توطئة: تعتبر المجاعات من بين أسوأ الكوارث والأزمات التي تحل بالمجتمعات البشرية لآثارها البعيدة وتدميرها لأهم مقومات التنمية، أو ما أصطلح عليه في لغة الإقتصاد ب(رأس المال البشري)، فالعلاقة وطيدة جداً بين تنمية الموارد الطبيعية والتنمية البشرية صحة وتعليماً وتأهيلاً وتدريباً. إن حاجة الإنسان الأساسية من الغذاء لا تلبيها إلا خطط مدروسة من قبل الحكومات وإستراتيجيات واضحة الأهداف والوسائل، ذلك أن الإنسان (المواطن) وقد تواثق على مجموعة من الأفراد لإدارة أموره (الحكومة)، لا بد له من أن ينال هذا الحق بلا منٍّ أو أذى. وما حدث من مجاعة ضربت بأطنابها دولة جنوب السودان أمرٌ لا يجب أن تكتفي الحكومة بإعلانها فحسب بعد أشهر عديدة من المراوغة والمداراة، فهي قضية أساسية لا تقل تأثيراً عن تلك الحرب التي أزهقت أرواح الكثيرين، ووضعت آخرين تحت ظروف بالغة الصعوبة في مخيمات الإيواء داخل وخارج جنوب السودان، ويجب على الحكومة أن تواصل جهودها في هذا الجانب مثلما تسعى – كما نرى - في إستمرار الحرب وإشعال أوارها. يعتبر جنوب السودان أرض خصبة لكافة الأنشطة الإقتصادية من (زراعة وثروة حيوانية)، مع ملاحظة أن الأراضي الصالحة للزراعة في الوقت الراهن لا تتعدى نطاق ضيق من مناطق شمال أعالي النيل وشمال بحر الغزال وغرب الإستوائية، وأن البلاد بحاجة إلى جهود لإستصلاح الكثير من الأراضي وتطوير أنظمة الري والميكنة الزراعية. الزراعة في جنوب السودان ليست من أولويات الحكومة منذ أول يوم لإستقلال البلاد، حتى الجهود التي بُذلت في هذا الجانب تمثّلت في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس سلفا كير ميارديت في العام 2012م إلى إسرائيل والتي كان الهدف منها تمتين التعاون العسكري بين الدولتين على عكس ما ورد في وسائل الإعلام آنذاك من أن الزيارة بغرض التوقيع على إتفاقيات ثنائية في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والتعليم والخدمات الطبية، وذلك لأنه بمرور الوقت وضح جلياً أن التعاون العسكري ومحاولة إيجاد موطئ قدم لإسرائيل في جنوب السودان بات سمة ظاهرة في الآونة الأخيرة. لم يقم إقتصاد الدولة الوليدة على محور التنمية الزراعية منذ بداياتها في عام 2011م، فلقد ساهمت الإيرادات النفطية الضخمة في فساد المسئولين التنفيذيين وتكدّست لديهم الأموال الطائلة في بنوك ومصارف داخل وخارج جنوب السودان، وتبعاً لذلك تدهورت الأوضاع الإقتصادية أكثر بدخول البلاد حرباً أهلية طاحنة منذ الخامس عشر من ديسمبر 2013م، فقد ركنت حكومة جنوب السودان إلى الإعتماد في أمنها الغذائي على الواردات من دول الجوار مثل أوغنداوكينيا وإثيوبيا والسودان، ساعدها على ذلك وجود رؤوس أموال ضخمة تجمّعت في الخزينة العامة من إيرادات النفط والدول المانحة والمعونة الأمريكية، ولم تجر الحكومة خطوات ملموسة وجادة في تنمية بقية الموارد سوى قطاع التعدين والذي تستحوذ عليه الشركات من جنوب إفريقيا والولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا. المواطن