نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    السجن والغرامة على متعاون مع القوات المتمردة بالأبيض    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الفوز بهدفين.. ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد في كأس العالم للأندية    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    الحكم بسجن مرتكبي جريمة شنق فينيسيوس    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    عملية اختطاف خطيرة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    شاهد بالفيديو.. ظهر بحالة يرثى لها.. الفنان المثير للجدل سجاد بحري يؤكد خروجه من السجن وعودته للسودان عبر بورتسودان    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى 27


بسم الله الرحمن الرحيم
يلزم المرء الذي يريد أن يفلح ويكتسب المقدرة ليقود سيَّارته، إن كانت المصنوعة من المعدن، أو سيَّارة حياته التي وهبها له المولي عزَّ وجلَّ، ثلاثة أشياء وهي: المعرفة، والمهارة، والخبرة، ولكن هل يكفي ذلك؟
لا أحسب أنَّ أحداً منَّا يقود سيَّارة لا يعرف عن المتطلَّبات المُضافة لقيادة السيَّارات، والتي لا غنى عنها والتي نجدها بكلِّ اللُّغات معروضةً في الشوارع: "القيادة فنٌّ وذوقٌ وأخلاق".
فهذه ليست من "قوانين المرور"، ولا يحتاجها إنسان ليستطيع تعلُّم القيادة وقيادة السيَّارة، أو اجتياز الامتحان، أو الحصول على مهارة وخبرة كافية، ولكن هل يمكن أن تنتظم حركة المرور فعلاً بغيرها؟
أو بمعني آخر هل يمكن فصل القانون عن الأخلاق؟
هذه الثُّنائيِّة في الفكر الإنساني على مدي القرون أقعدته لأنَّها نقلت الأسئلة من عمليَّة الفعل الحيويَّة إلى المغالطة عن أهمِّيَّة المفاهيم نفسها أو صحَّتها.
فمثلاً يحتجُّ البعض بالانفصال التَّام لبعض المفاهيم، التي لا مجال أصلاً لانفصالها لترابطها العضوي والوظيفي، مثل مفهومي العقل والجسد، أو القانون والأخلاق، بدلاً من النَّظر إليهما كطرفيّ مفهوم واحد وهو سلوك الإنسان. وقد تناقص دور هذا المنهج الاختزالي منذ نهايات القرن المنصرم وحلَّ مكانه المنهج التَّكاملي.
ولهذا يمكن أن نتحدَّث عن بداية المفهوم وعن نهايته، رأسيَّاً وأُفقيِّاً، حيث يمكن أن تتقاطع المفاهيم مع بعضها البعض، بدلاً عن الحديث عن الأهمِّية، ويجب أن التَّنبيه إلى أنَّ هذه البداية لا تنتهي بالوصول للنِّهاية، بل هي دورة لا تقف أبداً إذ ما إن تنتهي إلا وتبدأ من جديد: "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ"، وفي الحديث الشريف: "أنت الأوَّلُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظَّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء".
فهنا أربعة مفاهيم تقع على طرفي نقيض رأسيِّاً وأفقيَّاً وتتقاطع في نفس الوقت.
وبهذا المعني فإنَّ القانون هو الوجه الآخر لعملة واحدة يقابله في الوجه الآخر الأخلاق؛ والتي هي البداية والقانون انعكاس لها، بدليل أنَّ كلَّ القوانين سوف تُعلَّق بعد الحكم النِّهائي يوم القيامة، فمن في الجنَّة لا قوانين تلاحقه، فليس فيها حرام أو أمر غير مسموح به، وليس فيها أمر تكليف ولكن فيها أمر سماح للاستمتاع بها، وهو العبادة التي يرضي بها ساكنها ويشكر عليها امتناناً لا أمراً.
وحين دخول الجنَّة كلَّ الأسباب التي قد تقود إلى اختلال نظام الحياة تنعدم، فلا فوضى بعدها وإنَّما غاية النِّظام وهو السلام النَّفسي، لأنَّ أصحاب الجنَّة قاوموا فوضى نفوسهم في الحياة الدُّنيا وصفُّوها من أدرانها ووصلوا للسلام النَّفسي وكثيراً ما نسمع أنَّ هذا الشخص متصالح مع نفسه: " وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى".
فطبيعة الإنسان سوف تتغيَّر في الجنَّة فلا يمرض ولا يضعف، ولا يهرم ولا يموت، ولا يُخرج فضلات كما في الحياة الدُّنيا ولكن يرشح مسكاً، وفي الحديث الشريف: "لا يبولون، ولا يتغوَّطون، ولا يتفلون، ولا يتمخَّطون، أمشاطهم الذَّهب، ورشحهم المسك".
وذلك يعني أنَّ الذين لم يقاوموا شرور أنفسهم فموردهم النَّار حيث قمَّة الفوضى وهي أشدَّ العذاب بلا موت ولا نهاية.
