دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية: الحكم الذاتي وتقرير مصير جبال النُّوبة للدكتور أحمد الحسب عمر الحسب (4 من 4)
نشر في الراكوبة يوم 02 - 10 - 2016

في الحلقة الثالثة علَّقنا على التصريحات التي أثارها الدكتور أحمد بخصوص العقبات والترتيبات الدستوريَّة التي ستعقب إنشاء ولايتين جديدتين بجنوب كردفان. كذلك فنَّدنا آراءه المتعلقة باتفاقية نيفاشا ودورها في تقسيم ولايات السُّودان إلى 26 ولاية ومستويات الحكم ومهددات الأمن القومي. أيضاً تطرّقنا إلى السرد غير الصحيح عن تاريخ تأسيس ولاية غرب كردفان وأزمة ومآلات الحكم الذاتي. ثم خلصنا إلى أهمية وضع دستور دائم بمشاركة كل السُّودانيين دون إقصاء يضمن هم جميعاً الحرية والعدالة. وكما نبهنا إلى أنَّه ينبغي على أبناء جنوب كردفان بكل مكوناتهم وتركيبتهم الإثنيَّة والانتماءات السياسيَّة تدارك أهمية الوحدة والعمل جميعاً لمصلحة الإقليم ومزاوجة هذه المصالح مع الأهداف الوطنيَّة دون إثارة الفتن مثلما يفعل البعض.
أما في الحلقة الأخيرة سنتناول حديث الأخ الدكتور أحمد الذي استخدم فيه لغة سافرة أسفل فيها النُّوبة سفولاً غير مبرر. وعلى الرغم من ذلك سنعالج أطروحاته بالإتِّزان وذلك بدعوة أبناء ولاية جنوب كردفان/جبال النُّوبة للتوحد من أجل النهوض بولايتهم دون الاكتراث لما يحاك للوقيعة بينهم. أخيراً، سنقدَّم مخلصاً عاماً وبعض المقترحات التي قد تسهم في إزالة بعض التشويش على قضية إقليم/ولاية جبال النُّوبة.
إنشاء ولاية شرق كردفان
تطرَّق الكاتب في الجزء الثاني والأخير من مقاله عن نية أبناء المنطقة الشرقيَّة لولاية جنوب كردفان لإنشاء ولاية خاصة بهم في ذلك الجزء من إقليم جبال النُّوبة. هذا صحيح ولكن صحة هذا الخبر لا تجعله أمراً ينافح عنه المنافحون لأنَّ السلطة هي التي تحركه بمبررات غير واقعية لهذه التقسيمات الكثيرة (راجع المرسوم الجمهوري العاشر 1994م والخاص بتكوين ولايات جديدة). فبينما تتجه دول مستقلة كثيرة نحو الاتحاد (الاتحاد الأوروبي؛ و"الاتحاد الأفريقي")؛ وانتهاج بعضها الوحدة بين أقاليمها لتصبح قوة ضاربة عسكريّاً واقتصادياً إلخ... (المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكيَّة)، تهتم حكومة اليوم في السَّودان باتباع وتكريس سياسة التقسيم الذي ينهك الدولة ماليَّاً دون تخطيطاً أو تحسباً لتبعات وتداعيات مثل هذه الخطوات. وليس ببعيد تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي وما سيتبعه من هزات سياسيَّة واقتصاديَّة.
نمطية التقسيم العليلة هذه دائماً ما تلجأ إليها الأنظمة القمعيَّة والاستعماريَّة للحكم وبما يُعرف بسياسة "فرق تسد" لفرض سيطرتها وللحد من تأثير الشعوب المناهضة لها. هذه السياسة ليست بجديدة بل قديمة تم تطبيقها لتفكيك قوة الخصم (حقيقي أم متخيَّل) ليس فقط من أجل تقسيم وتفريق العناصر المؤثرة وتحييدها من خلال توجيهها داخلياً، بل لضرب بعضها البعض، وخلق مناخ عدم الاستقرار بينها. السُّودان ليس بحالة استثنائية إذ مارست كل الأنظمة التي حكمته هذه السياسة (قديماً وحديثاً).
ففي يوليو 2011م انفصل الجنوب وكانت أول دولة تعترف به هي دولة السُّودان، كما أسلفنا ذكره. وفي 10 يناير 2012م أصدر السيد رئيس الجمهورية مرسوماً يقضي باستحداث ولايتين إضافيتين لدارفور. وقبل هذا القرار أعاد ولاية غرب كردفان بعد انتخابات 2011م تنفيذاً لوعدٍ قطعه لقبائل المسيريَّة، وقد يكون هذا واحداً فقط من بين الوعود الكثيرة التي وفى بها السيد الرئيس. لم يكن الوفاء بهذا الوعد إلا لأنَّه يؤكد التفرقة والتشتت بين أبناء الوطن أو الإقليم الواحد، على الأقل! فبتنفيذ هذا الوعد تم ضرب عرض الحائط باحتجاجات الحَمَر التي عارضت ضمهم مرة أخرى في ولاية غرب كردفان! على أية حال، طالبوا بولاية خاصة بهم أو على الأقل أن تكون عاصمة ولاية غرب كردفان الجديدة بالنهود بدلاً عن المجلد لكنهم لم ينالوا ما طالبوا به.
هذا هو بالضبط ما ترمي إليه السلطة بخلق نوعاً من عدم التوافق بين أبناء الولاية. فإذا نظرنا إلى الخرائط الجغرافيَّة لهذه الولايات الجديدة بالنسبة لخريطة السُّودان الجديدة بعد الانفصال أو كردفان الكبرى، فلا هي غربيَّة ولا شرقيَّة ولا جنوبيَّة، بل عبارة عن مقاطعات لجيوب قبلية داخل الإقليم الواحد، ومن الصعوبة بمكان لأي شخص بما في ذلك ولاة تلك الولايات أو المقاطعات تحديد بالضبط أو رسم خطوط حدودها على الورق! نقول إذا تحقَّق هذا فستكون الحكومة قد نجحت تماماً في تفتيت وحدة النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع السُّوداني إذ لم يبق شيء من الخارطة السياسيَّة والإداريَّة الداخليَّة للسُّودان القديم.
التحليل وموقف أبناء تقلي
من التحليل الموضوعي لمثل القرارات العفوية لإنشاء الولايات وتأييدها من بعض النخب السياسيَّة تتضح الدوافع الشخصية والذاتية لهذه الشريحة إذ استشرت ثقافة الترغيب بالوظائف وحياة الرغد والسلطة من الحكومة المركزيَّة فضلاً عن الضغوط الاقتصاديَّة الكبيرة التي تدعو بعض الشخصيات إلى القبول بأية سلطة تخولها لهم الحكومة. أيضاً، إذا نظرنا إلى حدود الولاية الجديدة المقترحة والعناصر الإثنيَّة فيها نجد التعدُّد الذي تحدَّثنا عنه في الصفحات الفائتة وبدرجات متفاوتة، ولكن هناك حساً وطنيَّاً وإنتماء للولاية الأم. لِمَ لا، ومنطقة تقلي هي مهد التاريخ القديم، والمعاصر والحديث لجبال النُّوبة بمملكتها العريقة، وأهلها أصحاب الكرم والأمانة وكل الصفات الحميدة، لذلك نجد الغالبية تعارض توجه هذا التقسيم.
مهما يكن من الأمر، لنطالع معاً جزءً من البيان الذي أصدره أبناء جبال النُّوبة (تقلي) حول مقترح قيام ولاية شرق كردفان. لقد جاء في بيانهم:"إنَّ عملية تقسيم ولاية جنوب كردفان/ جبال النُّوبة وإنشاء ولاية شرقيَّة جديدة بمنطقة تقلي بدأ التفكير فيه منذ زمن بعيد كفكرة وإستراتيجيَّة انتهجها نظام "فرق تسد" تجاه مناطق الهامش السُّوداني الأصلية عموماً ومجتمع تقلي خصوصاً. (...) إنَّنا في تقلي نعلن موقفنا بوضوح حيث نرفض رفضاً باتاً تقسيم جبال النُّوبة وإنشاء ولاية جديدة بمنطقتنا تحت أية دعاوى. فنحن الأدرى بإدارة شئوننا وسنقف ضد أي قرار كهذا وسنجهض أية محاولة لتنفيذه، ونؤكد أنَّ مطالبنا كشعب ليس إنشاء ولاية، بل رفع الظلم والتهميش وإنهاء السياسات الخاطئة".(44) هذا والله عين الحقيقة: العدالة وإشراك الجميع وسياسات التنمية المتوازنة والمتوازية الصحيحة هي مطالب الشعب السُّوداني.
