إن إضراب طلبة كلية غردون عام 1931 كان أحد المشاعل المنيرة للحركة التحررية في السودان، حيث لم يتقدم الطلبة باحتجاج موحد ضد الإجراءات الحكومية في السودان حتى عام 1931، الاحتجاج الذي تزامن مع إجراءات الإدارة البريطانية في السودان لضغط نفقات الخدمة المدنية، بسبب تبعات الأزمة الاقتصادية في أوربا للأعوام 1929-1931، التي أثرت على أسعار المنتجات الزراعية وخاصة القطن، الذي يعتبر المصدر الرئيسي للبلاد آنذاك، فضلا عما أصاب البلاد من جفاف أثر بصورة قاسية، هو الآخر، على محصول القطن والمنتجات الغذائية عامة. لهذا كله قررت الحكومة تقليص عدد الموظفين المدنيين وتخفيض رواتب المعينين حديثاً من خريجي كلية غوردون التذكارية من 8 إلى 5.5 جنيه مصري. كان قرار تخفيض الرواتب هذا، قد أثار الامتعاض والاضطراب بين "الطلبة الكبار والأكثر صخباً"، كما وصفهم الحاكم العام، الذين اقنعوا جميع الطلبة بالتقدم بالإضراب العام. اعتقدت الحكومة في حينها، أن الاضراب قد تم التخطيط له من خارج الكلية بين الموظفين الحكوميين السودانيين، الذين على الرغم من عدم تأثرهم المباشر بالإجراءات الاقتصادية، إلا أنهم كانوا يرون الأجور الجديدة محاولة للتأثير على المطامح الوطنية للسودانيين. يرى الجيل المعاصر للإضراب هذا أنه كان أكثر من احتجاج ضد تخفيض النفقات الحكومية، حيث اعتقد الطلاب أنهم يجب أن ينظموا أنفسهم سياسياً لأن الحكومة كانت تحاول التقليل من أهميتهم كطبقة واعية يستفاد منها في حكم البلاد، انسجاماً مع سياستها باستخدام رؤساء القبائل كوكلاء لها للسيطرة على مقدرات الشعب، ولذلك فقد اكتسب الإضراب طابعاً سياسياً ووطنياً نشأ عن الإحساس بالظلم. تبنى السيد عبد الرحمن المهدي موقفا غاية في الأهمية، وهو من ناحية ولوجه لجبهة الطلبة كمفاوض لإيقاف اضرابهم، لغرض تفويت الفرصة على الحكومة بعدم غلق الكلية الوحيدة في السودان، التي هو يعول عليها كثيرا لبناء الجيل الذي سيساند خططه في استقلال السودان، إلا أن جل محاولاته لإقناع الطلبة بالعودة إلى الدراسة باءت بالفشل في الخطوات الأولى. تم الاتفاق بين الطلبة المضربون على تشكيل لجنة من عشرة أعضاء، من أعضاء نادي الخريجين، للتفاوض مع الحكومة لتحقيق شروطهم، وافق الطلبة على هذه اللجنة كهيئة تمثيلية لهم، وأصبحت مركزاً للشعور الوطني المتأجج آنذاك. إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى تمزقت وحدة اللجنة، لشعور بعض الأعضاء بأن قضيتهم قد تعرضت للخيانة بسبب مقابلة جون مافي، الحاكم العام، للأعضاء الختميين في اللجنة بصورة فردية. وعلى أية حال، وكما دون الأستاذ احمد خير المحامي في كتابه، وأكده لي في لقاء بالخرطوم، رأيه في هذا قائلا: لم يكن هذا الانقسام مسألة خلافات سياسية بقدر ما كان نزاعاً شخصياً بين أحمد سيد الفيل ومحمد علي شوقي، وقد عرفوا فيما بعد، الشوقيون على أنهم أتباع السيد عبد الرحمن المهدي والفيليون على أنهم أتباع السيد علي الميرغني. وهنا برزت فرصة السيد عبد الرحمن المهدي، ليعزز مركزه الشخصي القيادي الذي يهدف إليه، وبتأييد من الحكومة ترأس وفداً من الآباء لإقناع الطلبة بالعودة إلى دراستهم، وعلى الرغم من فشل محاولته الأولى لإنهاء الإضراب، فقد استمر في جهوده التي كللت بالنجاح، النجاح الذي عزز مكانته، وإلى حد كبير مع بعض الأفندية الذين لم يفقد دعمهم إطلاقا، فقد كسب على وجه الخصوص دعم محمد علي شوقي ومحمد صالح الشنقيطي اللذين كان كلاهما مسؤولاً كبيراً في القسم القانوني، وقد أدى ذلك إلى انغماره بشكل كبير في الحركة الوطنية وهو ما يسعى إلى تحقيقه منذ مدة طويلة، وخاصة بعد استمرار نجاحه الاقتصادي الذي سيوظفه لنجاحه السياسي، وبروز وزنه ونفوذه في حل المشاكل الداخلية للبلاد. وعلى الرغم من انتهاء الإضراب فإن جون مافي، اعتقد أن سياسة تخفيض النفقات قد تقود إلى مشكلات أخرى في المستقبل، لهذا اتخذت الحكومة حسب وجهة نظرها، فقررت زيادة الراتب الابتدائي للخريجين بجنيه مصري شهرياً، ووضع خطة لتعديل المناهج الدراسية كي تكون أقل تخصصاً بحجة قلة الحاجة للموظفين . ++++++ [email protected]