ودليل أنَّ القانون والأخلاق وجهان لعملة واحدة لا يقوم واحد بدون الآخر قول المولي عزَّ وجلَّ في مسألة خلاف الزَّوجين:
" ‫وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا".
فالقانون هو مبدأ التَّحكيم، والأخلاق هو مبدأ النِّيَّة فلا يُمكن أن يتم حل للشقاق إلا إذا كانت نيَّة الأطراف هي الإصلاح، فقد يتَّخذ الزوج فرصة التَّحكيم لإثبات خطأ زوجته، أو ليفضحها أمام النَّاس حتى يُثبت أنَّه أفضل منها، ويكون هذا هو غرضه الأساس من طلب أو قبول التَّحكيم.
أو قد يكون غرضه أن يعتذر لها لخطأٍ ما ويُريد من الحكمين أن يوصلا اعتذاره لأنَّها في حالة غضب شديد ورفضت أن تسمع منه.
والإصلاح في منهج الإسلام يحتكم لمرجعيَّة الإسلام كلّها لا الانتقاء منه كما يوافق هوي المرء: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".
ولأنَّ ما في القلب لا يعلمه إلا الله والإنسان نفسه فالصدق هو المُنجى من حالة الفوضى إذ أنَّ الفوضى لم تنشأ إلا من حالة الغشَّ.
إذن التَّوفيق يعتمد على نيَّة الأطراف، والنِّيَّة محلُّها القلب وهو مقر الأخلاق: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".
وانظر إلى تمازج القانون بالأخلاق في مسألة الطلاق:
‫"وإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ".
فأتي الله سبحانه وتعالي بمفهوم العدل وهو في تقرير الحقوق، ولكنَّه أعلي من مكانة الفضل على مكانة العدل وربطها بالتَّقوي، والتي ربطها بكلِّ فوز في الحياة الدُّنيا والحياة العليا:
"‫وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا".
فالقانون هو توخِّي العدل، ولكنَّ العدل نفسه هو قيمة أخلاقيَّة، والأخلاق هي توخِّي الفضل وهو أسمي، ولذلك يعاقبنا الله عدلاً، ويثيبنا فضلاً، وفي ذلك يقول المصطفي صلي الله عليه وسلَّم في الحديث القُدسيِّ في حساب العابد الذي عبد الله خمسمائة عام وطلب أن يُدخل الجنَّة بعمله:
"أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي ". فَيَقُولُ: بَلْ بِعَمَلِي. فَيَقُولُ: " أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي ". فَيَقُولُ: بَلْ بِعَمَلِي. فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: " أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي ". فَيَقُولُ: بَلْ بِعَمَلِي. فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: " قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَعَمَلِهِ ". فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، وَبَقِيَتْ نِعَمُ الْجَسَدِ فَضْلا عَلَيْهِ. فَيَقُولُ: " أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ ". قَالَ: فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: " رُدُّوهُ". فَيُرَدُّ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَيَقُولُ: " عَبْدِي مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ " فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: " أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكَ أَمْ بِرَحْمَتِي؟ " فَيَقُولُ: بَلْ بِرَحْمَتِكَ. فَيَقُولُ: " مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ؟ " فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: " مَنْ أَثْبَتَ لَكَ جَبَلا وَسْطَ اللُجَّةِ، وَأَخْرَجَ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَقْبِضَكَ سَاجِدًا فَفَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ؟ " . فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ. قَالَ: " ذَلِكَ بِرَحْمَتِي، وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي "
ونلاحظ أنَّ المولي يقول للعبد الصالح: "أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي " ثلاثة مرَّات، ثُمَّ في الرابعة يطلب أن يُحاسب بعمله، والسبب كما قلنا من قبل أنَّ الصدفة تنتفي بعد المرَّة الثالثة فيثبت الإصرار، ولذلك لا يفضح الله المؤمن إلا بعد الثالثة لأنَّه انتقل من الغفلة إلى الإصرار.
والإنسان الطَّيِّب لا يرتكب جريمة أصلاً وإن فعل فليس إصراراً ولا إضراراً، ولذلك القانون هو سيف مسلَّط على رقاب البشر لا يُفعَّل إلا إذا خُرق.
لكنَّ برغم صدور القانون من الله سبحانه وتعالي والذي سمَّاه الشريعة، طلب منَّا استخدام روح التشريع وسمَّاها المقاصد أو الحكمة، وسمَّي الحكمة الخير الكثير وهي تمام الأخلاق وهي الغرض الأساس من الدِّين.
إذن نستطيع أن نستخلص من هذا التَّأمُّل أنَّ الإنسان يحتاج إلى معرفة ومهارة وخبرة ليعيش، ولكنَّه يحتاج أكثر للسلوك أو الأخلاق الطّيبة ليحيا حياة طيِّبة فيها سلام، أي توازن نفسي مع التوازن الكوني، فالأخلاق مثل الشحم الذي يمنع الاحتكاك في إطار السيَّارات ويمنع الحريق.
