تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مواقف مهدي السودان حيال الرق وتحريره

The Sudanese Mahdi's Attitudes on Slavery and Emancipation
كيم سيرسي Kim Searcy
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما جاء في مقال لكيم سيرسي أستاذ التاريخ المشارك بجامعة شيكاغو عن "مواقف مهدي السودان حيال الرق وتحريره"، والمنشور في العدد الأول من مجلة Islamic Africa الصادرة في عام 2010م. ويحاول الكاتب (والذي تعلم العربية بمصر، وبالسودان في جامعة أفريقيا العالمية) في مقاله هذا، مستعينا بتحليل منشورات وخطب وأحكام المهدي أن يدحض رأي بيتر هولت ونعوم شقير وغيرهما من المؤرخين الذين كانوا يرون أن محاولة منع الحكم التركي – المصري لتجارة الرقيق كانت أحد أهم أسباب قيام الثورة المهدية.
وللمقارنة فقط فقد حرمت مثلا هولندا تجارة الرقيق في 1814م، وتبعتها فرنسا في 1818م، والبرتغال في 1836م، والأرجنتين في 1853م، والولايات المتحدة في 1863م.
المترجم
***** * ********* *********
تقديم
غدت تجارة الرقيق مشروعا تجاريا أساسيا في الاقتصاد السوداني في القرن التاسع عشر. وبحلول عام 1877م كانت تلك التجارة هي المهنة الغالبة في شمال السودان. وأخفقت، منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، كل محاولات الحكومة التركية – المصرية منع أو تثبيط تجارة الرقيق. غير أنه يصح القول أيضا بأن سياسات منع تلك التجارة كانت قد أحدث تأثرا سالبا في حياة سكان شمال السودان، وشكلت قاعدة لقلقلة واضطرابات في المجتمع المدني، وأدت في بعض الحالات لتمرد أو انتفاضات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال كانت سياسة منع تجارة الرق عاملا أساسيا في ثورات وقعت في بحر الغزال وكردفان ودارفور في عام 1878م. ويعد بعض المؤرخين (مثل البريطاني بيتر هولت) منع تلك التجارة أهم سبب لقيام أكبر ثورة في السودان لقيت نجاحا، ألا وهي الثورة المهدية.
ويوضح هذا المقال أن منشورات قائد تلك الثورة (محمد أحمد المهدي) تشير إلى أن الرق وتجارته كانت تحتل مكانا ثانويا في سلم اهتماماته وأولياته (خلافا لما كان عليه الحال في الثورات المحلية التي سبقته في عام 1878م)، وأن دافع المهدي للقيام بتلك الثورة ضد الحكومة المصرية كان دينيا محضا.
ونورد هنا من واقع كتابات المهدي أنه لم يكن معارضا للرق ولا داعيا له، وكان مبلغ همه أن يدخل الرق - كمؤسسة- ضمن نظرته الشاملة لقيام ثيوقراطية إسلامية. فعلى سبيل المثال كان المهدي يعد الرقيق ب "العتق (الحرية) في هذا العالم، وبالجنة بعد الممات" إن انضموا لصفوفه وحاربوا تحت رايته. وفي ذات الوقت كان يعد تجار الرقيق بالعفو عنهم إن انضموا لركبه.