أما بيان مجلس شورى قبائل تقلي رقم (1) فقد جاء رافضاً لفكرة قيام ولاية شرق جنوب كردفان في خمس نقاط جياد نلخِّصها في: (1) عدم اكتمال ترسيم الحدود بين السُّودان وجنوب السُّودان التي تبلغ 70% من طول الخط الحدودي الفاصل بينهما؛ (2) صعوبة تحديد حدود الولاية من الجهات الأربع؛ (3) التداخلات والمشكلات الحدوديَّة القائمة سلفاً إذ كانت تندلتي، وجبل الداير وكاكا التجاريَّه تتبع لريفي (تقلي) بحسب التقسيم الإداري منذ العام 1950م؛ (4) لا يستطيع ولن يتمكَّن المواطن من سكان الولاية المقترحة الأعباء الضريبيَّة الباهظة والإيفاء أو الالتزام بها للصرف على الوظائف الدستوريَّة، وعلى مجهودات حرب الاستنزاف الجارية؛ (5) يرفض المجلس الأسس والمعايير التي لا تراعي مصالح كافة المواطنين إذ عمدت الحكومة لسياسة "فرق تسد" وتسعى من خلالها تمزيق المنطقة وتدمير النسيج الاجتماعي وفق رؤى وأهداف فئة صغيرة.(43)
ثم عدد البيان الحقائق التاريخيَّة عن منطقة تقلي في كونها:
(1) مهد أول مملكة أدارت التنوُّع العرقي، والثقافي، وألَّفت بين شعوب المنطقة بنجاح منقطع النظير. ومع ذلك فإنَّ هُوِّيتها وإرثها، واسمها، وقياداتها التاريخيين وأهلها معرضون لاستهداف واضح من أعداء الوحدة والتسامح والتعايش السلمي.
(2) تعتبر المنطقة من أكثر مناطق ولاية جنوب كردفان أمناً واستقراراً تاريخيَّاً، حيث لم تصل إليها الحرب التي انتهت العام 2005م.
(3) تميَّزت المنطقة الشرقيَّة بالثقل التاريخي للكيانات القديمة وأنَّ تمكين ذووي الأطماع الضيقة وإشباع غرائزهم الطامعة ستؤدي إلى تذويب هذا الوزن، مما سيخلق نوعاً من الغُبن في نفوس الأهالي.
(4) إنَّ منطقة جبال النُّوبة – تاريخيَّاً - تمثل كياناً واحداً بوحدته والجبال الشرقيَّة جزء أصيل من هذا الكيان عبر هذا التاريخ والجغرافيا، وأنَّ أية محاولة لتجزئة هذ الكيان في هذا الظرف الحرج يعني استهدافاً لإرادة السلام والحوار الوطني.
وأخيراً اختتم البيان بدعوة القائمين بالأمر بتدبُّر هذا التوجه وعدم إصدار قرار بتكوين الولاية مؤكدين عدم قناعتهم بقيام ولاية بالقطاع الشرقي لولاية جنوب كردفان لأنَّ ذلك ليس من الأولويات. فالأولويات عندهم تتمثَّل في إيقاف الحرب الدائرة الآن وضمان استتقرار المنطقة وتنميتها. أما وثيقة عموم قبائل تقلي عن السلام لطرفي النزاع في ولاية جنوب كردفان، فكانت ضافية وشاملة إذ لم تترك جانباً من قضية جبال النُوبة بصفة عامة وتقلي على وجه الخصوص إلا تطرَّقت إليه: التاريخ، قضيتي الحرب والسلام، ومستقبل سكان جبال النُّوبة دون تفرقة بينهم بتصنيفهم:هؤلاء عرب وأولئك عجم زنوج أفارقة.
التركيبة السكانيَّة للمنطقة
جبال النُّوبة غنية بتركيبتها الديموغرافيَّة المتعدِّدة حقاً فمنهم النُّوبة، والعرب (أولاد حميد، وأولاد كنانة والكواهلة وغيرهم)، والفلاتة (برنو، برقو، هوسا، فولاني وغيرهم)، وكما في المنطقة الفور والمساليت والداجو وغيرهم، والجلابة، وفيها الجنوبيين بقبائلهم المختلفة والذين تربطهم علاقات رحم ووشائج عميقة ومتجذِّرة وضاربة في القدم. مهما يكن من شيء، فعلى الرغم مما سبق ذكره يستغرب المرء عندما يقرأ في المقال جملة (...) ما يسمي بأبناء الحزام الشرقي لجنوب كردفان لأنَّ عبارة "ما يسمى" لتدل على الإيماء بالإساءة والإذلال أو الاحتقار بالشيء أو عدم الاعتراف به. وأيَّاً كان المقصود هو أبناء أم الحزام، فليس من اللباقة ولا من اللياقة استخدام مثل هذا اللفظ، إذ يمكن تفسير ذلك بالحقد الدفين إما تجاه الحزام الشرقي أو أبناء الحزام الشرقي.
يؤكد كاتب المقال أنَّه من الممكن صدور القرار في أية لحظة عن تكوين الولاية. بالطبع لن يكون ذلك مفاجأة لأي ممتبع لما يجري في السُّودان. ولكن لا يعني هذا أنَّ قضية ولاية جنوب كردفان قد انتهت. فتجربة خلق ولايات ثلاث من رحم دارفور الكبرى خير مثال. وعندما لم يحل ذلك قضايا الإقليم، قُسِّم مرة أخر بإضافة ولايتين جديدتين، ولكن لم تهدأ أو تحل مشاكل دارفور! وبالتأكيد خلق ولاية شرق كردفان لن يحل قضية وكما لن يفرح من سمَّاهم الكاتب الأغلبية والنخب السياسيَّة لأبناء "ما يسمى بأبناء الحزام الشرقي لجنوب كردفان"، على حد تعبيره. وسوف لن وكما لا يمكننا التهكن بما سيحدث بالضبط ولكنا نأمل، الأمل كله، أن تزدهر الولاية الجديدة وينعم إنسانها. إذا تم ذلك فهو المبتغى.
الأقلية وحصاد الفتات
ثمة أمر آخر تطرَّق إليه كاتب المقال وهو ما يتعلَّق بالمجموعات النُّوباويَّة الصغيرة داخل ولاية شرق كردفان المقترح قيامها. إذ أوضح أنَّ تلك المجموعات ستقتات من "الفتات" بحكم سيطرة الأغلبية غير النُّوباويَّة عليها. يقول علماء النفس والفلاسفة إنَّ مثل هذه العبارات لا تصدر إلا من نفسٍ تتحكم عليها الرغبة الفظيعة ضد الآخرين، وغالباً ما تظهر فجأة بعدما كانت حبيسة. لهذا لا يملك الفرد إلا أن يقف حائراً مكذِّباً إن كان مثل هذه العبارة قد صدرت من شخصٍ نال قصداً ليس بالهين من التعليم والدرجة الرفيعة. فهذه العبارة في حد ذاتها محمَّلة بالكراهية الجامحة والغبن الثائر وغير المبرر تجاه النُّوبة بصورة خاصة وبث الفتنة الممقوتة بين سكان الولاية على وجه العموم! إنَّه من غير اللائق نشر هذا التقسيم الإثني الحاد بهذه الصورة التي تقشعر منها الأبدان.
عبر التاريخ القديم والحديث لم يعامل النُّوبة الذين "صاروا أقلية" بقدرة قادر المجموعات التي وفدت إلى المنطقة مؤخراً بنوع من الكراهية وهذه العنصريَّة. فمن أين أتى نخب اليوم لينثروا بذور العداوةَ والتربَّص للإيقاع بين الناس بعبارات "الاقتتات من الفتات"؟ الجدير بالذكر، ليس كل الوافدين إلى جبال النُّوبة مؤخراً يكنون هذا المستوى من الكراهية تجاه النُّوبة. وكما أنَّه ليس من العدالة والمساواة في المواطنة أن تكون معاملة النُّوبة بهذه الصورة الفظيعة والتعالي الممقوت من بعض أبناء الولاية. إنَّ ما يريده كل سُّوداني غيور على وطنه في هذا الظرف الحرج من تاريخه أن ينأى المثقفون والنخب من مثل هذه الثقافة الباطلة. ولعمري إذا استمرت هذه الفئة في هذا النهج سيسير عليهم المثل السُّوداني "القلم ما بزيل البلم"، بمعنى أنَّهم لم يتعلّموا شيئاً ليستفيد المساكين الذين هم لهم مدينين. فهؤلاء المساكين يستحقون الكثير المفيد وليس "الفتات"!
