الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    عيساوي: حركة الأفعى    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية
نشر في الراكوبة يوم 10 - 11 - 2016


لِسانُ الرَّمْلِ المُبين
رواية

الإهداء:
إلى والدي: علي عبود أحمد
إلى والدتي: خديجة إبراهيم عبد الحفيظ
إلى إخواني: أزهري، بدر الدين، عمر، وعثمان
□□
أمطرت السماءُ، فتصاعد النواحُ من كوخٍ مكتظٍّ بالنساء. كانتِ المرأةُ، التي فاجأها المخاض فجراً؛ قد أنجبت توأماً؛ ثم فارقت الحياة.. ومع شروق الشمس، وبينما قطرات المطر تتساقط هوناً، ساد الهرج في الأكواخ القليلة، المتناثرة، ثم تواتر إيقاع النقَّارة، ينبئ بأنَّ القنَّاصة قادمون!! حمل الرجالُ والفتيانُ رماحهم، وانتشروا خارج الأكواخ المتناثرة. عواجيزهم باشروا دفن الأم، بينما حملت النساء التوأم، وغادرنَ أكواخهنَّ يتبعهنَّ الأطفال. توغَّلنَ وسط الأدغال الكثيفة، يزلزل خطواتهنَّ الحزن، والخوف، والظنون. الزوج في دوامة الفجيعة، حمل رماحه لصد الغزاة، الذين ما انفكُّوا يصطادون فتيانهم، وفتياتهم. يصطادون الأطفالَ والنساء.. كانت الأرضُ موحلةً، لكنَّ الزوج أسرع الخطى، يهسهسُ بصدره نحيبٌ مكبوت. وقال في نفسه: "من أيِّ الجهات سيأتون، وكم عددهم، وهل جاؤوا على صهوات الخيول كعادتهم؟".. حزنٌ فادحٌ انتاش قلبه، بينما طيفُ زوجته يتموَّجُ بخياله. تذكَّرها صبيةً نحيلةً، طويلة السيقان. وقال في نفسه: "أنجبتْ توأماً وفارقت الحياة، ثم داهمنا الغزاة؛ فيا لها من مأساة".. فجأةً، اخترق الصمتَ دوي البنادق، فتوقف لبرهةٍ كي يتبين مصدر الصوت، ومن ثم عدَّل مساره وركض.. هل سيلتقيهم وجهاً لوجه؟ وإلى أين ذهب رجال العشيرة الذين سبقوه للمواجهة؟ ركض أسرع لكنَّه سمع حمحمةً فتوقف، وقال في نفسه: "هل نصبوا كميناً وأسروا رجال العشيرة؟ عشرة من رجالنا خرجوا لملاقاتهم، فهل اشتبكوا معهم؟".. تلفَّت حائراً.. هل يتقدم في اتجاه صوت البنادق، أم يتريث قليلاً؟ تحرَّك بصدره دبيب التوجُّس. نداءٌ غامضٌ يدعوه للفرار، لكنَّه قال في نفسه: "الفرارُ عارٌ. سأقاتلهم حتى النهاية، ولكن أين هم الآن؟ وهل يكمنون قريباً من هنا؟"..
عاد سبعة من رجال العشيرة إلى أكواخهم، بعدما قُتِلَ ثلاثة منهم. قُرِعَت النقَّارة كي تعود النساء والأطفال، الذين توغَّلوا في الغابة. وحينما التأم شملهم مع عائلاتهم؛ علموا أنَّ زوج المرأة التي أنجبت قبيل الشروق، لحق بهم، لكنَّهم لم يلتقوا به.. وبعد أيامٍ من الانتظار، انقطع أملهم في عودته، فهل تاه في الغابة فالتهمته الوحوش، أم وقع أسيراً؟ وقالت بعض النسوة: "إنَّ مولد توأم، وموت الأم، ثم هجوم القنَّاصة وغياب الزوج، كلُّ هذا في وقتٍ واحدٍ ينذر بشرٍّ مستطير".. كانت معتقداتهم تتوجَّس من ميلاد التوائم.. وقالت إحداهنَّ: "فرِّقوا المولودتين على مرضعتين. لأنَّهما إن عاشتا في حضنٍ واحد، فلعنةٌ ماحقةٌ ستعصف بالعشيرة!!".. لكنَّ امرأةً واحدةً كانت تُرْضِعُ طفلاً في أسابيعه الأولى، تولَّت إرضاع التوأم من ثدي واحد، والثدي الآخر لابنها..