وكان دافع المهدي الرئيس في ثورته ضد الحكم التركي – المصري هو إنهاء الظلم والعسف والجور والفساد الذي كان ملازما لسنوات ذلك الحكم، وإنشاء دولة إسلامية على نمط الدولة التي أنشأها الرسول محمد. وكان المهدي ينادي بدولة تحاكي ما كان قائما من دولة إسلامية في المدينة في القرن السابع. وكان يعد الناس بملء الأرض عدلا وقسطا وتقوى بعد أن ملئت فسادا وجورا وظلما. وأعلن أن من يبايعه ويؤيد دعوته ضد مصر تلك فسوف يعد من أنصاره، ومن لم يبايعه فسوف لن يجد منه غير السيف، سواء أكان مسلما أم غير مسلم. فعلى أحد المستويات، نجد أن المهدي كان قد أعلن الثورة (والجهاد) ضد الحكم التركي – المصري المحتل بسبب ما رآه منه من ممارسات غير إسلامية، وبسبب رغبته في إحياء الإسلام في السودان. وعلى مستوى (أساس) آخر كان المهدي يرى أن نظام الضرائب الذي طبقته الحكومة التركية - المصرية كان نظاما ظالما وجائرا، ولا سبيل لمقاومته إلا بالثورة المسلحة ضده. وفي غضون سنوات ثورته أصدر المهدي في هذا الشأن (وغيره) عددا من المنشورات والأحكام، تجدها في المجموعات التي نشرها محمد إبراهيم ابو سليم في سبع أجزاء تحت عنوان "الآثار الكاملة للإمام المهدي". وفي هذا المقال نبحث في مواقف المهدي المثبتة في تلك الآثار الكاملة تجاه قضايا الرق وتجارة الرقيق وتحريره.
وأفلحت المهدية في عام 1885م في هزيمة القوات التركية – المصرية التي كانت قد احتلت السودان منذ عام 1821م. وأعلن محمد أحمد بن عبد الله أنه هو "المهدي المنتظر". ويؤمن المسلمون بأن ظهور "المهدي المنتظر" مرتبط بنزول المسيح وبأنه واحدة من علامات الساعة، ويؤمنون أيضا بأنه سيملأ الأرض قسطا وعدلاً، كما كانت قد ملئت ظلما وجوراً.
وهاجم محمد أحمد المهدي حكومة المستعمر التركي – المصري وشجبها واصفا إياها بأنها حكومة ظالمة جائرة وفاقدة للشرعية الدينية. وأكد على أن الله قد اصطفاه هو تحديدا لتجديد الإسلام في السودان، ولطرد الأتراك والمصريين من البلاد.
وفي قيادته للحركة المهدية كانت لأحكام المهدي ومنشوراته قوة القانون، وفيها تجاهل المذاهب الإسلامية الأربعة المعروفة، وأعلن أنه يؤسس أحكامه على هدي القرآن والسنة النبوية والإلهام. وبالنسبة للمهدي فالسنة – كمصدر للقوانين- أهم من القرآن، إذ كان يعد نفسه خليفة الرسول محمد، ويزعم بأن له القدرة على التواصل المباشر معه. (جاء في أحد منشوراته: "لا يخفى عزيز علمكم أن الأمر الذي نحن فيه لا بد من دخول جميع المؤمنين فيه الا من هو خالي من الإيمان، وذلك مما ورد في حقائق غيبية واوامر إلهية وأوامر نبوية أوجبت لنا مهمات صرنا مشغولين بها... ...وثم تواترت الأنوار والبشاير والأسرار والأوامر النبوية والهواتف الالهية باشارات وبشارات عظيمة..." . المترجم). وبذا صار "الإلهام" – كمصدر للقوانين –عند المهدي يحتل ظاهريا مكانة أعلى من الحديث، لأنه من المستحيل الشك في موثوقيته وقد أتى له من الرسول مباشرة دون وسيط. وهذا خلافا للحديث، والذي قد يشك في صحته أو موثوقية أحد رواته. وبذا أدخل المهدي منهجية قانونية سمحت له بإدخال أمور مبتكرة خارجة عما هو معروف في الشريعة التقليدية.