على أية حال، سيكون موقف أبناء المنطقة الشرقيَّة مشرِّفاً. هؤلاء نعرفهم وأولئك عرفناهم ونقدِّر المجهودات الكبيرة التي بذولوها ويبذلونها، ونثمِّن دورهم الإيجابي عبر التاريخ القديم والحديث بما يقومون به في دعم وحدة السُّودان وترسيخ روح السَّلام والاستقرار في جبال النُّوبة رغم اختلاف مكوناتهم القبليَّة والعرقيَّة والدينيَّة والحزبيَّة، واتجاهاتهم، ومذاهبهم ودوائرهم الأهليَّة وتنظيماتهم السياسيَّة وقواعدهم الاجتماعيَّة.
إنشاء ولاية وسط كردفان
القراءة المتأنية والعميقة لمقال الدكتور أحمد الحسب تبعث في السطح خزعبلات كثيرة عما يخفيه هو وبعض النخب السياسيَّة، من هذه الأحاديث المْستظُرَفة لما بها من الهزل والمزاح، مثل "تترك لهم الفتات"، و"همس خافت"، وحديث من هذا النوع! ولكن ما يحير حقاً هو التغيير المفاجيء في اللغة والعبارات التي تحدَّث بها الكاتب هنا عن "النخب السياسيَّة لأبناء جنوب كردفان في المؤتمر الوطني" بدلاً عن "النخب السياسيَّة لأبناء النُّوبة" المجردة كما اعتاد عليها، أو أبناء النُّوبة في المؤتمر الوطني. فهذه هي المرة الأولى فقط في المقال كله جاء التعميم لأبناء جبال النُّوبة. ربما ورد هذا التعميم لأنَّ ولاية وسط كردفان المقترحة بها "صفوة نوباويَّة مقدَّرة تكافؤها مجموعات الحوازمة والقبائل الأخرى" كما جاء في المقال! نقول إنَّ تسمية الكاتب لبعض القبائل النُّوباويَّة في ولاية وسط كردفان المقترحة وعدم ذكر القبائل الأخرى ينذر بخلق الفتنة بين القبائل التي لم ترد أسماؤها وتلك التي وردت أسماؤها، وهذا مربط الفرس، وإلا لماذا لم يذكرهم الكاتب أو الاعتذار للقراء لضيق المجال!
على أية حال، تجدر الإشارة إلى أنَّ الكثير من أبناء الولاية الوسطى المقترحة (عربهم وعجمهم) يتصفون بالنبل والعقلانيَّة والمحبة للناس أجمعين وفي سيماهم حب الوطن والإقليم. لقد تزاملنا في المراحل التعليميَّة المختلفة (الثانوية العامة، والثانوي العالي، والجامعة). وكذلك جمعتنا معهم ظروف العمل في المجالات المختلفة؛ وفي برامج الدراسات فوق الجامعيَّة، وكما تواصلنا في المناسبات الرسميَّة والاجتماعيَّة في أفراحها وأطراحها إلخ... لم تكن تلك العلاقات محدودة لأبناء الإقليم فقط، بل شملت أبناء السُّودان وجنوب السُّودان الذي ذهب عنا سياسيَّاً، ولكنه بقي أبناؤه في الوجدان! فالكثير من كل هؤلاء لعب وما زال يلعب دوراً هاماً ومحوريَّاً في محاولة تضييق الجفوة والخصومة بين مواطني الإقليم والسُّودان بأن ينعموا بالسلام والأمن والتنمية وصولاً للاستقرار والحياة الكيمة للأجيال القادمة.
لقد قرأنا في هذا الخصوص ما كتبه الحادبين على مصلحة الإقليم والسُّودان سواء أكانوا من داخله أو خارجه. قرأنا لهم وهم يناشدون في كتاباتهم بأهمية نبذ الفتنة والدعوة لنشر روح التسامح درءً لتداعيات المرارات الكثيرة والضغائن التي تولَّدت في النفوس أثناء الحروب الماضية والدائرة منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. همهم وهمنا هو كيفية الخروج بولاية جنوب كردفان، بل السُّودان، من المأزق الذي هو فيه إلى السُّودان الذي نريده أن يكون. هذه هي صفات المروءة الحقيقيَّة التي جبلتْ عليها الشعوب السُّودانيَّة. نأمل أن يسير الكل في هذا الاتجاه بدلاً من التصنيف العرقي بعبارات "أبناء النُّوبة" والإثنيات الأخرى.
حتميَّة تنبؤات إنشاء الولايتين
تحدَّث الكاتب عن تنبؤات إنشاء ولايتي شرق ووسط كردفان قائلاً: "فإذا ما صدقت تنبوءات هذا السيناريو، فإنَّ أبناء النُّوبة سيكونون أقليات يتوزعون بين أربع ولايات". في اللغة العربيَّة تدل "إذا" على ما سيحدث في المستقبل وهي بذلك تتضمَّن شرط وقوع الحدث. ولكن لا نعرف على وجه الدقة ما المقصود ب"تنبوءات"! أما التنبؤات (جمع تنبؤ) فتعني التكهُّن أو استشفاف أو توقُّع النتائج أو أحداث المستقبل قبل وقوعها عن طريق التخمين، أو التحليل العلمي والإحصائي لوقائع معروفة كتوقعات الطقس مثلاً. وقد قيل في الإرث القديم، كذَّب المنجمون ولو صدقوا! ونأمل ألا تصدق تنبؤات الكاتب ويكون المقال، مجرد تخمين نتيجة لرغبة جامحة للكتابة فقط، أو جاءت كرد فعل عنيف لموقف خاص تعرَّض له الكاتب فخلط الخاص بالعام.
نقول هذا لأنَّ كل المعلومات التي وردت في المقال مغلوطة أو لا تستند على أية حقيقة بحث علمي أو إحصاء دقيق قابل للتحليل بالطرق العلميَّة المعروفة لدي أي طالب درجة علميَّة عليا أو باحث عن حقائق. لقد حدَّد الكاتب أنَّ الأقليات من أبناء النُّوبة سيتوزعون بين أربع ولايات، وقد عرفنا منها ولايات وسط كردفان المقترحة، وغرب كردفان وشرق كردفان المقترحة، ولم يذكر الولاية الرابعة. هل يقصد شمال كردفان؟ فإذا كان كذلك فهذا خطأ جغرافي لأنَّ من المتوقع أن تفصل ولاية وسط كردفان بين ولايتي جنوب وشمال كردفان وبالتي ليست هناك حدود مع ولاية رابعة! أبناء النُّوبة موزعون في كل أنحاء السُّودان سلفاً ولا يحتاج الكاتب لمثل هذا التكرار الممل والمخل بالمعنى والمقصد. وبما أنَّنا قد غطينا أجزاء كثيرة من فقرة التنبؤات في مواضع أخرى من التعليق نسبة لتكرار الاستطرادات، سنخص نقدنا في الجزء القائل: "وستكون أصغر الولايات حجماً و أفقرها في الموارد الاقتصاديَّة، ولا تخلو من تعقيدات إثنية".
ولاية جنوب كردفان الجديدة: المساحة وقلة الموارد
سنبدأ نقاشنا بإقرار أنَّ مساحة إقليم جنوب كردفان الكلية تبلغ 30 ألف ميلاً مربعاً حسب مصادر كثيرة.(45) بالطبع هذه المساحة متضمنة جزء من ولاية غرب كردفان. للأسف الشديد لم يحدِّد الكاتب ما هي مساحة الولاية الجديدة بالضبط، بل عمد إلى التخمين بأنَّها ستكون أصغر ولاية: وليكن الأمر كذلك! فقد أوضحنا من قبل أنَّ العبرة ليست في صغر أو كبر المساحة! لا شك في أنَّ تحديد الحدود والمساحة مهم جداً في تقييم جغرافية الولاية مثل التضاريس، المناخ والتغيُّرات، والنباتات وتنوُّعها، والحيوانات وتوزيعها؛ وكذلك دراسة ما تحت الأرض وما يجري عليها من الأنشطة البشريَّة المختلفة من زراعة ورعي، وصناعة واقتصاد إلخ...، وذلك لأهميتها في تحديد نمط حياة الإنسان.(46)
أما الجانب الاقتصادي، فيحتاج إلى إجابات عن الأسئلة التي بموجبها وضع الكاتب الولاية في خانة الأفقر اقتصاديَّاً مقارنة بالأخريات. وهذ الأسئلة تشمل: ما هي المعايير والمؤشرات الاقتصاديَّة التي بنيت عليها الفرضية أنَّها ستكون فقيرة؟ وبما أنَّنا لا نملك المعلومات والبيانات الإحصائيَّة الدقيقة التي يمكن أن نستند عليها ونبني عليها حجتنا في الوقت الحاضر، إلا أنَّه يمكن القول بأنَّ المنطقة الجنوبيَّة لإقليم جبال النُّوبة تعتبر من أغنى المناطق – إن لم تكن أغناها.
