عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    اهلي جدة الاهلي السعودي الأهلي    أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى 27


بسم الله الرحمن الرحيم
يلزم المرء الذي يريد أن يفلح ويكتسب المقدرة ليقود سيَّارته، إن كانت المصنوعة من المعدن، أو سيَّارة حياته التي وهبها له المولي عزَّ وجلَّ، ثلاثة أشياء وهي: المعرفة، والمهارة، والخبرة، ولكن هل يكفي ذلك؟
لا أحسب أنَّ أحداً منَّا يقود سيَّارة لا يعرف عن المتطلَّبات المُضافة لقيادة السيَّارات، والتي لا غنى عنها والتي نجدها بكلِّ اللُّغات معروضةً في الشوارع: "القيادة فنٌّ وذوقٌ وأخلاق".
فهذه ليست من "قوانين المرور"، ولا يحتاجها إنسان ليستطيع تعلُّم القيادة وقيادة السيَّارة، أو اجتياز الامتحان، أو الحصول على مهارة وخبرة كافية، ولكن هل يمكن أن تنتظم حركة المرور فعلاً بغيرها؟
أو بمعني آخر هل يمكن فصل القانون عن الأخلاق؟
هذه الثُّنائيِّة في الفكر الإنساني على مدي القرون أقعدته لأنَّها نقلت الأسئلة من عمليَّة الفعل الحيويَّة إلى المغالطة عن أهمِّيَّة المفاهيم نفسها أو صحَّتها.
فمثلاً يحتجُّ البعض بالانفصال التَّام لبعض المفاهيم، التي لا مجال أصلاً لانفصالها لترابطها العضوي والوظيفي، مثل مفهومي العقل والجسد، أو القانون والأخلاق، بدلاً من النَّظر إليهما كطرفيّ مفهوم واحد وهو سلوك الإنسان. وقد تناقص دور هذا المنهج الاختزالي منذ نهايات القرن المنصرم وحلَّ مكانه المنهج التَّكاملي.
ولهذا يمكن أن نتحدَّث عن بداية المفهوم وعن نهايته، رأسيَّاً وأُفقيِّاً، حيث يمكن أن تتقاطع المفاهيم مع بعضها البعض، بدلاً عن الحديث عن الأهمِّية، ويجب أن التَّنبيه إلى أنَّ هذه البداية لا تنتهي بالوصول للنِّهاية، بل هي دورة لا تقف أبداً إذ ما إن تنتهي إلا وتبدأ من جديد: "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ"، وفي الحديث الشريف: "أنت الأوَّلُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظَّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء".
فهنا أربعة مفاهيم تقع على طرفي نقيض رأسيِّاً وأفقيَّاً وتتقاطع في نفس الوقت.
وبهذا المعني فإنَّ القانون هو الوجه الآخر لعملة واحدة يقابله في الوجه الآخر الأخلاق؛ والتي هي البداية والقانون انعكاس لها، بدليل أنَّ كلَّ القوانين سوف تُعلَّق بعد الحكم النِّهائي يوم القيامة، فمن في الجنَّة لا قوانين تلاحقه، فليس فيها حرام أو أمر غير مسموح به، وليس فيها أمر تكليف ولكن فيها أمر سماح للاستمتاع بها، وهو العبادة التي يرضي بها ساكنها ويشكر عليها امتناناً لا أمراً.
وحين دخول الجنَّة كلَّ الأسباب التي قد تقود إلى اختلال نظام الحياة تنعدم، فلا فوضى بعدها وإنَّما غاية النِّظام وهو السلام النَّفسي، لأنَّ أصحاب الجنَّة قاوموا فوضى نفوسهم في الحياة الدُّنيا وصفُّوها من أدرانها ووصلوا للسلام النَّفسي وكثيراً ما نسمع أنَّ هذا الشخص متصالح مع نفسه: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى".
فطبيعة الإنسان سوف تتغيَّر في الجنَّة فلا يمرض ولا يضعف، ولا يهرم ولا يموت، ولا يُخرج فضلات كما في الحياة الدُّنيا ولكن يرشح مسكاً، وفي الحديث الشريف: "لا يبولون، ولا يتغوَّطون، ولا يتفلون، ولا يتمخَّطون، أمشاطهم الذَّهب، ورشحهم المسك".
وذلك يعني أنَّ الذين لم يقاوموا شرور أنفسهم فموردهم النَّار حيث قمَّة الفوضى وهي أشدَّ العذاب بلا موت ولا نهاية.
ودليل أنَّ القانون والأخلاق وجهان لعملة واحدة لا يقوم واحد بدون الآخر قول المولي عزَّ وجلَّ في مسألة خلاف الزَّوجين:
" ‫وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا".