فعلى سبيل المثال لا يكون المرء رقيقا إلا بالميلاد أو الأسر. فإذا أسر رجل غير مسلم، ولم يكن من المشمولين بحماية الدولة الإسلامية وأفرادها، فحينها يمكن قانونيا أن يستعبد. وإذا ولد لعبد وأَمَةَ (بغض النظر عن ديانتهما) ولد أو بنت، فإنهما يبقيان على نفس حالة الأبوين. وكان المهدي قد أعلن أن أفراد الجيش التركي – المصري ليسوا من المسلمين، وأصدر لأتباعه بناء على ذلك جملة من الأحكام حول ما يمكن فعله بأسرى هؤلاء، إما بجعلهم رقيقا أو بعتقهم. وقد صدرت تلك الأحكام رغم أن الغالبية العظمى من أفراد الجيش المصري – التركي كانوا من المسلمين. (أورد الكاتب نصا من الجزء الخامس من الآثار الكاملة للمهدي صفحة 417 عن منشور ذكر فيه المهدي أن الرسول قد عينه مهديا وأمره بالجهاد ضد الترك (والذين وصفهم بأن أسوأ خلق الله لكفرهم ونفاقهم، وأن من لا يقبل منهم الدخول في الإسلام ويأبى الاستسلام وتسليم ما لديه من أسلحة وأموال وممتلكات فإن نسائه وأطفاله سيجعلون رقيقا. المترجم). ويوضح هذا المثال كيف أن المهدي استخدم "الإلهام" و"التكفير" لتبرير شن الحرب على مسلمين آخرين، يقول عنهم أيضا أن سياسات حكومتهم تضرر منها السودانيون. وبالفعل كان دافع الوجود التركي – المصري (المنسوب للخلافة العثمانية) في السودان هو استغلال ثروات البلاد ونقلها للخزانة المصرية، مع قهر للسكان المحليين وإلزامهم بالطاعة العمياء. غير أن المهدي في منشوراته لم يفصل في كيف أن هؤلاء "الترك" قد أضروا بالدين الإسلامي. فهو يكرر ما قاله دوما –دون كثير تفصيل- من أن الترك قد نهبوا ثروات البلاد وأذلوا أهلها وأدخلوا نظاما جديدا للحكم لا علاقة له بالإسلام. والمقولة الأخيرة هي ما أكثر ما أشعل غضب المهدي (وأنصاره) على حكومة المستعمر التركي – المصري. وكان المهدي لا ينفك يصف هؤلاء الحكام بأنهم "كفرة" و"منافقين" بسبب استغلالهم وظلمهم وقهرهم لأهل البلاد بقوانين مالية جائرة. وهو بهذا يقول – ظاهريا على الأقل - أن الحكام المسلمين الذي يظلمون من يحكمونهم من المسلمين يعدون خارجين عن دائرة الاسلام.
خلفية تاريخية عن الثورة المهدية
قضت الحركة المهدية في 20 يناير 1885م على الحكم التركي – المصري (والذي استمر نحو ستين عاما)، وذلك بعد أربعة أعوام متصلة من الثورة عليه. وخلص نعوم شقير، والذي عمل في مخابرات الحكم التركي المصري إلى أن أسباب قيام الثورة المهدية تتلخص في التالي:
1/ العنف الذي صاحب الغزو التركي – المصري للسودان في 1821م.
2/ انحياز الحكومة التركية – المصرية إلى قبائل وطرق صوفية بعينها.
3/ محاولات الحكومة التركية – المصرية منع تجارة الرقيق.
4/ فرض الحكومة التركية – المصرية ضرائب وإتاوات باهظة على السكان.
وكتب بيتر هولت مؤرخ المهدية الأول في كتابة "الدولة المهدية في السودان" مؤكدا صحة ما قال به نعيم شقير، رغم أنه شدد على أن كل تلك الأسباب الأربعة لا تتساوى في الأهمية. فهو يرى أن السبب الثالث (أي محاولات الحكومة التركية – المصرية منع تجارة الرقيق) كانت أقوى الأسباب لعدم رضا كثير من الناس، ولإِذكَاء روح الطبقية والقبلية في السودان، وأدى كل ذلك في النهاية لقيام الثورة المهدية.