الجنوبي لا يحذق الزراعة بصورتها الحديثة سوى قلة على ضفاف الأنهار وأعداد اخرى صغيرة تمارس الزراعة التقليدية في الأرياف البعيدة بالإعتماد على مياه الأمطار، وهي زراعة الغلاّت على شاكلة (الذرة الرفيعة والشامية) لا تكفي حاجة الفرد منهم قوت عامه، وذلك لأن نمط المجتمعات في جنوب السودان يقوم على حرفة الرعي في الأساس، ليس بغرض الإستفادة من الماشية ومنتجاتها، وإنما لإضفاء نوع من التقدير الإجتماعي والرضا الذاتي على الفرد صاحب الرؤوس الكثيرة من الأبقار، وقد ساعد على ذلك وقوع الجزء الأكبر من أقاليم البلاد وتداخله في نطاقي مناخ (السافنا الغنية) والمناخ (الإستوائي) المطير طيلة أيام السنة. بتواضع الحكومة في جنوب السودان مؤخراً وإعلانها ضرب ظاهرة المجاعة للبلاد، تكون بذلك قد كتبت الأسطر الأولى لوثيقة زوالها، فللمجاعة في جنوب السودان - علاوة على مسئولية النظام - عدد من الأسباب منها: أولاً: الفساد: استشرى الفساد (المنظّم) في جنوب السودان وظهر في البر والبحر منذ تكوين الحكومة الإقليمية الإنتقالية لجنوب السودان في سنة 2005م بموجب (إتفاقية السلام الشامل) الذي دخل حيز التنفيذ في ذات العام. وإزداد الأمر سوءاً بعد إنفصال الإقليم وميلاد الدولة حيث لم يمض عام واحد حتى طفحت إلى السطح أزمة إستصدار الرئيس سلفا كير لمذكرة يطالب فيها 75 من كبار المسؤوليين في الدولة بإرجاع مبلغ (4) مليار دولار تم نهبها من قبلهم، الأمر الذي عُدّ في ذلك الوقت (نذير شؤم) على ممارسات الحركة الشعبية الحاكمة وتلاعبها بالمقدرات الإقتصادية والأموال العامة للدولة في سنواتها الأولى، أضف إلى ذلك إنتشار مارسات الفساد المالي التي تتم بين نافذين حكوميين ومستثمرين أجانب من خلال صفقات تُعقد من (تحت المناضد) والعائدات الضخمة التي يتحصلون عليها جراء ذلك. ثانيا: الصرف على الحرب: تعتبر قضية الصرف على الأمن والدفاع من المسائل الجوهرية التي تواجه حكومات العالم الثالث والحكومات الهشة عموماً في ميزانياتها، وبدخول جنوب السودان إلى أتون الحرب القبلية قبل أقل من عامين على إستقلاله عن السودان، فإن الحكومة عملت على تحديث تسليحها لإخماد الثورة من جهة وحسم المترّبصين بها في صمت من جهة أخرى، حيث ذهب ريع النفط الذي يتم إنتاجه بأقل من ثلث طاقته التشغيلية إلى جلب السلاح وتدريب الجنود، مما أحدث تأثيراً كبيراً على الوضع الإقتصادي في البلاد، وأدى التدهور المريع في سعر صرف عملتها الوطنية مقابل العملات الأجنبية إلى العجز التام في تسيير دولاب الدولة وتسديد مرتبات الجنود ومنتسبي الخدمة العامة. رابعا: جلب الجيوش الأجنبية: أدّت الحرب إلى لجوء النظام للإستعانة بقوات من خارج الحدود لكبح جماح الثورة، وقد أدى تراخي القبضة الأمنية للحكومة على مجريات الأمور بصورة فورية إلى التعجيل بتوقيع إتفاقيات أمنية وتعاون دفاعي مشترك مع عدد من الدول على رأسها أوغندا والتي دفعت بجيشها لدكّ معاقل القوات المتمردة، بشروط تفوق