المعروف بصورة عامة أنَّ إقليم جبال النُّوبة يمتاز بأراضي زراعيَّة واسعة وتربة خصبة وكميات أمطار وفيرة، وأنَّ هذه الموارد تقل كلما اتجهنا شمالاً وغرباً من الإقليم. إذن، منطقيَّاً لا يمكن أن تكون ولاية وسط كردفان التي ستقع إلى الشمال من جبال النُّوبة أغنى من ولاية جنوب كردفان المقترحة. وبنفس المنطق، تكثر في ولاية غرب كردفان التربة الرملية والقوز، ولا يمكن أن تكون أغنى من ولاية جنوب كردفان الجديدة إلا إذا كان الرهان على البترول المستخرج من ولاية غرب كردفان كمصدر رئيس للغنى. ولكنا لا نستبعد وجود نفس الموارد وموارد معدنية أخرى بكميات كبيرة في جنوب كردفان الجديدة! نعول ونراهن ونأمل أن تقوم إدارة ولاية جنوب كردفان المقترحة بالاستكشافات الضرورية لاخراج ما في باطن أراضيها. فعلَّل سنكشف المعيار الحقيقي للحالة الاقتصاديَّة لها سواء أكانت غنية أم فقيرة وليس إلقاء القول جزافاً وعلى عواهنه بالتخمين.
التعقيدات الإثنيَّة بجنوب كردفان الجديدة
استطرد الكاتب ليتحدَّث عن أطروحة التعقيدات الإثنيَّة في الولاية "الصغيرة حجماً والأفقر اقتصاديَّاً". هذا الطرح غير مسنود بحقائق. نعم هناك إثنيات متعدِّدة في الولاية الجنوبيَّة الجديدة شأنها شأن كل ولاية في السُّودان، ولكن ليس معقَّدة بالدرجة التي يود البعض أن يكون عليه الحال! إذا درسنا الديموغرافيا في المنطقة الجنوبيَّة نجدها شبه متجانسة، فهناك مثلاً مجموعة "كاقولو" وهي أكبر مجموعة نوباويَّة في الإقليم. تتكَّون هذه الكتلة النُّوباويَّة من 14 مجموعة كبيرة وأكثر من 84 عشيرة وكلها تتحدَّث مجموعة لغويَّة واحدة هي تلشي – كرونقو. هذه المجموعة اللغوية تضم 8 لهجات هي: تلشي، كيقا، ميري، كادقلي، كاتشا، كانقا، كرونقو وطمطم.(47) وتمتد هذه المجموعة من تلشي وكمدة والطروج في الشمال الغربي لإقليم جبال النُّوبة (قبل إنشاء ولاية غرب كردفان) إلى منطقة كروندي على مشارف الليري في الحدود مع الجنوب.(48) إضافة إلى هذه المجموعة هناك قبائل المورو، والتيرا وهيبان إلخ... وقبائل نوباويَّة أخرى كثيرة لا يفسح المجال لذكرها كلها هنا، لذا نعتذر للقراء. خلاصة هذه الجزئية أنَّ بالولاية تعدُّداً إثنيَّاً كبيراً (عجم وعرب)، ولكنه غير معقَّد بفضل التفاهمات بين هذه القبائل، خاصة في الزمن الجميل قبل التطرف الديني والتعصب القبلي والاستقطاب الحزبي والسياسي. هذه التعدُّدية الإثنية، وبالضرورة التنوُّع الثقافي، ستكون مصدر قوة للولاية وليس خصماً عليها. ونعتقد أنَّ هذه التركيبة الإثنيَّة ستعمل في تناسق لإدارة هذا التنوُّع لتحقيق التوافق المجتمعي والتسامح الذي ساد من قبل تحقيقاً للتعايش السلمي. لسنا من دعاة التقسيم والتشتيت بين أبناء الولاية أو السُّودان، ولكن إذا صدقت تنبؤات الكاتب، فسيكون أبناء ولاية جنوب كردفان الجديدة قد قضوا بفهمهم العميق للواقع ووجوب التماسك، على خلية سرطان الحقد الطبقي والمجتمعي والإثني الذي يحاول البعض زرعها وبثها بين إثنيات الإقليم المختلفة.
نذر بمخاطر خيارات الحكم الذاتي وتقرير المصير
لم يبرح الكاتب تأكيداته بأنَّ إنشاء ولاية شرق كردفان هو الراجح مع احتمال خلق ولاية وسط كردفان اللتين أشرنا إليهما! في الحقيقة هذه المعطيات لها تبعات وتداعيات كارثية ينبغي علينا الاعتراف بها لأنَّها بلا شك ستخلق زلزالاً عنيفاً من تحت شعب الولاية المسكين! عليه، أولاً، يجب على الطبقة المستنيرة أن تنظر إلى مستقبل الإقليم وإنسانه بتفاؤل بدلاً من الروح التشاؤميَّة التي طغت على تفكير بعض أبناء الإقليم، عجمهم وعربهم، لأنَّ الدعوة المستمرة إلى الفرقة والشتات لا تنفع لأنَّ سوف لا يرحم التاريخ مثيري الفتن والتشرذم أبداً. لقد ذكرنا سابقاً كيف كان الرعيل الأول يبث روح التسامح والتعايش السلمي بين المكونات الإثنيَّة المختلفة فعاشوا حياة طيبة مليئة بحب الآخر حتى جاء زمن انقلب فيه كل شيء على عقب. التعايش السلمي وقبول الآخر كان هو ذاك التاريخ الناصع لأهل الولاية (رغم المرارات التاريخيَّة التي تعرَّض لها شعب النُّوبة) الذين لم يتلوَّثوا بالأفكار الخربة بالرغبات الجامحة لحياة اليوم! ثانياً، ينبغي أن يتذكَّر النخبة مقولة الزعيم الماهتما غاندي التي تقول "إنَّه على مدى التاريخ كان الفائز هو طريق الحق والحب. ولقد كان هناك طغاة وقتلة، ولفترة طويلة بدوا كأنَّهم لا يُقهرون، ولكن إنهاروا في النهاية ".
فتنبيه السياسيين والأغلبية الصامتة فقط بالمخاطر غير كاف لأنَّ السياسيين هم السبب الرئيس للمشكلة في الغالب الأعم فهم يعرفون ذلك ولا يحتاجون للتنبيه. فالسياسيون يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون! وبما أنَّنا لا نقلل من شأن وذكاء الأغلبية الصامتة في القدرة على تحديد مصالحها والمحافظة عليها، إلا أنَّنا نعول على النخبة ليلعبوا الدور المنوط بهم لرفع المعاناة عن كاهل أهلهم بنشر روح السلام بينهم. الخيارات التي طُرحت ما كانت لعباً ولهواً، وما كانت ستكون لو أنَّ أهل الحل والعقد عقدوا العزم من أجل حلحلة القضايا التي تهم المواطن سواء أكان في الإقليم الذي نناقش قضاياه أو في السُّودان بصورة عامة. وإنَّ خلق ولاية شرق أو وسط كردفان اليوم أو آجلاً لن يحل أية قضية كما يحاول مقال الدكتور أحمد الحسب تفهيم الناس أنَّه أفضل من الحكم الذاتي أو الانفصال من خلال تقرير المصير. على أية حال، إنَّ التفاهم الذي سيحدث بين أبناء الإقليم سيسهم بصوررة إيجابيَّة لمصلحة المنطقة كافة وليس لأبناء النُّوبة وحدهم. هذه ليست بأحلام "زلوط"، لأنَّ قوة الإرادة وصفاء النفوس من سمات أبناء الولاية وبهما سيتحقق كل شيء!
نيفاشا مرة أخرى
انتقل الكاتب إلى الحديث عن نيفاشا مرة ثانية وهذا يؤكد أهميتها لأنَّها بلا شك أوقفت نزيف الدم بين أبناء الوطن الواحد في أطول وأشرس حرب أهلية في أفريقيا. وتعتبر الاتفاقية من حيث المضمون من أحسن الاتفاقيات التي عالجت القضايا الهامة في السُّودان، وأية شكوك في المجهودات التي بُذلت لإنجاح المفاوضات بين طرفي النزاع غير واقعية ولا موضوعية. كان ينبغي على الكاتب في نقده أو اعتراضه على هذه الاتفاقية قراءتها بعقلانية وتدبُّر نصوصها وتدوين ملاحظاته بأمانة ودون عصبية دينيَّة أو عنصريَّة/عرقيَّة أو تشنج حول إيجابياتها وسلبياتها ووضع كلاً منها على كِفَّة الميزان، بالتأكيد سيجد تغلُّب الإيجابيات. ثم كان عليه طرح البدائل أو الاقتراحات التي قد تساهم في الحلول مستقبلاً. وبما أنَّنا تحدَّثنا عن بعض هذه الإيجابيات والسلبيات في مكان آخر من هذا النقد وفي مقالات سابقة، ندعو الكاتب إلى إعادة قراءتها ومراجعتها بهدوء وصفاء نفس وعلى مهلة، إن كان قد اطلع عليها على عجل أو بإنتقائية. ورغم أنَّها تقع في 242 صفحة، ولكن تستحق الدراسة للخروج برؤية فردية مستقلة وليس بسماع الآراء المكتوبة في الجرائد وما يبثه التلفزيون حولها وعنها بالإيجاب والسلب كي يجنِّب نفسه الخوض في هذه المغالطات!