ولا شك في أن الطريقة التي حاولت بها الحكومة التركية – المصرية منع تجارة الرقيق والتأثير السالب لذلك على اقتصاديات وأحوال كثير من السكان كان وراء تأييد عدد كبير من السودانيين للمهدية. فعلى سبيل المثال كان أحد قواد الثورة المهدية فيما بعد (وهو عثمان دقنة) أحد كبار تجار الرقيق في منطقة سواكن بشرق السودان قبل انضمامه للحركة المهدية. وكذلك كانت بعض القبائل العربية في غرب السودان تعمل في تلك التجارة، ولذا انضم عدد كبير من أفرادها لجيش المهدي. وبذا فقد يكون لرأي هولت بعض الوجاهة.
غير أن الواقع يقول بأن المهدي في فتاويه وخطبه وتحذيراته لم يكن يولي قضية الرق جل اهتمامه، بل كان يعده أمرا ثانويا ضمن أولوياته الكبرى لتنقية وتجديد الإسلام في السودان. فركز المهدي على الضرائب الباهظة التي كان الحكم التركي – المصري يفرضها على السكان، والتي شبهها بالجزية التي تفرض على غير المسلمين، وأفتى بأنها جائرة وغير إسلامية.
وكما أسلفنا كان المهدي يكرر دوما بأن الحكم التركي – المصري لا شرعية إسلامية له في السودان، رغم أنه كان يحكم باسم الإسلام. فالترك في نظره كفرة لأنهم يضطهدون ويظلمون المسلمين السودانيين وينهبون ثرواتهم، ولا يرحمون صغيرهم ولا يوقرون كبيرهم (الآثار الكاملة للمهدي، الجزء الخامس ص 417).
وغدت وسائل جمع الضرائب في غضون سنوات الحكم التركي – المصري مؤسسات يخشاها السكان، إذ كانت عسكرية الطابع ووحشية الممارسة، وتشتمل على وسائل تعذيب مرعبة. ففر كثير من السكان من ديارهم وآثروا الاستقرار في أماكن نائية تضعف فيها سلطة الدولة، وذلك طلبا للأمان والبعد عن تسلط الحكومة وجنودها. لذا أعتبر المهدي فرض الحكومة للضرائب الباهظة على السكان الفقراء مثالا على إدخالها سياسات إمبريالية جائرة وفاسدة، ورمزا لفقدانها للشرعية الإسلامية، وعد رجالها كفرة يجب عليه قتالهم وطردهم من البلاد.
وكان المهدي يطلق كلمة "ترك" على كل من له صلة بالحكومة التركية – المصرية بغض النظر عن أصله العرقي، وقد كان بعضهم من المصريين والأرمن والشراكسة وقليل من السودانيين أيضا. ولعل في استخدام المهدي لكلمة "ترك" إشارة لفقدان ذلك النظام للشرعية الإسلامية، إذ أن الأتراك ليسوا عربا، ويعدون في كثير من المناطق غاصبين للخلافة الإسلامية، بينما كان المهدي يستمد شرعيته (الدينية) من دعوته لقطع كل صلة بالحكم التركي – المصري (المعروف في السودان بالتركية) وإعادة الحكم الإسلامي (القويم) للبلاد مثلما كان الحال في عهد الإسلام الأول. وحاز المهدي على إعجاب حتى الأسرى غير المسلمين بقدرته على تحويل الممارسات الدينية للناس. فكتب سلاطين عن أن المهدي كان قد ساوى بين الفقراء والأغنياء، ودعا أنصاره لنكران الذات وهجران الدنيا وملذاتها.
وكان من أهم ما قام به المهدي من خطوات في سبيل تجديد الدين هو تحريمه لكل الطرق الصوفية، وكل ما يعتقد أنه من البدع المنكرة. وكانت التركية قد فضلت بعض القبائل والطرق الصوفية على بعضها، فخلقت بذلك تفاوتا طبقيا وتسلسلا هرميا اجتماعيا، وهذا ما عده المهدي مخالفا للشرع. وذكر المهدي في كثير من منشوراته أن كل ما لم يرد في القرآن والسنة مثل زيارة الأولياء والأضرحة والعويل في المآتم هو من قبيل البدع الضالة، وأنه ك "مهدي" سيزيل كل البدع، ويعيد الدين طاهرا مطهرا كما كان.