استنفرت العشيرة رجالها، وشبابها، لصد الغزاة، الذين ما انفكُّوا يغيرون على ديارهم. بيد أن القنَّاصة واصلوا اختطاف الأطفال والصبايا.. فأيِّ جرمٍ اقترفوه حتى ترمي بهم الأقدار إلى مرجل الشقاء؟! ينتزعهم القنَّاصة من مهاد الطفولةِ، والصبا. من بين الأشجار الظليلة، والعصافير المغرِّدة. يقودهم رجالٌ قساةٌ بالسلاسل والأصفاد، حفاةً وشبه عراة، يقطعون الفيافي، والدروب، إلى زرائب أعدت لمأواهم، لريثما يعرضون للبيع والمساومة.. كم من الحقبِ والقرون، والبشرُ يكابدون مشقة الاسترقاق؟ وأين، وكيف، ومتى بدأ استلاب البشر، وتحويلهم إلى قطيع من الحيوانات، بعد أن تُدكَّ مشاعرهم، تحت سنابك القهر والتعذيب؟ لربَّما بدأ الرق في العشائر الطوطمية الأولى، أو مع نشوء الأسرة، حيث اضطرت المرأة إلى خدمة الرجل، لأنَّ قوتها البدنية أضعف، ولا تستطيع أن تشارك بفعالية، في مطاردة وصيد الحيوانات، في الأحراش والغابات. وربَّما قبل ذلك في مرحلة اِلْتِقاط الثمار. استشرى الرق في كلِّ المجتمعات البشرية. ووصل إلى ذروته في المأساة المروِّعة، التي استمرت لقرون. من غرب إفريقيا، وعَبْرَ المحيط الأطلسي، مات الملايين تحت التعذيب، بأدوات القهر الجهنمية، التي تبقر البطون، وتقطع الأجساد، وتفقأ العيون. بينما واصلت ملايين أخرى، رحلة الذُّلّ والهوان إلى الأمريكتين، حيث عاشوا بين سندان التعذيب، ومطرقة العمل المهلك، في مزارع القطن، والفول السوداني.. هكذا ترسَّبت العذابات الفادحة، وأشواط القهر، والهزيمة، في نفوس الذين استُلِبَتْ حريتهم، وسُحِقَتْ كرامتهم الإنسانية. وترسَّب الصلف، والعنجهية، وبلادة الشعور، في نفوس الجلادين، ومن ثم توارثت الأجيال البشرية القهر، والهزيمة، وبلادة الشعور. فبأيِّ المناهجِ يُمْكِنُ تحرير الإنسانِ من عتمة الماضي، وتداعياته المدمرة؟
واصلت العشيرة زراعتها، وإيقاعاتها، ورقصاتها، بيد أنَّ حكاية التوأم ما زالت تؤرقهم. والمصائبُ تطاردهم.. الفول السوداني الذي زرعوه حول أكواخهم، ألمَّتْ به آفةٌ قرضت أوراقه، وسيقانه الطرية. ولم يلبثوا أن فقدوا صبياً التهمه نمرٌ جائع، فتصاعد الهمسُ إلى العلن، وقالوا إنَّها لعنة التوائم، التى لن تزول إلا بالتخلص من إحداهما!! فهل يقبل أعمامها وخالاتها؟ وقالت إحداهنَّ: "علينا بالحيلة".. وتواترت حكاياتٌ قديمةٌ عن لعنةٍ ضربت أسلافهم بعد مولد بنتين توأم. في تلك الأيام، كادت الأوبئة تفنيهم لولا أنَّهم تخلصوا من واحدة. وقيل من الأفضل تركها للسباع الجائعة.. ظلَّ السؤال يُؤرِّقُ الجميع.. هل من الحكمة قتل إحدى البنتين، حتى لا تضربهم لعنة الخراب؟ أم أنَّ اللعنة ستطالهم في الحالتين، سواء أقتلوا إحداهما أم تركوها. وقيل همساً: "لتذهبا بعيداً عنا".. تباينت آراؤهم وسط دوامات الحيرة، والقلق. لقد تواترت في حكاياتهم الشفاهية، قصصٌ عن توائم من البنات وُلِدْنَ للعشيرة، وفي كلِّ مرةٍ كانت واحدة منهما تموت؛ فينجوا قومها من لعنة الخراب. والآن، هل ينتظروا حتى تموت إحداهما، أو كلتاهما؟
يدور السؤال ويتواتر الهمس والأقاويل، بينما التوأم الصبيتان تجوبان وسط الأشجار الظليلة، تطاردان الفراشات. تبنيان أعشاشاً من أعواد القصب، ثم تهدمانها. بعض الأقاويل طرقت آذانهما لكنَّهما ظلَّتا تلعبان وتمرحان، ولا تفترقان.. كان معظم أفراد العشيرة لا يستطيعون التمييز بينهما، وينادونهما بالتوأم. وكل فعلٍ يصدر من إحداهما ينسب إليهما معاً، كأنَّهما شخصٌ واحد. لذلك قيل إنَّ الشبه بين ملامحهما، وسلوكهما، هو ما سيجلب اللعنة، التي ستحلُّ بهم لا محالة.. رجلٌ أعور كان ينصت للأحاديث حول التوأم دون أن يبدي رأياً. وحين طَلَبَ منه أحدهم أن يساعدهم في حل معضلة التوأم، قال إنَّه لا يدري. فقيل له إنَّك تعرضتَ للأسرِ، وعشتَ في الديار الغريبة لسنواتٍ طويلةٍ، فهل تستطيع مساعدتنا في ترحيل إحداهما إلى هناك؟ لكنَّه اعتذر عن المشاركة في أي عملٍ ضد أو مع التوأم، بينما صدره يُضْمِرُ أمراً ما.. قبل عشرات الأعوام، أَسَرهُ القنَّاصة، واقتيد مصفداً. وفي سوق الرقيق بالفاشر، سنحت له فرصةً فانتزع عصاً غليظةً، وهوى بها على رأس الرجل الذي يعرضه للبيع. قيدوه في الأصفاد، وفقؤوا عينه اليمنى، ثم أجبروه بعد ذلك على حمل الماء على كتفه؛ ليسقي رواد السوق. العمل الشاق حوَّله من شابٍّ مفتول العضلات، إلى رجلٍ نحيلٍ ضامر الأعضاء.. وبعد عشرين عاماً قضاها ذليلاً، منكسراً، عَرَضَ عليه أحد القنَّاصة، أن يساعدهم في جلب البشر، وتحويلهم إلى رقيق. اشتروه من سيِّده بثمنٍ بخس، ورحل معهم على ظهر حصان إلى أعماق الغابات، حيث احتمى سكانها من هجمات القنَّاصة. وطلبوا منه أن يعثر على قومه ثم يعود إليهم ليساعدهم في القنص ويعطوه أجراً. وبعد مسيرة يوم وليلة على قدميه، استطاع الأعور العودة إلى عشيرته، وانخرط في الحياة وسطهم متجاهلاً وعده للقناصة. لكن العاهة في عينه اليمنى سببت له متاعب لم يكن يتوقعها. كانوا يعيرونه بعينه المفقوءة، وبالسنوات التي قضاها في أتون القهر، والاستعباد. عشرون عاماً قضاها رقيقاً، يكدح طوال النهار في جلب الماء من آبار عميقة. ثم يحملها على كتفه مسافات منهكة، ويقتات في كثيرٍ من الأحيان كسرةً يابسة.. وها هو يعود إلى عشيرته بعدما هدته سنوات الذُّلّ والشقاء. العاهة في عينه حرمته من الزواج، وليست لديه قدرة على الزراعة. فهل يقضي بقية حياته وحيداً، منبوذاً، حتى من بني جلدته؟