هل هي ردَّة سياسيَّة أم تكتيك مرحلي؟
في رحلة الاسترسال في المقال تساءل الكاتب عن هل المطالبة بالحكم الذاتي/تقرير المصير ردة سياسية أم تكتيك مرحلي. وبيَّن أنَّ أخطر ما في الأمر هو القوقعة الذاتيَّة لأبناء النُّوبة حسبما يعتقد. في الحقيقة، بين الظن باليقين والاعتقاد خط رفيع إذ يشير الأول إلى إِدراك الذهن للشيء مع ترجيح ثبوته أو عدمه. أما الثاني فهو حكم ذهني بتصديق قاطع في القلب ولا يقبل التشكيك في الشيء، ونأمل ألا يكون الخطر هكذا لأنَّ ما نخشاه هو أنَّ تؤدي القوقعة الذاتية، وحصر النفوس في الحيز الضيق، وقبر الطموحات السياسيَّة على المستوى القومي إلى مآلات الجنوب الذي انفصل عن السُّودان. فما لا شك فيه أنَّ "القوقعة الذاتيَّة، وحصر النفوس وقبر الطموحات السياسيَّة" لأبناء الجنوب على مدى 56 سنة ونيف (1955-2011م) "طلعت ليهم بدولة" قائمة بذاتها وذات سيادة. نعم، واجهتهم مشكلات كثيرة وصعبة بعد استقلالهم وستستمر تواجههم! السُّودان في الجانب الآخر واجهته المشاكل قُبيل الاستقلال من الحكم الإنجليزي – المصري، وإلى الآن ما تزال تنخر فيه هذه المشاكل، وإلا ما كان هذا السجال! فلماذا إذن الانزعاج من أن يحدث أيٌ من الخيارات المطروحة في مبادرة من أبناء النُّوبة الذين يرى كاتب المقال أنَّهم أقلية؟ كان باستطاعة الأغلبية الصامتة وبعض أبناء النُّوبة الذين فضَّلهم الكاتب ترجيح كِفَّة الميزان في اليوم الذي ستتم فيه ممارسة حق إحدى الخيارات، فلماذا "وجع راس"؟
هل حقاً يدعي النوبة الاستهداف؟
يواصل كاتب المقال في تسليط اللسان الحاد على النُّوبة بتهمة أنَّهم يزعمون ويدعون الاستهداف العنصري والتهميش السياسي المتعمَّد. بل ذهب يسفل الكلم سفولاً واصفاً هممهم بالتضاؤل والتقاصر أمام الشأن القومي. عندما يقرأ المرء مثل هذا الكلام يكاد لا يصدق أنَّه جاء من شخصٍ كان مرجواً منه من شدة سفوره في نعت أبناء النوبة الذين لا يقل بعضهم منه تأهيلاً وكفاءة لحمل مسؤلية الشأن القومي. فقبل مواصلة التعليق على هذه الجزئية قمنا بتعريف كلمتي الاستهداف والعنصرية لغة واصطلاحاً في بداية التعليق ويمكن الرجوع إليهما.
على أية حال، الاستهداف هو قصد الشيء من أجل قتله أو عرضه للموت بشتى الطرق. أما العنصرية فهي الاعتقاد بوجود عناصر الدونية التي تحول دون الإنسان وقدرته في النماء والتطور، وغالباً ما يمارس العنصرية أصحاب السلطة والنفوذ. ومثال الاستهداف لعنصر النُّوبة ما شاهده العالم أجمع والرئيس السُّوداني، الذي يعتبر راعي النُّوبة وهو مسؤول عن رعيته كما ينبغي وهو يقول: "سنطارد النُّوبة جبل، جبل، وكركور، كركور؛ ولا خمر ولا كجور"! فمنذ 6/6/2011م حتى الآن النُّوبة مطاردون إلى كهوف جبالهم من وديانهم كما كان الوعيد من الراعي! ثم كان حديث "أكسح، أمسح، قُشو، إلخ..." لوالي الولاية من ناحية. ومن الناحية الأخرى، لو سلمنا أنَّ أفراداً من كل الإثنيات في السُّودان - بدون استثناء واحد - يحتسون الخمر احتساءً كما ذكر الراحل الترابي في شهادته على العصر بأنَّ السُّودانيين يشربون الخمر كالماء، فالنُّوبة هم المعنيين وحدهم ب"ولا كجور" لأنَّ كلمة الكجور هي الكلمة الثقافيَّة المتلازمة حصريَّاً على عنصر النُّوبة! وتفعيل الاستهداف، يتمظهر في وابل من الرصاص والسماء التي تمطر براميلاً من المتفجرات على الأبرياء من أبناء وأطفال النُّوبة في قراهم وكهوفهم دون غيرهم من الإثنيات في الإقليم. أليس هذا استهداف لعنصر معين من المواطنين بحجة أنَّهم متمرِّدون؟ بلى!
إنَّنا إذن لا نبالغ إن قلنا إنَّ أفراد إثنيَّة النُّوبة يوصفون بالعنصريين وما هم بذلك، ويتم وصفهم تارة أخرى بالطابور الخامس، ولا هم كذلك أيضاً. السبب الوحيد هو أنَّهم قالوا ووقفوا مع الحق. إنَّ الشواهد على الاستهداف العنصري لكثيرة ولا يفسح المجال لضرب الأمثال الكثيرة للناس. أما التهميش السياسي فحدِّث ولا حرج، ولكنه كذلك ضد إثنيات كثيرة ولكن بدرجات متفاوتة، فلا يغرنَّ أحداً التضليل الرمزي الذي يُمارس بأنَّ ليس هناك تهميش سياسي! صحيح هناك من النُّوبة من تبوأوا مناصباً وزاريَّة، ولكنها وزارات هامشية بدون سلطات حقيقيَّة فعالة، بينما صُنَّاع القرار الحقيقيين خلف الكواليس!
وعلى المستوى القومي وُصِفَ القس الأب فيليب عباس غبوش بالعنصري لأنَّه حاول الانقلاب على الحكومة، ولم يسلم المعلِّم يوسف كوة مكي من تلك الصفة. ولما اشترك خيرة أبناء النُّوبة مثل الشهداء: عباس برشم فرح، والملازم عبد الرحمن شامبي نوَّاي، وحماد الأحيمر (ضابط صف) وآخرون في محاولة انقلاب الشهيد المقدَّم حسن حسين عثمان (من عرب الأبيض) صبيحة الجمعة الخامس من سبتمبر 1975م، قالوا إنَّها مؤامرة عنصريَّة! والغريب في الأمر لم توصف أية محاولة انقلابيَّة أخرى، ناجحة أم فاشلة، بأنَّها عنصريَّة. ولعمري هناك الكثير منها ليس هذا مجال ذكرها لطول القائمة!