السياق التاريخي للرق في العلاقات المصرية – السودانية
وعد المهدي فرض ضرائب باهظة على السكان، وكما أسلفنا، بدعة منكرة. وكانت تلك الضرائب تفرض على كل السكان بغض النظر عن أعمالهم التجارية والزراعية وغيرها، وكان من ضمنهم تجار رقيق. وبحسب ما جاء في مؤلف نعوم شقير عن السودان، لم يكن دفع ضرائب منتظمة أمرا مألوفا عند السودانيين، ولم تكن تلك الضرائب عادلة، فما كان يفرض على الأغنياء أقل (نسبيا) مما كان يفرض على الفقراء (وما زال هذا التفاوت قائما حتى يومنا هذا في غالب دول العالم. المترجم). وبحسب ما جاء في كتاب موور-هاريل عن غردون، بلغ ارتفاع مستوى الضرائب في منتصف القرن التاسع عشر حدا أجبر كثير من الجلابة (وأغلبهم كانوا من المزارعين الأجراء) على ترك أعمالهم واللجوء لتجارة الرقيق (لا يخفى خطل هذا الزعم، إن علمنا أن تجارة الرقيق نفسها كانت تخضع للضرائب الباهظة. المترجم). وأضرت محاولات الحكومة التركية – المصرية منع تلك التجارة بالحالة الاقتصادية لسكان شمال السودان. وذكر تاج هارجي في أطروحته للدكتوراه من جامعة أكسفورد عام 1982م والموسومة "منع تجارة الرقيق في السودان بين عامي 1898 و1939م) أن مضمون شعارات أنصار المهدي من قبيل "اقتل الترك وتوقف عن دفع الضرائب" و"عشرة في قبر أفضل من دولار واحد يدفع كضريبة" يؤيد فكرة أن ثورة المهدي كان مبعثها محاولة الحكومة المستعمرة منع تجارة الرقيق. وذكر القدال في كتابه "السياسة الاقتصادية في دولة المهدية" أن بعض القبائل في شمال وشرق وغرب البلاد كانت الأكثر تضررا من غيرها من جراء محاولات الحكومة الاستعمارية منع تجارة الرقيق.
غير أن الحكومة التركية – المصرية نفسها لم تكن جادة في تنفيذ سعيها المعلن (تحت ضغوط بريطانية) لمنع تجارة الرقيق، والتي كانت قد بدأت تاريخيا بين مصر والسودان منذ عصور سحيقة وظلت نشطة حتى وإلى عصور قريبة. فالخديوي إسماعيل نفسه، ورغم منعه على الورق لتلك التجارة، كان يستخدم عددا كبيرا من الرقيق من الجنسين في قصوره، وظل يحتفظ بصلات قوية مع تجار الرقيق مثل الزبير ود رحمة منصور وأبو بكر (صومالي من العفار). ولم تطبق الحكومة المستعمرة أو ممثليها في أي منطقة في السودان أي منع حقيقي لتجارة الرقيق، ولم يثمر إعلان الحكومة عن منع تجارة الرقيق عن شيء سوى رفع قيمة المسترق أو المسترقة. فسعر المسترق في عام 1820م كان 10 دولار ماريا تيريزا، وارتفع السعر ثلاثة أضعاف في عام 1879م. وقدر عدد تجار الرقيق بين عامي 1860 و1870م نحو 5000 – 6000 تاجر في جنوب السودان وحده.
