أصدر الدكتور نور الدين ساتي، السفير المتقاعد بوزارة الخارجية، والموظف الدولي السابق بمنظمة اليونسكو، وأستاذ اللغة والأدب الفرنسي الأسبق بجامعة الخرطوم، والذي شغل أيضاً في وقت لاحق منصب الأمين العام للمكتبة الوطنية السودانية، أصدر في أواخر عام 2013م، كتاباً بعنوان: "عجز القادرين: تأملات في الحالة السودانية". تولت طباعة هذا الكتاب ونشره، دار "مدارك" بالخرطوم، وصدر في نحو مائة وثمانين صفحة من القطع المتوسط، وقد قدّم له الصحافي المخضرم الأستاذ محجوب محمد صالح. يشتمل هذا الكتاب على خمسة أبواب، وإنْ لم يسمها المؤلف نفسه أبواباً صراحةً. ضم ما يمكن أن نسميه الباب الأول: تقديم الأستاذ محجوب محمد صالح الذي أشرنا إليه آنفا، إلى جانب توطئة ومدخل بقلم الكاتب. أما الباب الثاني، الذي يشكل العمود الفقري للكتاب، إذ أنه يضم عشرة فصول متسلسلة، أو مجموعة مقالات مرقمة بالتسلسل من 1 إلى 10، جاءت جميعها تحت عنوان: "هوامش على دفتر الانفصال"، وهو – كما هو واضح – عنوان يحيل مباشرةً إلى اسم الديوان المشهور للشاعر نزار قباني الموسوم ب "هوامش على دفتر النكسة"، أي نكسة العرب وهزيمتهم أمام إسرائيل في يونيو 1967م. أما الانفصال، فالمقصود به هاهنا، انفصال جنوب السودان عن سائر التراب الوطني في يوليو 2011م. وأما الباب الثالث الذي جاء تحت عنوان: "السودانوية"، فيضم فصلين هما: تيارات مقاربات التنوع الثقافي في السودان، والسودانوية ما بين النسب والنسق على التوالي. وهذان الموضوعان، ظلا أثيرين لدى المؤلف، وذلك بحكم اطلاعه الواسع على مفهوم التنوع الثقافي وأديباته، من منطلق عمله السابق والمستمر إلى الوقت الراهن كخبير واستشاري لدى اليونسكو. وأما بالنسبة لموضوع السودانية، فإن من المعروف أن للدكتور ساتي سبقاً مشهوداً في سكِّ هذا المصطلح نفسه، يعود إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي، كما تشهد بذلك بعض مقالاته ذات الصلة، التي نشرها بمجلة "الثقافة السودانية" في تلك الحقبة، ثم جاء الراحل بروفيسور أحمد الطيب زين العابدين، لكي يتوسع في التنظير لهذا المفهوم ذاته من زاوية أخرى، في تسعينيات القرن الماضي أيضا. وجاء الباب الرابع تحت عنوان: "ثقافة السلام"، مشتملاً على ثلاثة فصول أو ثلاث مقالات هي: ثقافة السلام والتحديات المتجددة، ونماذج من برنامج ثقافة السلام في إفريقيا، والتنوير الثقافي والفكري كضرورة لبناء السلام. وقد ظل المؤلف مرتبطاً مهنياً وفكرياً بثقافة السلام كمفهوم وكممارسة، إذ أنه كان من روادها منذ انطلاقها من داخل أروقة اليونسكو، على عهد مديرها السابق الإسباني: فردريكو مايور، بينما ضم الباب الخامس والأخير الذي جاء تحت عنوان: " نحن والنيباد" ، فصلاً أو موضوعاً واحداً فقط جاء بعنوان: "حتى لا نغرد خارج السرب". ومضمون هذا الفصل يتمثل في اعتقاد المؤلف بأن هنالك تبايناً واختلافاً ايديولوجياً جوهرياً بين النهج العام السائد في السودان حالياً، إي ذي التوجه الإسلامي، وبين الإطار المعرفي والمفاهيمي الكلي لمقتضيات الشراكة الجديدة من أجل إفريقيا "النيباد" ذات الطبيعة العلمانية، داعياً إلى محاولة المواءمة بين التوجهين، وملمحاً إلى ضرورة التزام السودان بقدر ما من المرونة في هذا الصدد، حتى تتسنى له الاستفادة من برامج النيباد وتسهيلاتها وتمويلاتها الخ. أما قراءة محجوب محمد صالح لهذا السفر، فبحسبنا أن نجتزئ منها هذه الفقرة الموحية وقوية الدلالة عن الانطباع الذي تركته الرسالة الأساسية لهذا الكتاب في نفسه، والتي استبصرها بنظره الثاقب، وسطرها بيراعه الشفيف، في سياق تقديمه للكتاب كما يلي: " هذا كتاب قمين بأن يثير حواراً مستنيراً بهدف الإجابة على الأسئلة الصعبة التي طرحها انشطار الوطن الواحد إلى دولتين. الحدث كان صدمة كبرى خلَّفتْ وراءها تساؤلات ما زال صداها يتردد: كيف حدث ما حدث؟ ... الوقفة الصادقة مع النفس، والرؤية الثاقبة لما وراء الحدث، والتأمُّل في الأزمة الراهنة التي تهدد ما تبقى من السودان بالانقسام والتشظي. هذا هو مطلب عسير يحتاج إلى جهد كبير، وقدر أكبر من التجرد والتحلي ببعد النظر، وسعة الأفق والتفكير خارج الصندوق. ولذلك يسعى المؤلف ليصدمنا بأحكام قاسية عن الشخصية السودانية، وعن عجزها للاستجابة للتحدي، رغماً عن أنها (قادرة) على ذلك..." أ.ه ذلك هو إذاً، لبُّ الموضوع الذي عليه مدار هذا الكتاب، ألا وهو طرح التساؤل عما إذا كان السودانيون من حيث هم، عاجزين عن الاستجابة للتحدي، وعاجزين عن إتمام ما يعتري حياتهم من نواقص وأوجه قصور، رغم قدرتهم على ذلك، على سبيل الظن والافتراض، أم أن تلك جبلّةٌ راسخة وراكزة في طبعهم، ولا سبيل إلى الفكاك منها قولاً واحدا. ؟ وتأبى النزعة الأدبية التي يتسم بها أسلوب نور الدين ساتي، إلاّ أن تفرض نفسها مجدداً عبر خواطر قلمه، إذ أننا نراه هاهنا، وهو يلمِّح بعنوان كتابه هذا "عجز القادرين:، إلى بيت أبي الطيب المتنبئ في قصيدته الشهيرة في وصف الحُمَّى: ولمْ أرَ في عيوب الناسِ عيباً كنقصِ القادرين عن التمامِ فالتناصُّ إذاً واضحٌ وجلي بين عنوان هذا الكتاب، وبين بيت المتنبي المذكور، مثلما كنا قد لاحظنا آنفاً، اقتباس المؤلف لعنوان الباب الموسوم ب "هوامش على دفتر الانفصال" من عنوان ديوان الشاعر نزار قباني: "هوامش على دفتر النكسة"، وذلك بجامع الإحساس الممض بالإحباط، وخيبة الأمل الفاجع في الحالتين. لقد تلقى المثقفون السودانيون وعامة القراء هذا السفر، بالحفاوة والترحيب اللائقين به، إذ تمت مناقشته في بحر عام 2014م بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم، في إطار المنشط الفكري والثقافي الراتب الذي درج معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بتلك الجامعة على إقامته بانتظام تحت عنوان "كتاب الشهر"، حيث انبرى لمناقشة الكتاب نفر من الأساتذة الأجلاء نذكر منهم: الدكتور إدريس سالم الحسن، والسفير جمال محمد إبراهيم، والبروفيسور عبد الغفار محمد أحمد، بينما شهد جلسة مناقشة الكتاب، ثلة نوعية من الكتاب والمثقفين والأكاديميين والصحفيين. ولم يقتصر التفاعل والجدل الذي أثاره هذا الكتاب على جلسة المناقشة تلك فحسب، وإنما انداحت دائرة النقاش والتأمل والتفاعل، لكي تشمل الصحافة الورقية منها والالكترونية على حدٍ سواء. فتجاوباً مع مضمون هذا الكتاب، على سبيل المثال، نشر الأستاذ طه النعمان مقالاً بأحد المواقع الالكترونية بعنوان: "نور الدين ساتي يرصد التيارات التحتية المُشكِّلة للمأزق السوداني" جاء فيه: " لا شك أن مشكلة السودان وهي مشكلة سياسية في التحليل الأخير، من فعل النخب الحاكمة فيه... إلا أنها تتجاوز ذلك إلى أنها مشكلة اجتماعية تتعلق بالخلفيات الأسرية والتربوية والاجتماعية والنفسية للأفراد والنخب والجماعات، وبعملية التربية الأولية والتنشئة... تنشئة تقوم على الخوف والكذب والمداراة، مما يؤدي إلى شكل من أشكال انفصام الشخصية والتقمُّص المزدوج .. ومن ذلك أيضاً نزوع السودانيين إلى إلقاء اللوم على الآخر، والتنصُّل من المسؤولية تجاه الأفعال الشخصية.. هذا غير ما يرصده الكاتب ويوجهه من نقد للظاهرات التي طبعت سلوك كثير من السودانيين كالعشوائية والسبهللية والفوضى.. " أ. ه +++++ نُشر هذا المقال مع اختلاف طفيف بالعدد الأخير من مجلة "الدراسات السودانية" التي يصدرها معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم. [email protected]