واصل الأعور الترصُّد. حذراً يتابع خطوات التوأم، لكنَّ إحساساً غامضاً ما انفكَّ يناوشه! هل ثمَّة من يراقبه؟ وقال في نفسه: "هل يعرف أحدهم نواياي؟! ولكن من أين لهم المعرفة، وأنا لم أخبر أحداً منهم بما نويت فعله، ولن أخبرهم".. وحين عصفت به الحيرة، انزوى في كوخه لثلاثة أيام. تلظى على جمر التردُّد يقلِّب الاحتمالات. وقال في نفسه: "إذا تآمرت مع القنَّاصة لخطف التوأم، فهل سيعطونني من المال ما يكفي لكي أعود إلى الفاشر لأعيش هناك وحيداً؟! لن يعترض طريقي أحد.. ذهب الشباب، والقوة، والقدرة على تحمُّل العمل الشاق. سيتركونني لشأني لأنَّني لن أنفعهم بشيء.. فكيف أبدأ الخطوة الأولى، ومتى؟!"..
مصير التوأم شغل الجميع. كانت النساء أكثر تعاطفاً معهما، رغم خوفهنَّ من المجهول، ومن لعنةِ الخرابِ، التي ستصيبهم لا محالة. أمَّا الرجالُ فتباينت آراؤهم. دعاهم كبيرهم فاجتمعوا تحت ظلال شجرةٍ عتيقة. احتدم خلافهم، وحينما هوَّم حولهم صمتٌ هش، صاح أحدهم: "اقتلوهما إن أردتم النجاة؛ لأنَّ لعنة التوائم لا ترحم".. صمت الجميع؛ وخيَّم فوقهم التوجُّسِ، والخوف، فقال كبيرهم: "لا تسفكوا الدماء، حتى لا تنحلَّ روابط العشيرة. فالدم هو ما يجمعنا، فإذا سفكناه، أصبحنا فريسةً سهلةً للأعداء المتربصين بنا".. وحين غادروا الظلال إلى أكواخهم، قال الحدَّاد في نفسه: "هل أنا ناقمٌ على والد التوأم الغائب منذ ولادتهما، لأنَّه استطاع الفوز بأجمل فتيات القبيلة، وكنت أحقَّ بها من الجميع؟ يا للمسكينة، وضعت توأماً وفارقت الحياة".. وعندما دخل إلى كوخه بادر زوجته قائلاً:
- إنَّ حياة التوأم لن تجلب لنا سوى الخراب.
- وماذا قررتم بشأنهما؟
- قال كبيرنا لا تسفكوا الدماء.. لكن العشيرة في خطر، هذا ما يقوله أكثر الرجال.
- وما العمل؟
- العمل، العمل..
بغتةً صَمَتَ الحدَّاد. اشتعل بعينيه بريقٌ ماكرٌ، وقال في نفسه: "هل يستطيع الأعور مساعدتي؟ لقد عاش لسنواتٍ طويلةٍ بعيداً عن العشيرة، وربَّما تكون لديه أفكارٌ مفيدةٌ، عن كيفية الخلاص من التوأم. ما عساه أن يقول؟ لقد عاد من الأسر كسير النفس، محطماً. إنَّه لا يكاد يكلِّم أحداً. لقد سلبوا جسده، بعدما قتلوا روحه، ثم لفظوه، فعاد إلينا جسداً ضامراً وروحاً هامدة"..
