منذ أمد بعيد و انا مقتنع بأن الجديد فى الدراما العربية سيأتى من سوريا ، سيما على مستوى الكتابة - أقال الله عثرة هذا البلد العظيم . السوريون يدهشونك بعمق فكرهم . يمر عليك قلم مثل محمد الماغوط فيقتلك تأملا جميلا . فى كتاباته يسخر الماغوط – مثلا - من الواقع العربى الاليم و ذك باستدعاء التاريخ القديم للعرب حتى تحدث المفارقة المضحكة المحزنة ( الكوميديا السوداء ) كما فى مسرحيته الشهيرة المهرج و التى قام بسودنة نصها المسرحى السودانى المبدع مصطفى أحمد الخليفة . و قد يتناول الماغوط قضية معاصرة فى اطار معاصر مثلما حدث فى فيلم الحدود و الذى ارتفع به الماغوط بسقف الدراما العربية التى ظلت حبيسة القضايا الصغيرة مثل الزواج و الشقة و قصص الحب الفاشلة الى أفق عال جدا و هو مناقشة قضية الحدود الجغرافية بين الدول العربية ، او فيلم " التقرير " الذى يحكى قصة موظف يقرر أن يجوب كل المؤسسات الرسمية ليكتب تقريرا عن فسادها و ذلك بغية تقديمه الى رئيس الجمهورية لكنه يموت فى خاتمة الامر فى مباراة لكرة القدم حينما تدوسه الجماهير ! و يشكل هذان العملان بالنسبة لى سقف الدراما العربية حتى اشعار اخر ، و قد لعب دور البطولة فيهما النجم السورى العربى العظيم العملاق دريد لحام . و قد يهل عليك قلم بحجم هانى السعدى ، ليناقش قضايا عربية معاصرة و لكن ضمن اطار تأريخى مصنوع ، بمعنى لم يحدث حقيقة فى التاريخ العربى . يضع هانى setting فى قلب الصحراء . و لكن دون ان يحدد اطارا جغرافيا بعينه – بمعنى لا توجد اشارة الى دولة محددة - و دونما رجوع لفترة زمنية محددة و بلا تأسيس لدين محدد . و يعيش مجتمع هانى السعدى البدوى دوما فى صراعات مع حضارات مجاورة تحاول غزوه او السيطرة عليه . لكنه ينتصر فى الختام و ذلك ببروز رمز بطولى محدد يجمع حوله شمل القبيلة او القبائل ( الممثل العظيم رشيد عساف كان له نصيب الاسد فى تجسيد هذه الشخصية ) . تظهر هذه القراءة فى اعمال السعدى مثل الجوارح و الكواسر و غضب الصحراء و غيرها . ثم تبرز ايضا عوالم "سعد الله ونوس " المسرحية و الروائية و التى تناولت قضايا مهمة مثل الانفصال بين مصر و سوريا و الصراع العربى الاسرائيلى و غيرهما . قبل يومين شاهدت حلقتين فى مسلسل سورى اسمه " وطن حاف " و هو من تأليف " كميل نصراوى " و اخراج " محمد فردوس " . المسلسل انتاج العام 2013 و هو لا يتناول موضوعا واحدا بل تتناول كل حلقة او حلقتين فيه موضوعا منفصلا . يتبع المسلسل اسلوب الكوميديا السوداء الشهير . و قد قام ببطولته الممثل السورى العظيم محمد حداقى و هو من الممثلين الجادين المتخصصين فى عكس مشاكل الطبقة الفقيرة فى سوريا . فكرة الحلقتين اللتين شاهدتهما مدهشة بحق . نرى مواطنا بسيطا اسمه " سند " يعيش فى حارة فقيرة . اختيار اسم البطل ينبع من سخرية عميقة . فاسمه سند لكن لا سند له فى الحياة ، فلا نرى له ابنا او ابنة او اخوان او اخوات او عمل معروف . سند هذا متزوج من سيدة طويلة اللسان . لعبت دورها بتمكن الفنانة السورية القديرة " شكران مرتجى " و هى ممثلة تبرز دوما فى ادوار المرأة الشعبية سليطة اللسان و تؤديها بتمكن كوميدى عال . زوجة المواطن سند تحلم بغسالة . يقرر زوجها الحائر ان يشترك فى مسابقة ملاكمة محلية لعله يفوز و ينال جائزة تحل اشكالياته المادية ، لكنه يمنى بهزيمة قاسية امام ملاكم يعمل فى الاصل سائقا . يعود الى بيته ملطخ الوجه بالدماء . و فى اليوم التالى يذهب الى حديقة عامة ليروح عن نفسه هربا من لسان زوجته السليط . يجلس على مقعد بعيد . دقائق و يجلس بقربه شاب ثائر يثرثر مع صديقه . مشكلة الشاب ان زوجته حبلى رغم تحذيراته المتكررة لها بالا تفعل . يعبر الشاب عن رغبته الجامحة فى ضرب زوجته لكن عليه الانتظار حتى تضع حملها . يذهب سند الى المستشفى و هناك يشهد مدير المستشفى و هو يعنف السكرتيرة امام زملائها . يذهب سند اليها بعد انصراف المدير و شركائه و قد فاجأته فكرة غريبة . يقنع سند السكرتيرة بانها يمكن ان تصفعه و تركله لقاء عدد من الليرات و ذلك حتى تنفس عن غضبها خشية ان تصاب بجلطة او هستريا عصبية . لتبدأ سلسلة من المواقف الكوميدية المبكية . يتحول سند الى متنفس لكل رجل او امرأة مغتاظ من مؤسسة او شخص . يتلقى سند مكالمات و يذهب الى اشخاص يقومون بضربه لقاء ليرات محددة و ذلك حتى " يفشوا خلقهم " . تزدهر اعمال سند و يضطر الى تأسيس شركة اسمها "كفك ذهب " و يوظف فيها كل الخريجين العطالى . يقوم موظفو شركة " كفك ذهب " بتلقى لكمات و ركلات و ربما عضات المواطنين الغضبى . و يرتفع سقف السخرية حينما يقسم سند الشركة الى اقسام مختلفة " قسم للسياسيين " و آخر " اجتماعى " و ثالت " رياضى " و هكذا . فيتردد على شركته السياسى الذى اعتقل و عذب فى سجون النظام السورى و الطالبة التى تحرش بها دكتورها فى الجامعة و الاخت التى قام الاخ بسرقة نصيبها من الورثة ، دونما ان ينسى المؤلف الذكى الاشارة الى ازدهار القسم السياسى . تفتتح الشركة فروعا لها فى سوريا و بعد قليل تبدأ فى فتح فروع لها فى دول عربية أخرى . يقوم رجال الامن فى خاتمة الحلقة باعتقال المواطن سند لانه يقوم بالتعدى على سلطاتهم : فهم فقط المناط بهم تعذيب الناس !!! الفكرة مدهشة و غريبة و لعلها مستوحاة من اليابان . ففى كل قسم فى اية مؤسسة هناك يوجد تمثال لرئيس القسم . و الهدف منه ان يقوم مرؤسوه بركله و ضربه كنوع من التنفيس عن الغضب و الطاقات السالبة حتى لا تؤثر على العمل . سقط المؤلف فى خاتمة الحلقتين فى فخ المباشرة و التطويل مثلما حدث افى لمشهد الذى تقوم فيه مذيعة باستضافة سند فى برنامج تلفزيونى ليقوم بشرح فكرته . هذه المشهد افقد العمل طزاجة الفكرة و لا مباشرتها و اوقعها فى فخ التقرير و هو احد ابرز عيوب الدراما بشكل عام . لكن يظل العمل مدهشا بحق ! شاهدوه معى !! .......... مهدى يوسف ابراهيم عيسي جدة [email protected]