تقاصر همم النُّوبة أمام الشأن القومي
يوقل الكاتب أنَّ همم النُّوبة تتقاصر أمام الشأن العام. فالسؤال هو هل فعلاً تصاغرت نفوس النُّوبة في الدفاع عن السُّودان الكبير عبر مسيرته النضاليَّة حتى يطالهم الاتهام بأنَّ هممهم تتقاصر أمام الشأن القومي؟ لا شك أنَّ النُّوبة شاركوا بفعالية متناهية في الدفاع وحماية هذا السُّودان إذ سطروا أسماءهم بأحرف من دمائهم تاريخ السُّودان لأنَّ ليس لهم غيره يلجأون إليه عندما تضيق الأرض بما رحُبت. بعد كل هذه التضحيات تم نسيان هذا الدور البطولي التاريخي لهم ولم تجد لهم ذكراً إلا لماماً أو من باب المجاملة المفرطة عند السُّودانيين. وذهب البعض يصف هذا العمل وهذا الدور العظيم بالخجل أو المخجل كما سنرى بعد قليل! إ
إن كنا غير محقين فيما ذهبنا إليه أعلاه فليذكر لي أي شخص اسم شارع أو زقاق أو مدرسة، أو حي واحد أطلق عليه اسم أحد أبطال النُّوبة ما عدا حي فيليب في بورتسودان والذي سمَّاه النُّوبة على زعيمهم. ومن باب المجاملة هناك "شارع علي عبد اللطيف" الذي تمت تسميته على ما أظن في عهد الوطنيين الحقيقيين! كذلك تم تغيير اسم مستشفى العيون إلى مستشفى عبد الفضيل الماظ (أحد أبطال ثورة 1924م) للعيون بجهد جهيد من الأستاذ ياسر سعيد عرمان، الأمين العام للحركة الشعبيَّة – شمال. ورغم هذا التغيير إلى الاسم الجديد ما زال الناس يذكرون مستشفى العيون لأنَّه راسخ في الأذهان. لماذا إذن لا ولم يتم إنشاء مرفق جديد باسمه؟ بعد هذا كله يكبُر بل يثقل لسان بعض الناس أن يقولوا عن النُّوبة قولاً سديداً طيباً، فمالكم كيف تحكمون؟ على أية حال، أبناء النُّوبة مستعدون (عدة وجَبَنة) لأي سيناريو يحدث لأنَّهم لم ولن يفقدوا شيئاً ما دام الحال هو الحال.
في تحوُّل مفاجيء اعترف الكاتب بتضحيات إثنية النُّوبة وإشراقاتها إلا أنَّه أفسد هذا الاعتراف بإضافة جملة "وإن كان على خجل"! إذ ليس واضحاً من صيغة الكلام مَنْ الذي خجل، المعترِف أم إثنية النُّوبة أم التاريخ. ومهما يكن من أمر هذا الاعتراف، سنلقي الضوء على بعض الأخطاء التي وردت تصحيحاً للمعلومات التي وردت فيها. بداية نثمِّن ما ذهب إليه الكاتب لنقول لا خلاف في أنَّ إثنيَّة النُّوبة هي التي ساندت وناصرت ووفَّرت للإمام محمد أحمد المهدي وثورته الحماية التي أدت لنجاحها، فلولا النُّوبة وكهوف جبالها لانتهت تلك الثورة في مهدها. فجبل قدير وأهله يشهدون على ذلك، وهذا فخرٌ للنُّوبة الذين حموا المهدي ودعوته عندما هرب من أهله إليها. كذلك ليس هناك ما يدعو إلى خلاف في أنَّ طليعة ولفيف من جيل سُّوداني أصيل (بما فيهم النُّوبة) كان مشبع بالوطنيَّة الخالصة اشترك في ثورة 1924م ضد المستعمر.
تصحيح لبعض المغالطات
أما بعد، إنَّ ما ذكره الكاتب عن عباس برشم، وعبد الرحمن شامبي، وحسن حسين "غلط"، إن لم يكن خطأ! فعباس برشم فرح (كان من كوادر حزب الأمة الناشطة) خاصة عندما كان طالباً بكلية الاقتصاد، جامعة الخرطوم، وكان من قادة المظاهرات التي هزَّت أركان نظام مايو وأرَّقت جهاز أمنه في شعبان 1973م. حدث ذلك عندما كنا أيفاع أو مراهقين أو تلاميذ في المرحلة المتوسطة إذ خرجنا في الشوارع نهتف كالببغاوات وبلا دراية لما يجري: "لا نميري بعد اليوم، لن يحكمنا حمار وطيش حنتوب"! نعم، كانت تلك المظاهرات في أغسطس/شعبان (خريف) العام 1973 وليس العام 1971م.
الحقيقة الثانية، لقد اشترك عباس في الانقلاب الآنف الذكر (5/9/1975م)، وتم إعدامه رمياً بالرصاص بوادي الحمار في عطبرة في الأول من يناير 1976م. ولعلَّ عباس دخل التاريخ كأول طالب اشترك في انقلاب ويتم إعدامه بسبب ذلك. فبينما كان السُّودانيون يحتفلون بأعياد الاستقلال، ثكلت بعض الأمهات أفلاذ أكبادها في ذلك اليوم، فيا للمفارقات في بلاد السُّودان! إضافة إلى هذا تم إعدام عبد الرحمن شامبي نوَّاي (إثنية النُّوبة) والمقدَّم حسن حسين عثمان (قائد المحاولة من عرب الأبيض) ورفقاء السلاح الآخرين في نفس اليوم والمكان. أما حماد الأحيمر، عم عباس برشم، فقد قُتل بمباني الإذاعة وهو على دبابته.
على أية حال، يمكن أن ننقل من الشواهد ما يبثت أنَّ النُّوبة ليسوا بعنصريين ولكن تُكال عليهم التهم جزافاً بالعنصريَّة وأنَّهم طابور خامس ويا لها من تهم بائسة ومخجلة حقاً! ومن المؤسف أنَّ كثيراً من الناس يستخدمون "طابور خامس" دون معرفة بمضمونه، متى نشأ ومن هو أول من أطلق المصطلح وفي حق من؟ ولوكان النُّوبة طابوراً خامساً لتغيَّرت الأنظمة الشموليَّة السودانيَّة متى ما أرادوا بحسب معنى المصطلح! المهم لقد شهد الكاتب بنفسه، ولا نعلم ما هي الدوافع الحقيقيَّة لهذه الشهادة التي قال فيها: "هؤلاء قاموا بتلك المحاولة الانقلابيَّة بدافع قومي بحت لم تشوبه أية شبهة عنصريَّة بانتمائهم لإثنية النُّوبة".
مثلما قلنا وأوضحنا بما فيه الكفاية في بداية نقدنا أنَّ الموقف الثابت والمبدأي لأبناء النُّوبة هو السُّودان الموحَّد، ولم يقبلوا فيه المساومة لدرجة أنَّ كثيراً منهم وهبوا حياتهم من أجل هذه القضية ومنهم من ينتظر. فالتعميم بأنَّ قادة اليوم من أبناء النُّوبة يرضون بتضييق الحيز على أنفسهم فيه خطأ وخطيئة، والخطيئة هي إساءة صادرة عن إرادة (لا نقول شريرة) ولكن جامحة وتستلزم الاعتذار. فلقد صدق سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ورضي عنه حين قال:"من نسيَ خطيئته استعظم خطيئة غيره". فالحق يُقال عندما يئس بعض أبناء النُّوبة من ألاعيب ومراوغات السلطة الحاكمة وانقطع أملهم في إصلاح الحال مع هذه الجماعة بدأوا يبحثون عن مخرج آخر للأزمة التي لازمتهم سنيناً عدداً.
ولما كثرت وتكاثرت الاستفسارات عما يريده النُّوبة، قالوا نريد أن تُحل المشكلة السُّودانيَّة كلها في إطار قومي ليعم فيه الاستقرار الأمني والسلام والتنمية العادلة، وحكم القانون لكل أبنائه بلا تعصُّب قبلي ولا محباة ولا غلو ديني يفضِّل مذهب على آخر. هؤلاء هم الذين وصفهم الكاتب بأنَّ هممهم تتقاصر أمام الشأن القومي! ومع ذلك ما زال هدفهم سُّوداناً واحداً تسوده الحرية للفرد والجماعة، ما دام لن تعرقل أو تتعارض تلك الحرية مع تقدُّم الوطن، ولا تقود إلى الإضرار بمصالح البلاد العليا. هذه هي قمة الوطنية، وشروط الوطنية والذود عنها. نجد هذه المعايير في أعظم البلدان وأكثرها حرية ولعلَّنا نضرب مثالاً بالولايات المتحدة الأمريكيَّة التي لا ترحم من يتعدى حدود أمن وسلامة أراضيها أو مصالحها أو أي مواطن من مواطنيها بغض النظر عن أصوله ومعتقداته. فالنُّوبة لم يدفعوا أو ينزووا بأنفسهم إلى هامش السياسة السُّودانيَّة بل العكس لقد دفعتهم سياسة الإقصاء وعدم تقبل الآخر ورأيه، دفعتهم السياسة هذه دفعاً إلى الهامش على الرغم من الدور الذي لعبوه في نهوض هذا الوطن كما ذكرنا!