الحدَّاد كان ماهراً في صناعة الرماح والسكاكين، لأنَّه بدأ العمل مع أبيه منذ الطفولة. وكان يعتقد بأنَّه الأجدر بالزواج من أجمل فتيات العشيرة. لكنَّ والد التوأم فاز بها، لأنَّه دفع سبع معزاتٍ ومثلهنَّ من النعاج مهراً لأهلها، بينما هو لا يملك سوى عمل يديه. كَتَمَ حقده بين ضلوعه، راجياً أن تهبه الأيام فرصةً للانتقام.. ويوم فاجأ الأعور برغبته في التعاون معه لخلاص العشيرة، صمتَ الأعور ثم قال في نبراتٍ مرتعشة، إنَّه لا يُضْمِرُ الشر لأحد. فقال له الحدَّاد: "أنا لم أحدِّثك عن الشر، سنتعاون لأنَّك عشتَ لسنواتٍ طويلةٍ بعيداً عنا، ولا بدَّ وأنَّك تعرف قناصة البشر".. ارتاب الأعور في كلام الحدَّاد، رافضاً أن يخوض في أمر التوأم، كاتماً نواياه في صدرٍ تمور به الظنون. وبعد أيام، قال له الحدَّاد صراحةً: "إذا استطعنا أن نرشد القنَّاصة لمكان التوأم، فسنجني بعض المال، ونخلِّص العشيرة من لعنة الخراب".. "دعني أفكِّر".. قالها الأعور ثم أضاف: "أنا رجلٌ وحيدٌ وضعيف، ولا يمكنني مجابهة رجال العشيرة إذا كُشِفَ أمرنا".. فعاجله الحدَّاد قائلاً: "من أين لهم أن يعرفوا؟! سنكتُم سرَّنا.. ثم إنَّ الكثيرين يتمنون الخلاص من إحداهما، أو كليهما. هيا ضع يدك في يدى، ولنبدأ العمل، فأنتَ تعرف الطريق إلى القنَّاصة. اذهب وأعرض عليهم تعاوننا، وسأتولى أنا أمر التوأم"..
يدور السؤال في العقول، ويتواتر الهمس والأقاويل، بينما التوأم تجوبان دروب الغابة، تطاردان الفراشات. يدور السؤال وتلوح النُّذر.. "كيف ندرأ لعنة الخراب عن عشيرتنا؟".. هكذا كان لسان حالهم يقول. فهل تهبهم الأقدار حلاًّ دون أن يتورطوا في القتل؟ وحين استشاروا الكجور جاءت إجاباته مبهمة. فهل يخشى من التوأم؟ "هل نحن في حاجةٍ إلى رجلٍ جسورٍ يخلصنا من التوأم، حتى لا نحصد اللعنة؟".. هكذا قالت امرأة عجوز، فأحنى بعضهم رؤوسهم بالموافقة، ولكن مَن يتجرأ؟ مَن يتقدم الصفوف فداءً للعشيرة؟ لا أحد من الشبان قَبِلَ هذه الفكرة، بل إنَّ معظمهم يرفض تماماً التضحية بالتوأم. وكانوا يقولون: "ما ذنب التوأم! إن كان هناك ثمَّة لعنة، فبسبب أعمال الكبار".. ظلَّت الحيرة تلف الجميع، والخوف يترصد خطاهم. وذات صباحٍ حُمِلَتْ طفلةٌ إلى الكجور. كانت تصرخ، يلمع بعينيها بريق الرعب. قِيل يومها إنَّ التوأم تحولتا إلى قطتين سوداوين، ودخلتا إلى كوخ الطفلة التي كانت وحيدة. وقفت القطتان عند منتصف العشة، يتلألأ بعيونهما بريقٌ مرعب. اضطربت الطفلة وتشنجت، ثم