فالقانون هو مبدأ التَّحكيم، والأخلاق هو مبدأ النِّيَّة فلا يُمكن أن يتم حل للشقاق إلا إذا كانت نيَّة الأطراف هي الإصلاح، فقد يتَّخذ الزوج فرصة التَّحكيم لإثبات خطأ زوجته، أو ليفضحها أمام النَّاس حتى يُثبت أنَّه أفضل منها، ويكون هذا هو غرضه الأساس من طلب أو قبول التَّحكيم.
أو قد يكون غرضه أن يعتذر لها لخطأٍ ما ويُريد من الحكمين أن يوصلا اعتذاره لأنَّها في حالة غضب شديد ورفضت أن تسمع منه.
والإصلاح في منهج الإسلام يحتكم لمرجعيَّة الإسلام كلّها لا الانتقاء منه كما يوافق هوي المرء: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".
ولأنَّ ما في القلب لا يعلمه إلا الله والإنسان نفسه فالصدق هو المُنجى من حالة الفوضى إذ أنَّ الفوضى لم تنشأ إلا من حالة الغشَّ.
إذن التَّوفيق يعتمد على نيَّة الأطراف، والنِّيَّة محلُّها القلب وهو مقر الأخلاق: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".
وانظر إلى تمازج القانون بالأخلاق في مسألة الطلاق:
‫"وإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ".
فأتي الله سبحانه وتعالي بمفهوم العدل وهو في تقرير الحقوق، ولكنَّه أعلي من مكانة الفضل على مكانة العدل وربطها بالتَّقوي، والتي ربطها بكلِّ فوز في الحياة الدُّنيا والحياة العليا:
"‫وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا".
فالقانون هو توخِّي العدل، ولكنَّ العدل نفسه هو قيمة أخلاقيَّة، والأخلاق هي توخِّي الفضل وهو أسمي، ولذلك يعاقبنا الله عدلاً، ويثيبنا فضلاً، وفي ذلك يقول المصطفي صلي الله عليه وسلَّم في الحديث القُدسيِّ في حساب العابد الذي عبد الله خمسمائة عام وطلب أن يُدخل الجنَّة بعمله:
"أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي ". فَيَقُولُ: بَلْ بِعَمَلِي. فَيَقُولُ: " أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي ". فَيَقُولُ: بَلْ بِعَمَلِي. فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: " أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي ". فَيَقُولُ: بَلْ بِعَمَلِي. فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: " قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَعَمَلِهِ ". فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، وَبَقِيَتْ نِعَمُ الْجَسَدِ فَضْلا عَلَيْهِ. فَيَقُولُ: " أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ ". قَالَ: فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: " رُدُّوهُ". فَيُرَدُّ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَيَقُولُ: " عَبْدِي مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ " فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: " أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكَ أَمْ بِرَحْمَتِي؟ " فَيَقُولُ: بَلْ بِرَحْمَتِكَ. فَيَقُولُ: " مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ؟ " فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: " مَنْ أَثْبَتَ لَكَ جَبَلا وَسْطَ اللُجَّةِ، وَأَخْرَجَ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَقْبِضَكَ سَاجِدًا فَفَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ؟ " . فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ. قَالَ: " ذَلِكَ بِرَحْمَتِي، وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي "
ونلاحظ أنَّ المولي يقول للعبد الصالح: "أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي " ثلاثة مرَّات، ثُمَّ في الرابعة يطلب أن يُحاسب بعمله، والسبب كما قلنا من قبل أنَّ الصدفة تنتفي بعد المرَّة الثالثة فيثبت الإصرار، ولذلك لا يفضح الله المؤمن إلا بعد الثالثة لأنَّه انتقل من الغفلة إلى الإصرار.
والإنسان الطَّيِّب لا يرتكب جريمة أصلاً وإن فعل فليس إصراراً ولا إضراراً، ولذلك القانون هو سيف مسلَّط على رقاب البشر لا يُفعَّل إلا إذا خُرق.
لكنَّ برغم صدور القانون من الله سبحانه وتعالي والذي سمَّاه الشريعة، طلب منَّا استخدام روح التشريع وسمَّاها المقاصد أو الحكمة، وسمَّي الحكمة الخير الكثير وهي تمام الأخلاق وهي الغرض الأساس من الدِّين.
إذن نستطيع أن نستخلص من هذا التَّأمُّل أنَّ الإنسان يحتاج إلى معرفة ومهارة وخبرة ليعيش، ولكنَّه يحتاج أكثر للسلوك أو الأخلاق الطّيبة ليحيا حياة طيِّبة فيها سلام، أي توازن نفسي مع التوازن الكوني، فالأخلاق مثل الشحم الذي يمنع الاحتكاك في إطار السيَّارات ويمنع الحريق.