دولة النُّوبة "المغلقة" فاشلة
لقد تطرَّق المقال أيضاً إلى مسألة في غاية الأهمية وهي مآلات مطلب النُّوبة الذي سينتهي بتكوين دولة النُّوبة الجديدة المغلقة، إذ ليس لها منفذ إلى البحر أو المحيط (المياه الدوليَّة). إنَّ هذه النظرة قاصرة، وهذا أقل ما توصف به نسبة للآتي:
أولاً، هناك دول كثيرة في هذا العالم ليس لها منفذ بحري ولكنها نجحت في البقاء، بفضل الحكم الرشيد وسياسة الانفتاح للعالم، وعدم التدخُّل في الشئوون الداخليَّة للغير. فمن تجارب تلك النجاحات سوف تبني "دولة النُّوبة المقفولة" علاقات حسن جوار قوية لضمان الاستقرار الأمني داخلها تطلعاً لتبادل المنافع، وتحقيقاً للمصالح المشتركة، وتثبيتاً لعلاقات الدم والوشائج الأسريَّة التي تربط بين شعبي "دولة النُّوبة الجديدة" و"دولة السُّودان". فهذه الروابط هي التي لا يمكن أن يقطعها عدم التفاهم السياسي العابر الذي أدى إلى الفراق. الحكمة من بناء تلك العلاقة هي أنَّ الدول تحتاج لبعضها البعض بغض النظر عن قوتها العسكريَّة أو الاقتصاديَّة أو البشريَّة. فمثلاً، السُّودان وجنوب السُّودان يحتاجان لبعضهما والعكس صحيح، وهما يحتاجان أيضاً لأمريكا والصين والعكس، وهكذا دواليك.
ثانياً، لا يعني أنَّ أية دولة لا تملك منفذ للمياه الدوليَّة دولة فاشلة تستجدي الحياة من غيرها. هناك العشرات من الدول الأفريقيَّة المفتوحة للمياه الدوليَّة، ولكنها تعاني كثيراً ومنها دولة السُّودان نسبة لسوء إدارة التنوُّع والموارد الطبيعيَّة التي هباها الله بها نتيجة للفساد. فالسُّودان يحتل المرتبة الثالثة بعد الصومال (المرتبة الأولى) وكوريا الشمالية (المرتبة الثانية) في قائمة الدول الأكثر فساداً بحسب تقرير منظمة الشفافية الدوليَّة للعام 2014م، بينما جاء جنوب السُّودان في المرتبة الخامسة! وبتحليل القائمة التي حوت 18 دولة أكثر فساداً، نجد أنَّ عدد الدول الأفريقَّية الأكثر فساداً بلغ 9 أي 50% ومن بين التسع هناك 6 (33.3%) دولة مفتوحة للمياه الدوليَّة بما فيها السُّودان، و3 (16.7%) فقط مقفولة من بينها جنوب السُّودان! أما أثيوبيا، جارة السُّودانين (السُّودان وجنوب السُّودان)، مقفولة ولكن اقتصادها ينمو بسرعة، مما جعل الكثيرين من رجال الأعمال السُّودانيين يستثمرون فيها بدلاً عن وطنهم.
ثالثاً، بعد فحص دقيق للخارطة الأفريقيَّة الأم، وضح أنَّ هناك 17 دولة مقفولة تماماً فلماذا لا تُضاف إليها "دولة النُّوبة الجديدة"؟ أما من ناحية النجاح الاقتصادي فقد أثبتت بعض هذه الدول الأفريقيَّة نجاحاً كبيراً مثل رواندا التي خرجت لتوها من أفظع حرب تطهير عرقي في تاريخ البشريَّة، والتي جاءت في المرتبة 71 عالميَّاً من حيث القوة الاقتصاديَّة.(49) هذه هي وحججنا في التوضيح.
تبني الحركة الشعبيَّة لقضية النُّوبة
لقد انتقل الكاتب ليحدِّث القارئ عن مأزق آخر وهو تبني الحركة الشعبيَّة قضيَّة النُّوبة. يذكرنا هذا الحديث بالجدل البيزنطي حول أيُهما سبق الآخر: البيضة أم الدجاجة؟ ففي الحقيقة لم تكن الحركة الشعبيَّة محصورة على أبناء النّوبة كما يظن الكثيرون. ففي صفوف الحركة أبناء القبائل السُّودانيَّة المختلفة إلا أنَّ أبناء النُّوبة هم اللبنة الأولى والأسياسيَّة، وهم الأغلبية فيها أيضاً. ومن الطبيعي والبديهي أن يختلف الناس في رؤاهم عند مخاطبة القضايا المطروحة وفقاً لطبيعة القضية والمشكلة موضوع الخلاف، لذلك نجد أطرافاً كثيرة تسعى لحل المشكلة الواحدة بطرق مختلفة. فمشكلة السُّودان، مثلاً، تناسلت وتكاثرت الأطراف لحلها، وفي كل الأحوال لم نسمع ضجيجاً بأنَّ هذه الجهة أو تلك تبنَّت قضية فلان وعلان إلا مشكلة جنوب كردفان التي هي في حقيقة الأمر مشكلة السُّودان! أسطوانة التبني هذه سمعناها مراراً وتكراراً حتى من أبناء جنوب كردفان أنفسهم (عجم وعرب) الذين يختلفون مع رؤية الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان إذ صارت ألسنتهم تلوكها ليلاً ونهاراً. والأغرب في الأمر أنَّهم يشيرون بلا مواربة إلى أنَّ القادة مالك عقار، وعبد العزيز آدم الحلو، وياسر سعيد عرمان هم سبب مشكلة جبال النُّوبة لأنَّهم ليسوا بنوبة! للأسف بلغت درجة التطرف والبغض بشخصيَّة "برلمانيَّة ودستورية" مرموقة وقياديَّة نوباويَّة في المؤتمر الوطني بالتصريح أنَّها على اسستعداد لتفجير نفسها في عملية انتحاريَّة للتخلص من ثلاثتهم حلاً لقضية جبال النُّوبة! ليس بهذه الصورة تُحل القضايا الكبيرة، ولو كان الأمر كذلك لحُلت مشاكل بلدان كثيرة، خاصة التي تحدث فيها تفجيرات انتحارية!
لقد تحدثنا فيما مضى عن الحركة الشعبيَّة وقوميتها فلن نتطرق في نقدنا هذا إلى ما أشار إليه الكاتب بأنَّها "تدثرت في لبوس قومي لحلحلة مشاكل السُّودان"، وسنكتفي بالإشارة إلى مقولة القائد الدكتور جون قرنق بأنَّ "مشكلة السُّودان في الجنوب" لا غبار عليها البتة. نعم، لن نخوض أبداً في الحديث عنه أو حتى مجرد المحاولة خشية ألا نوفيه حق قدره لما قدَّمه للسُّودان، فرؤيته هي سلوانا والحمد لله رب العالمين.
تحدَّث الكاتب مرة ثانية عن دور الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان– شمال في بعده المناطقي بدلاً من القومي. كما ذكرنا سابقاً، لقد عملت الحكومة واستخدمت كل الوسائل للحيلولة دون الحل الجذري لقضية السُّودان، وأصرَّت على أن يكون الحل جزئيَّاً: حل مشكلة دارفور في منبر الدوحة، وحل قضية المنطقتين على طاولة المفاوضات بينها والحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال في الداخل، ولكن اضطرت للذهاب بها إلى أديس أبابا، إثيوبيا. لقد أوفدت الحكومة جموعاً انتقتها انتقاءً إلى مكان المفاوضات وأطلقت عليها اسم " أصحاب المصلحة" الحقيقيين.
كان من المأمول أن يتوافق الطرفان بعد التوقيع على اتفاق نافع/عقار في 28 يونيو 2011م إلا أنَّ السيد الرئيس عمر البشير قطع زيارته للصين ورجع غاضباً فألغى الاتفاقية بخطبة في مسجد بدلاً من قصر الشعب!(50) لذا استمرت العدائيات إلى اليوم وكذلك جولات وصولات مارثونيَّة من أجل السلام الضائع في الحكمة المفقودة. الأمر الذي يفقع المرارة هي أنَّ الدولة ترفض قرارات أمميَّة وتنقض اتفاقيات أبرمتها بتوصيل الغذاء والدواء لرعاياها بحجة أنَّ هذه المساعدات ستصل إلى المتمردين، فضلاً عن تنكرها قدرة الحركة في حل قضية السُّودان! هكذا أجبرت الحكومة الحركة الشعبيَّة للمطالبة بحق الحكم الذاتي الكامل للإقليم، ومع ذلك تنادي مع قوى سياسيَّة أخرى لحل قضية السُّودان نهائيَّاً. فأين قصور الحركة الشعبيَّة – شمال في مخاطبة المشكلة القوميَّة.