انتابتها هستيريا الصراخ، حتى لحقت بها أمها. كان صراخ الطفلة الهستيري قد جلب الجيران، الذين قرروا أن يحملوها إلى الكجور، حتى يهدئ من روعها. وبينما هم في طريقهم إلى الكجور، قُرِعَتْ الطبول فهرع الرجال إلى رماحهم، وتنادوا للخروج لمطاردة القنَّاصة، الذين اختطفوا صبياً من أطراف الغابة، ولاذوا بالفرار. قبيل الغروب، اجتمع الرجال كي يتخذوا قراراً بشأن القنَّاصة، لأنَّ نُذر الخراب قد بدأت كما قال بعضهم. وقال أحدهم: "لنرحل إلى أعماق الغابات، لنرحل.. لقد حلَّت بنا لعنة التوأم، وفشلت كل تدابيرنا في صدِّ الغزاة، الذين يقتلون شبابنا ورجالنا، ويصطادون الصبايا، والفتيات، كأنَّ لديهم قوةً سحريةً، يتابعون بها تحركاتنا، ثم يفاجؤوننا فرادى!! فهل يملكون سحراً ما، أم أنَّ في الأمر سراًّ لا ندركه؟!".. تشعبت تحليلاتهم، وتأويلاتهم، وأحاديثهم الجانبية، حتى دعاهم صوتٌ جهوري إلى الصمت. جال كبيرهم ببصره كأنَّه يبحث بينهم عن رجلٍ يوجه إليه الكلام. ثم قال: "حسناً، بعد الحصاد نبدأ الرَّحيل، هل توافقون؟".. وافق معظم الحاضرين صراحةً، ولاذ أقلهم بالصمت. ومع غروب الشمس، تفرقوا إلى أكواخهم، بينما السحب الرمادية تجوب السماء الزرقاء.
الحدَّاد كان في كوخه ولم يشارك في الاجتماع. كانت زوجته تشوى قطعاً من اللحم. وضعته في طبق وقدمته لزوجها قائلةً: "هل سمعتَ مواء القطط؟".. وحين أومأ برأسه موافقاً، أضافت: "إنَّهما التوأم، تنويان شراًّ".. تجاهل الحدَّاد كلامها وغادر الكوخ، ثم صاح ينادي أقرب جيرانه ليشاركه الطعام، وليعلم منه ما دار في اجتماعهم بشأن القنَّاصة. الزوجة خرجت من الكوخ تُنْصِتُ لصوتٍ ما. خيِّل إليها أنَّ أقداماً تسعى بجوارهم. وحينما عاد الحدَّاد إلى داخل الكوخ، شاهد قطَّين يلتهمان اللحم المشوي. لبرهةٍ خاطفةٍ شُلَّ تفكيره، لكنَّهُ سرعان ما خطف رمحاً، ورمى به القطَّين فهربا، بينما تناثرت قطراتُ الدمِ، عند مدخل الكوخ. هرعت الزوجة إلى الداخل، فأخبرها زوجها بما حدث؛ فوجمت. رعشةٌ خفيفةٌ سرت تحت جلدها حينما سألت: "هل تقول: قطَّان أسودان، أم لعلَّهما قطَّتان؟".. تسرَّب القلقُ، وشيءٌ من الخوفِ، إلى صدر الحدَّاد حين قال: "كيف لي أن أعرف.. قطَّان أم قطَّتان ما الفرق؟!".. فقالت الزوجة : "إنَّهما التوأم".. "غير معقول".. صاح الحدَّاد ثم أضاف: "لقد لمحت بريقاً مخيفاً في عيونهما. كانت تتحداني، وحتى عندما انتزعتُ الرمحَ من جوار مدخل الكوخ، لم تسرعا بالهرب، فرميتُ رمحي وأصبتُ إحداهما"..