فالحياة تكون ملتهبة وقاسية بغير الأخلاق، وهي قيم التسامح والفضل والمغفرة والإيثار والتَّضحية والمحبَّة وما شابه، وإلا فإنَّها تكون غير مُحتملة أو غير مرغوب فيها أصلاً. وهي قد تنال ثواباً في الحياة الدُّنيا مثل الذين تُكرِّمهم الدَّولة أو المجتمع ولكنها حتماً لن تنال ثواباً عظيماً في الآخرة إلا إذا كانت النِّيَّة فيها خالصة لوجه الله:
"إنّ أَوّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتّىَ اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلّمْتُ العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلََكِنّكَ تَعَلّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قارئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ وَسّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلََكِنّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ، ثُمّ أُلْقِيَ فِي النّارِ".
وهذا يختلف عن الإنسان الصالح الذي لا يسعي لحمد وشكر النَّاس ولكنَّه يأتيه تلقائيَّاً ففي الحديث الشريف:
" قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ).
تخيَّل أنَّك تملك كلَّ مقوِّمات المعيشة من مأكلٍ وملبسٍ ومأوي ومركبٍ ولكن لا أحد يكلِّمك بلطفٍ، أو يُخفِّف من وحدتك، أو يعودك إن كنت مريضاً أو يواسيك إن أصابتك مصيبة فَقْدٍ فكيف تكون الحياة؟
فالقانون لا يستطيع أن يُجبر أحداً حتى على برِّ والديه ولكنَّه قد يُجبره على الإنفاق عليهما كُرهاً، ولكن الأخلاق وحدها التي تفعل ذلك حُبَّاً وكرامةً. ولذلك قال المولي عزَّ وجلَّ عن مصاحبة الوالدين الضَّالين أن تكون بالمعروف وهو أمرٌ لا تدخل فيه أمور القلب من محبَّة ورغبة.
وهذا هو سرُّ خلق الجنِّ والإنس، فالمولي لا يُريد عبادة أحدٍ كرهاً وقسراً ولكن يُريدها حُبَّاً ورغبةً وهو مقام الرِّضا الذي لا يفوقه إلا مقام الشُّكر، فمعني "ليعبدون" هو عبادة اختيار ومحبَّة ورغبة:" ‫فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ".
والقانون أيضاً لا يُجبرك على حبِّ شخصٍ ما، أو إكرام أحدٍ ما، أو التَّضحية ولكن هناك قانون يُجبرك على احترام حقوق الآخرين.
إذن القانون لا يكفل لك أيٍّ من هذه الأشياء ولا يعاقبك إن لم تقم بها أو يكافئك إن قمت بها.
ولكن الدِّين يكفلها ويعاقب ويكافئ عليها، وهذه هي مكارم الأخلاق التي جاء المصطفي صلي الله عليه وسلَّم لإكمالها: "‫إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق".
بل ربط بين الإيمان وحسن الخلق ووضَّح من الشخص الأولي لتلقِّي هذا الخلق الطَّيِّب وهو الزَّوجة، ولم يقل ذلك عبثاً، فالفوضى تبدأ في نفوس الأطفال الذين يتعرَّضون للعنف، أو للمعاملة القاسية، أو للحرمان، أو لعدم الاستقرار في أُسرهم: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا"، وفي حديث آخر يقول المصطفي صلي الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"، فشمل الأطفال مع الزوجة.
ويولد معظم الطُّغاة من هذه الأُسر برغم أنَّ الإفراط في التَّدليل يؤدِّي لنفس النَّتيجة، وتوضِّح الآية: " وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً"، فالمقصود ليس المال فقط وإنَّما كلُّ شيء يستطيع الإنسان إنفاقه إن كان عاطفةً، أو رعايةً، أو مجهوداً فالتَّوسُّط مطلوب:
"إنَّ لجسدك عليك حقَّاً، ولربِّك عليك حقَّاً، ولأهلك عليك حقَاً، فأعط كلِّ ذي حقٍّ حقَّه"، ولطبيعة الخلق دور:" ‫وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا".
ولذلك فالطاغية ممَّن قدَّر الله هلاكه، يؤثر الحياة الدُّنيا وإن ادَّعي غير ذلك:
" فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى"، ولذلك فلا قانون يوقفه ولا أخلاق تمنعه، فإنَّه لا أخلاق مع الطغيان وإن ادَّعي الطاغية غير ذلك من صلاحٍ ودين فالطغيان، حسب تأكيد المولي عزَّ وجلَّ، قرين الكفر.
فلينظر الإنسان إلى خاصَّة نفسه فإن رأي فيها تزكية وقيمة تزيد عن بقيَّة الخلق مهما يكن مرجعه، فليعلم أنَّه امتطي ظهر الطغيان.
وسنعود لهذا الموضوع إن شاء الله سبحانه وتعالي عندما نتحدَّث عن الشخصيَّة الأيديلوجيِّة.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي
د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.