"أثيوبيا تكدم" و تعني أثيوبيا التقدمية ، كان هذا شعار دولة الدرك بقيادة منقستو هايلي ماريام حين استولى ورفاقه اليساريين على السلطة في بلادهم بعد إسقاط سلطة الإمبراطور هيلاسلاسي و توجههم بإثيوبيا نحو المعسكر الشيوعي في خطوة غير مواربة للذهاب بعيدا في طريق الماركسية اللينينية كما كانوا يعلنون في خطبهم النارية و لكن سوء إدارتهم للبلاد وقهرهم المتواصل لشعبهم طوال سني حكمهم لم يتح لهم مجالا غير الهرب حين ثار هذا الشعب بمختلف قبائله ضد ما كان يعرف بالإرهاب الأحمر و اضطر منقستو إلى اللجوء إلى دولة زيمبابوي التي بقي فيها إلى أن وافته المنية هناك عام 2012م. خرجت أثيوبيا من رماد الحرب الأهلية التي أعقبت سقوط نظام الدرك لتستشرف عهد دولة الوفاق و الاتفاق بقيادة رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي الذي بدأت على يديه أولى خطوات نهضة أثيوبيا بدءا بالبنية التحتية و انتهاءً بسد النهضة الذي يعد اهم إنجازات أثيوبيا في القرن الحالي. كل الزملاء الذين زاروا أثيوبيا مؤخرا يجمعون على أنها تشهد تطورا لافتا لا تخطئه عين . فالبلاد اصبح لها نظام مواصلات و اتصالات متطورين حيث بدأ تشغيل المرحلة الأولى من شبكة المترو بالعاصمة أديس أبابا و صارت البلاد محل جذب للاستثمارات الأجنبية بفضل قوانين الاستثمار التي تقوم على شروط ميسرة و إجراءات تكاد تخلو من التعقيد والرشوة والفساد. أما الخطوط الجوية الأثيوبية فقد حافظت على سمعتها و ريادتها منذ القدم وبالتالي أكدت أثيوبيا على مكانتها كواحدة من اهم ملتقيات الطرق الجوية في وسط وشرق أفريقيا وتعد شركة طيرانها إحدى الخطوط الأفريقية القليلة جدا إن لم تك الوحيدة التي تربط شرق أفريقيا بغربها ، و للعلم فإن الخطوط الجوية الأثيوبية تمتلك 78 طائرة مختلفة الأنواع والأحجام منها 62 طائرة ركاب و 16 طائرة شحن وتصل هذه الخطوط إلى 80 وجهة في مختلف أنحاء العالم و يشهد مطار أديس أبابا حركة كثيفة طوال السنة ناقلا العابرين و الزائرين و السياح على حد سواء و عززت أثيوبيا مكانتها كقبلة للسياح بفضل طبيعتها الخلابة و تكوينها القبلي المتنوع الذي يجذب الدارسين والباحثين في مختلف مجالات المعرفة فضلا عن حالة الأمن والأمان اللتان تتسم بهما البلاد بصفة عامة رغم ما حدث من اضطرابات و أعمال عنف عرقية مؤخرا. أُدرك أن أثيوبيا لم تخرج من وهدتها بعد و لكنها على الأقل قد وضعت نفسها في مسار التنمية الصحيح و ما إصرار حكومتها على استكمال مشروع سد النهضة مهما تكن التكلفة والمخاطر و التحديات والاعتراضات إلا دليل على قوة إرادتها في تحقيق ما يصبو اليه شعب هذا البلد العريق الطيب والصابر أهله و اشعر أن قليلا من الجهد يمكن أن يجعل من هذه الشعب واحدا من ارقي شعوب أفريقيا و تبدو مظاهر رقي هذا الشعب في حرصهم على مظهرهم رجالا كانوا أم نساءً وعدم تأففهم من القيام بأي عمل مهما كانت طبيعته ثم ماذا أقول في شعب اعتاد أن يقف في صفوف متراصة للحصول على مقاعد في المواصلات العامة خلافا لما يمكن أن تشهده في جميع الدول الأفريقية و هو شعب يمنعك بائعو الزلابيا على أركان الشوارع بالمدن في حزم واضح من أن تمتد يدك لأخذ عينة من معروضهم دون أن تكون بيديك قفازات ، بلاد تفتح فيها الركشات أبوابها من جهة واحدة امتثالا للنظام و حفاظا على سلامة مستخدمي وسيلة المواصلات المتواضعة هذه ، وأما مقدمو الخدمات العامة في الدواوين الحكومية و الفنادق والمقاهي والمطاعم و المطارات و غيرها فيحملون الزوار على كفوف الراحة حتى لا يبقوا لهم بدا من التعبير عن مشاعر الرضا والامتنان. كانت تلك انطباعات بعض من الزملاء الذين قضوا مع أسرهم عطلة عيد الفطر الماضي في ثلاثة مدن أثيوبية. يبقى أن أقول إن ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو رسالة الواتساب التي بعث بها اليّ احد الأصدقاء وتتضمن فيديو عن القطار الذي نفذت أثيوبيا بناءه مؤخرا بتكلفة 3 مليار دولار وبدأت تشغيله تجريبيا بحضور وزير المواصلات الأثيوبي الذي أشار أثناء استخدام احدى الرحلات التجريبية أن هذا القطار سيربط عاصمة بلادهم بميناء جيبوتي و هذا تأكيد على انهم عقدوا العزم على استكمال ما تبقى من بنيات تحتية لأحداث الأثر التنموي المطلوب بعد اكتمال سد النهضة و اخشى أن تكون هذه بداية التخلي عن استخدام موانئنا لإدخال وارداتهم وتمرير منتجاتهم إلى العالم الخارجي و تلك لعمري خسارة كبيرة ليس لمكاسبنا الاقتصادية المرتجاة من مثل هذا التواصل مع جيراننا فحسب بل من جهة إضعاف عرى العلائق الوثيقة التي تربطنا بهذا البلد وشعبه ، ولم يقف السيد الوزير عند هذا الحد بل المح إلى انهم يخططون لتوسعة و تمديد هذا الخط ليصل إلى جنوب السودان و كينيا و هذا طموح مشروع بالطبع لكنه طموح على حسابنا بلا شك. تفعل أثيوبيا كل هذا أمام أعيننا وتتطور ما شاء لها التطور و نحن على ذلك من الشاهدين و اذا كنا ما نزال نعيش على وهم التعالي المتمثل في مقطع الأغنية الذي يقول " أنت حبشي و لا ود بلد" في إشارة إلى نظرتنا الدونية للأثيوبيين فسيجيئ يوم نبحث فيه عمن يخدمنا من " الأحباش " فلن نجده ، شأنهم في ذلك شأن العمانيين الذين كانوا يشغلون مهنة عمال النظافة في الدول المجاورة لهم وما أن دعا داعي العودة إلى بلادهم بعد تحسن حالتها الاقتصادية لم يتخلف منهم أحد في تلبية نداء الوطن. لكن الشيء الغريب هو إنني حين التقيت ومعي بعض الأصدقاء احد المسؤولين في مجال الاستثمار خلال إجازتي بالسودان الشهر الماضي و تشعب بنا الحديث إلى ما يحدث في أثيوبيا من جذب للاستثمارات قلل هذا المسؤول من شأن ما يقال عن أثيوبيا مشيرا إلى أن ما يحدث في بلادنا افضل مما نسمعه عن أثيوبيا و أن الإعلام و الانطباعات الشخصية تضخم ما يحدث هناك مشيرا إلى انه زار أثيوبيا في مهام تتعلق بطبيعة عمله مرات عديدة و بالتالي فهو يعرف عنها الكثير خاصة في مجال الاستثمار، لم أحاول الدخول في جدال مع هذا المسؤول لأن من سمع ليس كمن رأي حسب الاعتقاد السائد لكنني لم استطع حتى الآن الاقتناع أن هناك من يحاول تجميل صورة أثيوبيا على حساب بلادنا ولا ادري لماذا جاءني الشعور بأن ملاحظة هذا المسؤول لم تكن إلا من قبيل المكابرة وهي واحدة من الصفات التي تحول دوننا وبلوغ أهدافنا المنشودة ليس في شأن الاقتصاد فحسب بل في جميع شؤون حياتنا الأخرى. يحيى حسين قدال [email protected]