بسم الله الرحن الرحيم رغم استياء ذلك المعلم بنقله إلى الأقاليم..وتوزيعه بواسطة إدارة التعليم في الإقليم في مدرسة ريفية..إلا أن عوامل متعددة ..تجعله يؤدي عمله بكامل الرضا.فوضعه في تلك القرية يحسده عليه الآخرون..وراتبه لن ينفق منه الكثير..فوجباته على داخلية المدرسة ..وكرم أهالي القرى مع الضيوف سيغنيانه..وسيقرأ مزيداً من الكتب..وإن كان من معاقري الخمر سيجد من يداومه ممن يعملون في بقية المؤسسات الحكومية القليلة في نقطة الغيار والشرطة وغيرهم وبعض زملائه وبعض الأعيان ربما..وإن كان غير ذلك ربما سيكون إمام الجمعة على الأقل..إن لم يكن إماماً راتباً..عند بداية حصته الأولى في ذلك الصباح ..كان يلاحظ على التلاميذ انشغالاً لا يستطيع تحديد سببه..مع ذلك بدأ في خطوات درسه..لم يكن انشغال التلاميذ بشئ داخل الصف ولا حتى داخل المدرسة بسورها الطيني المتهالك..وما كان بإمكانه ملاحظة أن كل تلميذ يخفي داخل درجه شيئاً..فوقتها كان لكل تلميذ درج بقفل يحفظ فيه كتبه عكس زماننا هذا..مدرسته كانت مما يطلق عليها المدرسة الأولية..وفيها كان لكل خمس طلاب كنبة للجلوس ودرج طويل للكتابة عليه..ولم تكن يخلو من فواصل بين ممتلكات التلميذ والآخر..والكل في ذالك اليوم يخفي فيه شيئاً لا علاقة له بالدرس..وللمفارقة..فكل التلاميذ يخفون شيئاً واحداً ..لذا كانوا يخافون من محاولة سرقته. ممن يجاورونهم...ما جعل الحرص شديداً..لم يمض الدرس طويلاً ..فما كان يشغل التلاميذ ..قد تأكد لهم ..فعلبة الصفيح التي يضعها سائقو البصات والشاحنات أما مروحة تبريد الماكينة..كانت تحدث صوتاً عالياً محببا وشجياً ...كان يغذي أحلامهم بالسفر عليها يوماً ما عندما يكبرون..لكن في هذه المرحلة .. كان يهمهم شئ واحد ..أن تصل هذه الكائنات العجيبة..فقريتهم ستكون استراحة لفترة قصيرة..سيفتح كبوت العربة الضخمة للتبريد ..والمسافرون لم يكن بإمكانهم السفر لولا امتلاكهم المال ..يسمونها القروش الكثيرة..لذا ما أن ظهرت البصات التي تحرص أن لا تتفارق في الصحراء..خطف كل تلميذ ماعونه بما فيه من حبات بيض مسلوق ..وأطلق ساقه للريح ليكون أول من يبيع..وتركوا المعلم وحيداً تلجمه الدهشه..ذهب للناظر مباشرة يشكو سلوك التلاميذ وإخلائهم للصف بوصول البصات..وفاجأه الناظر ..(هي البصات جات ؟.).وأخرج كورية بها البيض المسلوق من درج مكتبه وتركه فاغراً فاه من الدهشة..ربما كان ما سبق طرفة يتداولها المعلمون بينهم للتسلية من واقعهم..لكن الثابت ..أن كل المحطات والسنْدات والقرى الصغيرة التي يمر بها القطار واللواري والبصات..كان الأطفال فيها ينتظرون قدومها ..وأول من يقابلون القادمين ..ينادون وهم يجرون وراء القطار قبل أن يتوقف..( جنا جداد..جنا جداد)..تقرأ الحسرة في أعينهم بملابسهم الرثة وشعرهم المنكوش المتسخ..إذا غادر القطار ولم يبع ما لديه..فسيحتاج إلى أيام أخري ليعاود القطار مجيئه..المحطات الكبيرة وحدها..كان يوجد فيها الرغيف..إضافة إلى الطعمية ..ذلك الاختراع العجيب ..الذي يقنعك بأنك لا تأكل الفول نفسه..بل شيئاً من المحمرات..ويدل الزحام ورائحتها المشهية إلى مكان بيعها..