وسط الأشجار الكثيفة، كانت إحدى التوأم جريحةً في ساقها اليمنى، بينما الأخرى تحاول وقف النزيف. مزَّقت طرف ردائها؛ لتحصل على قطعةَ قماشٍ تضمِّدُ بها الساق النازفة. كان الليلُ رطباً، والظلامُ حالكاً، والانتظارُ مريراً. كانت الدقائق تمضي عسيرةً، وكلَّما نَزَفَ الجرحُ، مزَّقت التوأم الأخرى، قطعةً جديدةً من ردائها؛ لِتُحْكِمَ ربط الساق. ومع خيوط الفجر الأولى، أسرعت الخطى حتى وقفت عند شجرةٍ سامقةٍ، وساقها أبيض. بأسنانها نهشت لحاء الساق وهي تسابق الزمن. انتزعت شريحةً من الساق الأبيض، ثم عادت مسرعةً إلى أختها. كانت الجريحةُ تغمغمُ بعدما فقدت كميةً من الدم. فكَّت التوأم الأخرى القطع الملطخة بالدماء، ثم وضعت اللحاء على الجرح، وربطته بقطعة نظيفة. وحين توقف النزيف، أغمضت الجريحةُ عينيها..
في الصباح توافد الأهالي إلى كوخ الحدَّاد، ليشاهدوا قطرات الدم، المتناثرة على مدخل الكوخ: "أين هما الآن؟".. تساءل أحدهم فأجابه أكثر من واحد: "لا يوجد أثرٌ للتوأم! ربَّما هربتا إلى عمق الغابة".. "لا".. قالها الكجور، ثم أضاف: "ربَّما حدث أمرٌ ما".. "وما هو؟".. تساءلوا في صوتٍ واحد.. تفحَّص الكجور قطرات الدم قبل أن يقول: "سنعرف في الوقت المناسب. أما الآن، فهلموا لنبحث عنهما، لأنَّ اختفاءهما بعد هذه الحادثة يُنذر بالشر".. حول كوخ التوأم اجتمعوا مرةً أخرى، بعدما أمضوا نهارهم في البحث دون جدوى. امرأةٌ شابةٌ دخلت الكوخ وخرجت لتقول إنَّهما نائمتان، وإحداهما جريحة. سرت الهمهمة، والأسئلة، وأطياف الخوف.
ظلت الجريحة طريحة الفراش، بينما الأخرى تخرج وحيدةً لجلب الطعام من الخالات والعمات. الكجور زار الجريحة وقال إنَّها ستشفى، لكنَّها الآن ضعيفةٌ، لأنَّها نزفت كثيراً من الدماء. وقال كثيرون لقد حلَّت اللعنة بالحدَّاد، وذهبوا ليتأكدوا بأنفسهم.. كان الحدَّاد قد فقدَ القدرة على العمل. رعشةٌ قويةٌ تعتري كفيه عندما يشرع في العمل. وحين يترك قطع الحديد، تعود الكفان لحالتهما الطبيعية. ولمَّا سُئِلَ الكجور عن مرض الحدَّاد قال لهم أمهلوني لأيَّام.. كان أغلبهم ينتظرون. لقد فقدوا رماحهم في تصديهم للغزاة، الذين عاودوا نشاطهم بأعدادٍ أكبر. كانوا يقتلون بالبنادق اثنين أو أكثر؛ ليصطادوا الرابع ويفرون به. ازدادت الهجمات فأصبح الحدَّاد هو أملهم ليمدَّهم بالرماح، ولكنَّه فقدَ القدرة على العمل. "إنَّها اللعنة".. قالها كثيرٌ من الرجال والنساء. وقيل جهراً: "اقتلوا التوأم المشؤوم"..
التوأم الجريحة ما برحت كوخها لأكثر من شهر، بينما الأخرى تخرج وحيدةً لجلب الماء من موردٍ قريب. كانت تحدِّث نفسها بأنَّ توأمها ستشفى، لكن قدراً فادحاً يترصد خطاها. ظلَّت الأطيافُ تطاردُ الأخرى وهي في طريقها لجلب الماء. وحين همَّت بأن ترفع سطل الماء فوق رأسها، اشتعل بدماغها برقٌ راعفٌ. وكأنَّها أبصرت توأمها، مصفدة اليدين والقدمين؛ وثمَّة نواحٌ وشحوب، وثمَّة غروب. توأمها ترسف في الأغلال؛ بينما عددٌ من الرجال يدورون حولها. ينبشون صدرها، وأردافها، يفتحون فمها ليحصوا عدد أسنانها. برقٌ راعفٌ كنصلٍ جارحٍ أصاب قلب التوأم الأخرى، فأورثها الحزن والشجون.