الأحكام التي أصدرها المهدي بخصوص الرق وتجارته
سجلت الوثائق أن المهدي كان قد قضى في عدد من القضايا بخصوص الرق. ومن ذلك ما ورد في آثاره الكاملة من رسالته في نوفمبر 1883م لأحد قواده (واسمه عطا المنان) آمرا إياه بتوزيع ما يغنمه في قتال الترك على النحو التالي: خمس لبيت المال، والبقية تقسم على القادة والجنود. ولا يجوز أخذ الأحرار عبيدا، ما عدا الترك، فرجال هؤلاء ونسائهم غنيمة. ولم يكن بيت المال مجرد "وزارة للمالية أو الخزانة" فحسب، بل كان يتولى إدارة كل ما تمتلكه الدولة من غنائم الحرب من أسرى وخيول وأسلحة وذهب وفضة وغرامات للمخالفين للقوانين، وكل ما تصادره الدولة وغير ذلك. (حرر أندريسبو جيركيلو وأحمد إبراهيم أبو شوك بحثا بعنوان "بيت المال عند المسلمين: الميزانيات الشهرية للدولة المهدية في السودان" عام 1996م. المترجم).
وكان بيت المال يستخدم ك "مزاد عام/ دلالة" لبيع وشراء الرقيق، وكان مسئول بيت المال يعطي "شهادة ملكية" موثقة للشاري توضح كل صفات العبد أو الأمة المشتراة. وتشير هذه الممارسات في بيت المال إلى أن المهدي لم يكن معارضا للرق والتجارة فيه شريطة أن تتم ممارساته وفقا للضوابط الإسلامية. وبما أن الإسلام لم يحرم الرق تحريما صريحا وقاطعا (رغم أنه سن ما من شأنه تجفيفه ووسع طرق التخلص منه) فقد كان بإمكان المهدي أن يصف محاولات خديوي مصر لمنع تجارة الرق بأنها بدعة مخالفة للدين. غير أن المهدي كان يرى أن جميع ما كانت تدعو له التركية من سياسات أو تقوم به من أعمال (من ضمنها الرق ومحاولة تحريره) مجرد بدع باطلة.
وعقد المهدي معاهدات وتحالفات مع جماعات غير مسلمة خدمة لمصالح حركته. وأمر القبائل العربية المناصرة له بالإقلاع عما كانوا يفعلونه في عهد التركية من مهاجمة مناطق في جنوب كردفان متاخمة للشلك وأخذ أسرى منهم، لأن في ذلك تهديدا ل "وحدة المهدية". ومن أمثلة معاهداته مع غير المسلمين ما عقده المهدي مع زعيم الشلك في ديسمبر من عام 1883م من معاهدة بايع بمقتضاها رجال الشلك المهدي على أن يشاركون في حروبه، شريطة أن يوقف المهدي حملات أنصاره عليهم. ونصت تلك المعاهدة أيضا على أن يبني المهدي للشلك مسجدا ويعلمهم أصول الدين وقراءة الفاتحة وراتب المهدي، ويعين لهم إماما، وأن يعلم نسائهم ارتداء الزي الإسلامي.
ولعل عقد المهدي لمعاهدة مع جماعة غير مسلمة تشير إلى مقدار الازدراء الذي كان يكنه المهدي للترك المسلمين، فقد كان على استعداد على قبول غير المسلمين بحسبانهم رفقاء سلاح شريطة أن يبايعونه كمهدي وقائد، بينما كان يداوم على انتقاد ومهاجمة الترك.
أحكام المهدي في عتق الرقيق
معلوم أن عتق الرقيق هو من الأمور التي حض عليها الإسلام. فهي كفارة لكثير من الذنوب. فقد ورد في الجزء الثالث من الآثار الكاملة للمهدي (ص 109) أن المهدي أصدر حكما في يوليو من عام 1884م يحرم مصافحة الرجال للنساء، وكان كل من يخالف ذلك الأمر يحكم عليه بخمسين جلدة أو صيام شهرين متتابعين أو عتق رقبة.