فالحياة تكون ملتهبة وقاسية بغير الأخلاق، وهي قيم التسامح والفضل والمغفرة والإيثار والتَّضحية والمحبَّة وما شابه، وإلا فإنَّها تكون غير مُحتملة أو غير مرغوب فيها أصلاً. وهي قد تنال ثواباً في الحياة الدُّنيا مثل الذين تُكرِّمهم الدَّولة أو المجتمع ولكنها حتماً لن تنال ثواباً عظيماً في الآخرة إلا إذا كانت النِّيَّة فيها خالصة لوجه الله:
"إنّ أَوّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتّىَ اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلََكِنّكَ تَعَلّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قارئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ وَسّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلََكِنّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ، ثُمّ أُلْقِيَ فِي النّارِ".
وهذا يختلف عن الإنسان الصالح الذي لا يسعي لحمد وشكر النَّاس ولكنَّه يأتيه تلقائيَّاً ففي الحديث الشريف:
" قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ).
تخيَّل أنَّك تملك كلَّ مقوِّمات المعيشة من مأكلٍ وملبسٍ ومأوي ومركبٍ ولكن لا أحد يكلِّمك بلطفٍ، أو يُخفِّف من وحدتك، أو يعودك إن كنت مريضاً أو يواسيك إن أصابتك مصيبة فَقْدٍ فكيف تكون الحياة؟
فالقانون لا يستطيع أن يُجبر أحداً حتى على برِّ والديه ولكنَّه قد يُجبره على الإنفاق عليهما كُرهاً، ولكن الأخلاق وحدها التي تفعل ذلك حُبَّاً وكرامةً. ولذلك قال المولي عزَّ وجلَّ عن مصاحبة الوالدين الضَّالين أن تكون بالمعروف وهو أمرٌ لا تدخل فيه أمور القلب من محبَّة ورغبة.
وهذا هو سرُّ خلق الجنِّ والإنس، فالمولي لا يُريد عبادة أحدٍ كرهاً وقسراً ولكن يُريدها حُبَّاً ورغبةً وهو مقام الرِّضا الذي لا يفوقه إلا مقام الشُّكر، فمعني "ليعبدون" هو عبادة اختيار ومحبَّة ورغبة:" ‫فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ".
والقانون أيضاً لا يُجبرك على حبِّ شخصٍ ما، أو إكرام أحدٍ ما، أو التَّضحية ولكن هناك قانون يُجبرك على احترام حقوق الآخرين.
إذن القانون لا يكفل لك أيٍّ من هذه الأشياء ولا يعاقبك إن لم تقم بها أو يكافئك إن قمت بها.
ولكن الدِّين يكفلها ويعاقب ويكافئ عليها، وهذه هي مكارم الأخلاق التي جاء المصطفي صلي الله عليه وسلَّم لإكمالها: "‫إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق".
بل ربط بين الإيمان وحسن الخلق ووضَّح من الشخص الأولي لتلقِّي هذا الخلق الطَّيِّب وهو الزَّوجة، ولم يقل ذلك عبثاً، فالفوضى تبدأ في نفوس الأطفال الذين يتعرَّضون للعنف، أو للمعاملة القاسية، أو للحرمان، أو لعدم الاستقرار في أُسرهم: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا"، وفي حديث آخر يقول المصطفي صلي الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"، فشمل الأطفال مع الزوجة.
ويولد معظم الطُّغاة من هذه الأُسر برغم أنَّ الإفراط في التَّدليل يؤدِّي لنفس النَّتيجة، وتوضِّح الآية: " وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً"، فالمقصود ليس المال فقط وإنَّما كلُّ شيء يستطيع الإنسان إنفاقه إن كان عاطفةً، أو رعايةً، أو مجهوداً فالتَّوسُّط مطلوب:
"إنَّ لجسدك عليك حقَّاً، ولربِّك عليك حقَّاً، ولأهلك عليك حقَاً، فأعط كلِّ ذي حقٍّ حقَّه"، ولطبيعة الخلق دور:" ‫وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا".
ولذلك فالطاغية ممَّن قدَّر الله هلاكه، يؤثر الحياة الدُّنيا وإن ادَّعي غير ذلك:
" فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى"، ولذلك فلا قانون يوقفه ولا أخلاق تمنعه، فإنَّه لا أخلاق مع الطغيان وإن ادَّعي الطاغية غير ذلك من صلاحٍ ودين فالطغيان، حسب تأكيد المولي عزَّ وجلَّ، قرين الكفر.
فلينظر الإنسان إلى خاصَّة نفسه فإن رأي فيها تزكية وقيمة تزيد عن بقيَّة الخلق مهما يكن مرجعه، فليعلم أنَّه امتطي ظهر الطغيان.
وسنعود لهذا الموضوع إن شاء الله سبحانه وتعالي عندما نتحدَّث عن الشخصيَّة الأيديلوجيِّة.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي
د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.