التوأم الجريحة لم تغادر الكوخ، بينما الأسئلة حولها تدور. بعضهم تمنَّى موتها لترتاح، وتريحهم كما يتصورون. تكاثرت هجمات الغزاة وقلَّت الرماح، بينما الحدَّاد عاجزٌ عن العمل. عجز الكجور عن علاج يديه، من الرعشة التي تعتريهما حالما يمسك بالحديد. وحين اجتمعوا إلى كبيرهم قالوا: "حين يأتي أوان الرَّحيل، فهل ترحل التوأم معنا؟".. تساءل بعضهم والحيرة تلفهم. وقال أحدهم: "إذا تركنا التوأم وراءنا فهل سننجو من لعنة الهلاك؟".. ظلَّت الأسئلة بلا إجاباتٍ، فآثروا الانتظار. وحين كادت الجريحة تتماثل للشفاء، غادرت الكوخ فاربكتهم الأسئلة، وخيَّمت فوقهم ظلال المأساة.. بينما عيون الحدَّاد، والأعور، تتابع خطوات التوأم، وتترصد؟
وذات نهارٍ قائظ، كانت التوأم تتجولان تحت الظلال. توغَّلت التوأم الجريحة بين الأشجار الكثيفة، تطارد بعينيها فراشةً زرقاء، تتموَّج بين الأوراق اليانعة. خاطرٌ عابرٌ غشي بصرها، بينما الفراشة تتوارى خلف الأوراق الخضراء حيناً، لتظهر من جديد. وبينما الجريحة ترصد المشهد في شغفٍ وانبهار، تبرعم بصدرها القلق، والتوجُّس، وتلوَّجت بعينيها أضواء النهار. حلَّقت الفراشة عالياً فوق هامة الأشجار، ثم سبحت إلى أفقٍ بعيد. برقٌ خاطفٌ اشتعل بوجدانها، فلمحت أجنحة الفراشة تتحول إلى سحابةٍ صغيرةٍ، ثم إلى سماءٍ مفتوحة.. سماءٌ زرقاءٌ، فهل ثمَّة ضياء؟ التوأم الجريحة في بؤرة التوقع تناوشها الهواجس، والظنون. خيِّل إليها أنَّها جالسةٌ تحت شجرةٍ يابسة. وحيدةً كسيرة الجناح، تنهش وجدانها سهام اليأس الضرير. وحيدةً تجرِّر قدميها، تخشخش تحت خطواتها الأوراق اليابسة، وثمَّة غبارٌ خفيف، وثمَّة حفيف. بغتةً توقفت؛ ثم تمترست في بؤرة الانتباه؛ تُنْصِتُ لوقع حوافر الخيول..
التوأم الأخرى وخزها نداءٌ حزين، فأسرعت الخطى لتلحق بتوأمها. صاحت بصوتٍ جريح: "يا أختاه، يا أختاه.. ي ا أ خ ت ا ه".. تناثرت حروفها ثم همدت حين لمحتهم قادمين. ترنَّحت خطواتها ثم توقَّفت.. اختبأت خلف ساق شجرةٍ عاتيةٍ، تُنْصِتُ لوجيب قلبها المتسارع. وقالت في نفسِها: "هل أترك توأمي للأشرار؟".. زلزلها التردُّدُ.. تقدمت خطوةً واحدةً ثم عادت للاختباء، فهل أبصرها أحدهم؟ تسعة من الرجال على صهوات الخيول، رموا أنشوطتهم واصطادوا التوأم، التى كادت تتعافى من جراحها. رفعها أحدهم على ظهر حصانه، ثم ولُّوا هاربين..
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.