وأصدر المهدي عدة أحكام أخرى تتعلق بالعتق. فعلى سبيل المثال أصدر المهدي فتوى في مايو 1884م في أمر محظية أنجبت ولدا من سيدها، ثم توفي ذلك الولد، ولم يعد السيد يقارب تلك المرأة رغم أنها ظلت تعمل عنده. ثم ولدت المرأة ولدا من عبد لذلك السيد. وكان حكم المهدي هو عتق تلك المرأة وابنها، فهي "أم الولد". وحكم في قضية أخرى ورد فيها أن رجلا مغربيا من فاس اسمه الطيب البناني كان مسافرا مع عائلته عبر بربر فصادر جنود المهدي ممتلكاته وعدوها من الغنائم. وكان من ضمن تلك الممتلكات عبيد وإماء محررات (كان أحدهم خال أبنائه). فكتب البناني شكوى للمهدي مطالبا برد ممتلكاته المصادرة، فأمر المهدي بإعادة العبيد والإماء المحررات له.
وعقب سقوط الخرطوم وتولى المهدي حكم البلاد بدأ في تحويل حركته الثورية إلى دولة مؤسسة، وبدأ دوره كمشرع ومفسر لأحكام الشريعة يتضح أكثر فأكثر. فأصدر عددا من الأحكام والفتاوى في مسائل كثيرة منها عتق من كان مسترقا في عهد التركية. فعلى سبيل المثال تكاثرت الشكاوى من تجاوزات حدثت عند سقوط (تحرير) الخرطوم حين استبيحت المدينة وأخذ الكثيرون من غير المستعبدين (الأحرار) عبيدا وإماء، وفر كثير من الأرقاء من بيوت ومزارع من كانوا يسترقونهم، وتعقدت الأمور أكثر عندما قبض على هؤلاء وتمت إعادة بيعهم لمالكين جدد، ثم انتشرت حالات سرقة العبيد. وإزاء كل تلك الفوضى أمر المهدي بإرجاع كل من لم يؤسر في ساحة الحرب من حيث أخذ (الآثار الكاملة. الجزء الخامس. ص 167).
وبيع الأسرى الذين قبض عليهم في ساحة الحرب عقب سقوط (تحرير) الخرطوم في مزادات يومية عامة. غير أن ارتفاع الأسعار أبطأ من حركة البيع والشراء، فأصدر المهدي، وبحسب زعم سلاطين في "السيف والنار"، أمرا بتخفيض الأسعار بطلب من الراغبين في الشراء.
ولم يرد في أدبيات المهدية الشيء الكثير عن تحرير الرقيق. ورغم أن كثير من الفقهاء ظلوا يؤكدون على أن الإسلام يشجع على تحرير الرقيق، إلا أن الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم الإسلامي وعبر كثير من العهود لم تقم بجهد كبير في هذا المنحى. ولم تختلف المهدية عن غيرها من تلك الأنظمة في ذلك. غير أنه ورد في الجزء الرابع للآثار الكاملة للمهدي ما يفيد أنه فرض عتق رقبة على كل من يخالف قانونا من قوانين الدولة المهدية.
الخلاصة
يمكن أن نخلص من منشورات المهدي أنه لم يكن راغبا في إنهاء الرق أو تجارته، بل كان يرغب في إعادة هيكلة مؤسساته بما يتوافق مع المهدية وتحت رعايتها واشرافها. ويدلل ذلك على أنه لم يكن معاديا للرق وتجارته، ولا داعية لتحريره.
وليس في كتابات المهدي ما يدل على أن الدافع لثورته هو محاولة الحكم التركي – المصري تحرير الرقيق ومنع تجارته. وكانت مواقف المهدي من الرق وتجارته تتلخص في إعادة هيكلته حتى يتوافق مع رؤاه لدولة إسلامية.
وقاد المهدي ثورته ضد الحكم التركي – المصري لأنه كان حكما متجبرا ومستغلا وجائرا وغير ملتزم بالشريعة الإسلامية، ولأن سياسته أفقرت غالب سكان شمال السودان. وأعلن المهدي أنه أرسل لينهي عسف وجور ذلك الحكم، وظل يكرر في كثير منشوراته أمر الضرائب الفاحشة التي فرضها الحكم التركي – المصري، وبوحشية بالغة، على السكان الفقراء، وعد ذلك من البدع المنكرة التي أتى بها ذلك الحكم. وشكل في النهاية أولئك الفقراء عماد ثورته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.