا نرى أنّ طبيعة الإنسان لم تتغيّر فما يزال يشتهي الممنوع فالمتزوّج يرغب زوجة أخري أو يشتهي زوجة غيره، وصاحب المنزل يريد منزلاً أكبر وواحداً آخر وهكذا.
فالشجرة كانت تُمثّل الحياة الدّنيا وزينتها للإنسان، وكان الامتحان هو تجنّبها، ولمّا لم يفلح حُرم من النّعيم المقيم، ولكن لاعتذاره وفضل الله سبحانه وتعالى أُعطي فرصة أخري؛ وهو في عُرفنا ما يُعرف بالملحق أي فرصة الجلوس للامتحان مرّة أخري بعد الرسوب الأوّل، ولا يزال الامتحان هو نفس الامتحان، وإن كان قد أُذن لنا أن نأخذ من شجرة الحياة الدنيا ما يكفينا لا غير؛ إذ لا مورد آخر مُتاح لنا: "إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ".
فهذا نهر الحياة الدّنيا من لم يأخذ منه إلا ما يضمن غريزة البقاء لتُعينه في عبادة المولى عزّ وجلّ سيعود لنهر الحياة العليا الخالد الذي فقده بجهله وطمعه وأمّا: "مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".
وبرغم تعدّد الصفات السالبة في الإنسان إلا أنّ لها مراتب مختلفة بعضها أصيلة تُمثّل الجذور والبعض الآخر انعكاس للأصيلة تمثّل الفروع والصفق. وسوف نتحدّث بالتفصيل عن أنواع وطبقات الصفات الطيّبة والمتعادلة والخبيثة في وقت لاحقٍ إن أذن الله سبحانه وتعالى حتى نُبيِّن كيف أنّ النّفس تتجاذبها طباع مختلفة وكيفية خلق التّوازن ومن ثَمَّ النظام وتجنّب الفوضى.
ولنضرب مثلاً لتقريب المعني بأعمق الصفات السالبة تجذُّراً في الإنسان ألا وهو الشح الذي تنبت عليه بقيّة الصفات الخبيثة.
والشحُّ في رأينا هو أوّل الصفات الخبيثة أو الحشائش الضارّة التي يجب إزالتها من أرض النّفس، وهو أسّ الشرّ ولذلك قرن بينه المولى عزّ وجلّ وبين الفلاح فقال: " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"، وقد كرّر هذه الآية في سورتين تأكيداً لأهميّته النّفسيّة. ففي سورة الحشر ربط هذه الصفة في سياق حسن استقبال الأنصار للمهاجرين والإنفاق عليهم محبّة وإيثاراً:
"والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".
أمّا في سورة التغابن فقد كانت في سياق الإنفاق العام والذي ارتبط بمفهوم آخر وهو إقراض المولى عزّ وجلّ ومضاعفة المردود وفيه نكتة طريفة وهي أنّ الربا يحلُّ من المعبود للعبد ولكن لا يحلّ بين العبد والعبد:
"فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ".
وقد فهم الصحابة هذا الترتيب فهماً عميقاً فقد رؤي سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يطوف بالبيت ويقول: "رب قني شح نفسي! رب قني شح نفسي! لا يزيد على ذلك، فقيل له في هذا؟ فقال: إذا وُقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزنِ، ولم أفعل".
والشحُّ لغةً هو المنع والحرص ولكن فقهاً، كما يقول الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه: "الشحُّ هو ألا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله، فإنَّ الله ينهى عن الظلم ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم وينهى عن الإحسان".
ويقول أيضاً رحمه الله: "فالشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه؛ والظلمَ بأخذ مال الغير، ويوجب قطيعةَ الرحم، ويوجب الحسد"، ويقول في موضع آخر: "والشح يكون في الرجل مع الحرص وقوة الرغبة في المال، وبغضٍ للغير وظلمٍ له، كما قال تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت،ِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}، فشحَّهم على المؤمنين وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه وقطيعته كالحسد؛ فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته كابني آدم وإخوة يوسف".
وعندما نقرأ في كتاب الله الكريم: " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ"، نرى نرجسيّة الإنسان الحقّة العارية بلا رتوش، حيث يغلب شُحّه وحبُّ النّفس على غيرها من النّفوس مهما كان قربها ومودّتها.
وذلك يعنى أنّ الإنسان في حالة حرب دائمة مع طبائع نفسه، وتنازع بين مختلف أهوائها ومتطلّباتها وإذا ما غاب عنه علم الأولويّات فهو في جُهدٍ جهيد وفوضى مدمّرة.
وليتأمّل القارئ الكريم والقارئة الكريمة في ذات أنفسهم وليروا كيف أنّ شُحَّ نفوسهم هو المُحرِّك الأساس في كلّ تصرّفاتهم إذعاناً له أو محاربة له.
فمثلاً خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّي لم يكن وراءه إلا الشحّ، واستئثار البعض بالسلطة لا يقف خلفه إلا الشح، وتبخيس النّاس أشياءهم والتعالي عليهم لا يدُعّهم إليه إلا الشح. فطبع واحدٌ له من التأثير على قرار المريء ما لا تستطيع عوامل كثيرة من فعله وهي تصير بمثابة خادمة له تزيده قوّةً أو بمثابة جنود للمريء تحاربه لتُضعفه.
وسوف نتحدّث عن علم الأولويّات وعن أنواع النّفس وطبائعها بالتفصيل إن إذِن الله سبحانه وتعالى لنري كيف تتفاعل وتُنتج لنا نظاماً أو فوضى.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالى.
++++
ودمتم لأبي سلمي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.