وعندما يحل الليل على المسافرين..تفقد الساعة اهميتها..فكل وقت بعد اختفاء الشفق الأحمر ليل..ستختفي مناظر الصحراء والرمال والشجيرات وربما الرعاة والأرانب البرية من المشهد..ويمر الليل مملاً ورتيباً..ينامون وربما يسرحون ولا ينتبهون إلا بإبطاء القطار لسرعته ..لن يتبينوا المكان عند توقف القطار..فلا كهرباء ..فقط أصوات الصبية ينادون ( جنا جداد..جنا جداد ) ستدلهم على محطة صغيرة قد لا يهتمون باسمها كثيراً..في قطار ما في ذلك الزمان ..كانت والدتي تصطحب جدتي معها إلى الخرطوم..ربما للتغيير أو زيارة أقربائها هناك..في تلك القرية في أقصى شمال السودان .. قبل سفرها ..حدث شئ عجيب..شباب الختمية استراحوا قليلاً فيها ..هرع الناس أملاً في رؤية أحد (السادة )الذين ربما يكونون معهم...عندما كونوا صفاً عسكرياً وهم يرددون (أبشروا بشرى لكم ..يا شباب الميرغني)..ويتجهون صوب النيل..أحدي جداتي انفعلت معهم وتبعتهم بالجانب وهي تردد معهم..كلما اقتربت مع الطابور إلى قرب النهر الذي لم يكن يبعد كثيراً ..كانت تتردد قليلاً وتتعجب من كرامات هؤلاء الذين سيمشون على الماء..لم تلاحظ أن الطابور من الجهة الأخرى يقفل راجعاً..لذلك وقفت مشدوهة عندما وجدت نفسها وحيدة صوب النهر..والطابور قد عكس اتجاهه تماماً فقالت تعظيماً للسيد الحسن بلكنتها النوبية((جستورك يا سيد الهسن) فلم تكن تعرف شيئاً عن العسكرية ولا العربية..جدتي كانت مثلها..لذلك ..حاولت كثيراً وهي محشورة في القطار ..أن تعرف معنى ( جنا جداد).. كبرياءها لم يجعلها تسأل أمي عن معناه ..النوبيون لا يسألون عن الأسماء مباشرة..يفضلون التوصل إليها بطريقة ما..أخيراً خيل لها أنها قد توصلت إليه ..(جنسّاب)..وهي بلدة من بلدات وادي حلفا..تقول أن التبغ المحلي جزء من زراعتها..لست متأكداً من صحة المعلومة..نوعان منهما ..( القامشة) للتدخين والآخر ليوضع أسفل الشفة السفلى..كانت النساء المسنات..يستعملنه..ولهن حجر مفلطح لدق العطرون وجعله مثل حبات الحمص العطشى لخلطه..لا يبصقن لعابه الناتج بصقة واحدة ..بل ينفثنه بضغط اللسان على أسنانهن..فيخرج في خط طويل مثل تفريع حقنة في الهواء..محدثاً صوتاً يسهل تمييزه..خاصة أثناء القيام بعمل البروش وأطباق تغطية الموائد من سعف النخيل ..النوبيات لا يغطين المائدة إلا بها..كذلك نساء غرب السودان.. رغم اختلافه عن القامشة ..فأسميهما يشتق من الدخان في اللغة النوبية..أهل كل منطقة يميزونه بإسم..لكن الغالب يميز بلونه الأخضر..فيسمونه الدخان الأخضر..عندما صاح الصبية في محطة صغيرة ( جنا جداد..جنا جداد)..تبرمت جدتي قائلة ما معناه( أصلو ما في غير الدخان الأخضر ده !!)..ضحكت أمي لما عرفت ما فهمته جدتي وروته لنا..الآن ..أختفت الأدراج ذات الأقفال..واختفى القطار وكثير من محطات السكك الحديدية..صار بيض المزارع يكوم مسلوقاً في كل محطة..أختفت البصات التي توضع فيها علبة الصفيح أمام مروحة التبريد..وظهرت الحافلات الحديثة..التي تقتل حوداثها الكثير من الناس ..لرداءة الطرق وتهور السائقين..وبقى( السادة )...وزعماء الأحزاب. [email protected]