ناصح أمين
وقبل أن يختم الكاتب مقاله المناهض لمطالبة أبناء النُّوبة بالحكم الذاتي/تقرير المصير بجنوب كردفان، تحوَّل إلى ناصح أمين ومستشار لبق للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال منبهاً إياها من خصومها الذين يعتقدون أنَّها حركة عنصريَّة! هذا النصح والتنبيه في حد ذاته تغيُّر إيجابي ونقل من النقول المستحسنة من شخص يبدو أنَّه يعرف ويحمل الكثير من الخصوم لعدوٍ لهم! ومهما يكن من قيمة هذه النصيحة والانتباهة والاستشارة، فقد تهاوت تماماً بحديث الفيدرالية القائمة والمدعاة بالفعالة في حل قضايا مناطقية لأنَّها "قاصرة بنيويَّاً إذ تفتقد أساساً متيناً"، كما ذكر هو. تلك هي شاهدة الكاتب عن الفيدرالية التي لم يترك سطراً في كتابه الثمين إلا ذكرها أو لوَّح بها تلويحاً وتلميحاً إلى أهميتها وفعاليتها!
كانت الخاتمة بسؤال "بريء ولكنه ملحٌ لأبناء النُّوبة كافة" بعد ثرثرة في الكلام من دون جدوى! جاء السؤال في 18 كلمة "هل الدعوة للحكم الذاتي ردة سياسية أم تكتيك مرحلي الهدف منه الضغط على الخصم لتقديم المزيد من التنازلات"؟، كان من المتوقع من الكاتب أن يضع مقترحات تسهم بطريقة أو أخرى في توحيد أبناء إقليم جبال النُّوبة/جنوب كردفان، لحل قضية الجنوب السُّوداني الجديد، كما يسميه بعض الناس، والتسمية صحيحة، ولكنه اختار غير ذلك، ففاقد الشيء لا يعطيه! نختم تعليقنا بالخلاصة العامة التالية.
الخلاصة
يعتبر إقليم جبال النُّوبة (ولاية جنوب كردفان) من أغنى الولايات في السُّودان من حيث موارده الطبيعيَّ، الأراضي الزراعيَّة الخصبة والمياه الوفيرة، والمعادن (البترول وغيره(. وتبعاً لهذه الطبيعة الجغرافيَّة يتميَّز نشاط إنسانه باحتراف الزراعة وممارسة تربية الحيوان، فضلاً عن هجرة التجار من مناطق السُّودان الأخرى بغرض التجارة. ونتيجة لهذه الأنشطة المتنوعة والهجرة المستمرة للولاية والتناسب العكسي بين الخدمات (التعليم، الصحة، المياه إلخ...) وتنمية هذه الموارد بطريقة مستدامة، بالإضافة إلى المنافسة غير المتكافئة على هذه الموارد، برزت مشكلات أججت الصراع المسلح.
لم تهتم الحكومات المتعاقبة ولا النخب السياسيَّة بمخاطبة تلك المشكلات بل زادت من وتيرة الاستقطاب السياسي والحزبي والديني والإثني الحاد في الولاية لتحقيق أهدافها الضيقة بتمكين فئة دون غيرها، خاصة إثنية النوبة. هذا الوقع يتطلب من كافة أبناء ولاية جنوب كردفان فهم مشكلة إقليمهم لبلورة الحلول ودعم الجهود التي بذلت سواء أكانت نصوص اتفاقيات أُبرمت أو تفاهمات محليَّة من أجل تهدئة الخطاب السيباسي والقبلي، ومناقشة الأمور بعقلانية ودون التعصب لفئة معينة. النقاش والحوار العقلاني سيقود حتماً إلى تقديم مشروع أو مقترح عام وشامل يحوي الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لحل المشكل الذي يواجه الإقليم ومواطنيه بكافة تنظيماتهم واتجاهاتهم السياسيَّة والحزبيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة.
إنّ المطالبة بالحكم الذاتي حق قانوني مشروع ولكن ممارسة هذا الحق وتحقيقه لا يعني أو يضمن حلاً للمشكلة إذ أثبت فشله تماماً في الماضي (الحكم الذاتي في جنوب السُّودان) لتقاعس السلطة في تنفيذ البنود إلى نهاياتها في تحقيق العدالة والمساواة في الواجبات والحقوق للجميع. كذلك إنَّ التمسك بالخطاب السياسي القبلي/العتصري المتطرف يقلل من مقدرة أهل الإقليم لإدارة شئونهم إطار السُّودان الموحَّد المسالم مع نفسه. كما أنَّ تقسيم الولاية أو ولايات السُّودان الأخرى إلى مقاطعات قبليَّة/إثنية لا تحل قضية السُّودان. إذن، ما هي الحلول وخطوطها العريضة للمضي قدماً في حلحلة قضايا الوطن دون التجزئة أو "رزق اليوم باليوم"؟ نعتقد بعد متابعة الأوضاع في السُّودان ضرورة اتخاذ الخطوات أو المقترحات التالية، على المستويين القومي والإقليمي (رغماً من تكرارها).
المستوى القومي
(1) وقف الحرب الدائرة في جميع أنحاء السُّودان لأنَّها لا محالة مصدر تفكك الجبهة الداخليًّة نسبة لإفرازاتها السالبة على وحدة النسيج الاجتماعي نتيجة للغبن بين شرائح المجتمع المختلفة. علاوة على ذلك الأرواح التي تفقد يومياً و الانفاق الباهظ على فاتورة الحرب بدلاً عن التنمية والخدمات.
(2) التعجيل بعقد مؤتمر دستوري يشارك فيه كل مكونات الشعب السُّوداني دون إقصاء لفئة بسبب الانتماء السايسي أو الحزبي أو العرقي أو الديني. وينبغي أن تطرح في هذا المؤتمر الحلول لكل الموضوعات والقضايا الملحة والحرجة في السُّودان بيد أنَّ هذه المشاكل معروفة وليس ما يدعو لمضيعة الوقت في البحث عنها.
(3) قبل كتابة الدستور الدائم للبلاد يجب عرض المقترحات المتعلقة به على الجمهور في المناطق الريفيَّة وشرحها بما فيه الكفاية لإزالة أي غموض ولالتماس موافقتهم بمفهوم محتوى الدستور المقبل. بمعنى آخر يجب مشاركتهم في كتابة هذا الدستور، وكما ينبغي عرضه بصورته النهائيَّة للاستفتاء الشعبي للموافقة عليه.
المستوى الإقليمي:
(1) العمل للتوحد بين كافة أبناء الأقاليم من أجل التوافق المجتمعي للوصول إلى رؤية تخرج أقاليمهم من المشكلات التي تهدِّد استقرارها وبقاءها موحدة.
(2) على النخب النأي عن الإثارة السالبة وانتهاج إلى أسلوب التهدئة ومناقشة قضيَّة مناطقها بالعقلانيَّة من أجل الوصول إلى الحلول التي تصب في مصلحة كافة سكان أقاليمهم. وهذا بالضرورة سينعكس على استقرار البلد كله أمنياً، وسياسياً مما يسفتح المجال للتنمية الااقتصاديَّة إلخ...
(3) على حكومات الأقاليم ومواطنيها العمل سويَّاً لبث روح وثقافة السَّلام بدلاً من خطاب الحرب والتخوين الذي يثير الإحساس بالاستهداف والشعور بالظلم.
(4) إشراك بصورة فاعلة قيادات الإدارة الأهليَّة في رأب الصدع الذي حدث بين فئات المجتمع من أجل إثراء إرث التعايش السلمي المحلي.
(1) الاهتمام بالتنمية كأولوية قصوى في الإقليم: إدارة وتطوير الموارد البشرية وقدراتها لاستغلال المواارد الطبيعيَّة الأخرى (تشييد البنية التحتية، الزراعة، تطوير الخدمات العامة إلخ...).
الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]
رابط الجزء الثاني من مقال الدكتور أحمد الحسب:
http://www.alrakoba.net/articles-act...w-id-67569.htm
المراجع
(44) الدكتور عمر مصطفى شركيان، في النزاع السُّوداني: عثرات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق، مطابع (إم. بي. جي)، لندن، 2015م.
(45) Nadel, S F, The Nuba: An Anthropological Study of the Hill Tribes in Kordofan; Oxford University Press: London, 1947.
(46) الدكتور قندول إبراهيم قندول، مدخل لدراسة قبيلة "روفيك" دميك، الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والدينيَّة، جبال النُّوبة – السُّودان، مطابع (إم. بي. جي)، لندن، 2015م.
(47) Stevenson, R C, The Nuba People of Kordofan Province: An Ethnographic Survey; Graduate Collge, University of Khartoum: Khartoum, 1984.
(48) محضر ورشة الخطة الإستراتيجيَّة لمجموعة "كا قولو" الأثنيَّة، كادقلي، 22 كانون الثاني (يناير) 2011م.
(49) The Heritage Foundation, 2016 Index of Economic Freedom, Washington, DC, 2016.
(50) أنظر الاتفاق الإطاري بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبيَّة حول جنوب كردفان والنيل الأزرق، ووكالات الأنباء المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي، حزيزان (يونيو) 2011م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.