مقدرة الدولة الوليدة، الأمر أربك الكثير من حسابات الحكومة وخلّف أعباءاً معيشية على المواطن، وديناً خارجياً ضخماً تحصلّت عليه الحكومة بضمانات الإنتاج النفطي المستقبلي للبلاد. خامساً: إهمال القطاع الزراعي: سبق وأن ذكرنا أعلاه، أن الحكومة لم تهتم كثيراً بتطوير المجال الزراعي لتأمين حاجة مواطنيها من الغذاء، في وقت عمدت فيه إلى تعويض ذلك بالإستيراد ومضاربات السماسرة من خارج الحدود، كما أهملت الحكومة جانب إستقدام وتشجيع الإستثمارات الدولية في مجالات الزراعة والطاقة والصناعة لعدم وجود رؤية وطنية واضحة وقوانين تنظم الحراك الإقتصادي للدولة. سادساً: المجالس القبلية: إبتدع النظام الحاكم في دولة جنوب السودان مجالس للقبائل تضم عدد من الأعيان والوجهاء لكل قبيلة بهدف خلق جماعات ضغط (ديكورية) تجميلاً لوجه النظام، وقد برز منها (مجلس كبار أعيان الدينكا) كأول جسم تم تأسيسه بهدف خدمة أهداف القبيلة ورعاية مصالحها ومعالجة قضاياها، وقد ظهرت تكوينات إجتماعية على ذات النسق تحت رعاية الحكومة بغرض إثناء القبائل المختلفة عن مغبّة الإنضمام للثورة والوقوف في وجه النظام، وهي مجالس ذات تمويل حكومي ضخم تفوق تمويل الكثير من الأحزاب السياسية خارج وداخل الحكومة. سابعاً: ترهل النظام الإداري: قامت حكومة الرئيس سلفا كير بإصدار مراسيم جمهورية تقضي بزيادة عدد الولايات، أولاً بإضافة 18 ولاية إلى العشر، ثم إضافة أربع أخرى ليكون كامل العدد (32) ولاية ، يحدث هذا في دولة لا تتعدى مساحتها 700 ألف كلم مربع بعدد سكان يربو عن التسع مليون نسمة قبل إندلاع الحرب، لتتحول المحافظات الصغيرة إلى دويلات ومقاطعات تفتقر لأبسط مقوّمات الحياة العصرية، وهي التي كانت في السابق أثناء الإنتخابات السودانية العامة في العام 2010م لا تصلح أن تكون دوائر إنتخابية (جغرافية) دعك من (قومية) لخلوها من أية مظاهر سكانية. تسود جنوب السودان حالة من الإستقطاب القبلي الحاد، وهو أمر موسوم بهذا الجزء منذ الدولة السودانية الأولى، إذ أن الكثير من التقاطعات والنزاعات قلّما تحدث في المجتمعات التقليدية الرعوية، ومجتمعات الدولة الوليدة على هذا النحو تعتبر الأنموذج الأوضح في الإحترابات القبلية لأسباب تتعلق بالمنافسة على الأرض الرعوية ومصادر المياه والثروة الحيوانية، والتي تعتبر المظهر الإقتصادي الوحيد لمعظم السكان، وللحقيقة كانت هذه الصراعات تحدث كثيراً في الماضي البعيد والقريب على حد سواء أثناء إندلاع الحرب بين المسلحين الجنوبيين والحكومة السودانية في فترتيها (1955 – 1972) و (1983 – 2005)، لكن يبدو أن وجود ما يمكن أن نطلق عليه (العدو المشترك) لدى الجنوبيين، ونعني بهم الشماليين المسلمين من أصول عربية، شكّل حاجزاً دون حدوث صدامات عميقة بينهم كالتي جرت منذ عام 2013 وحتى اليوم. جاءت الحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان بعد إستفتاء على تقرير مصير إقليم جنوب السودان أجري في يناير 2011م، لتجد نفسها القوة السياسية والعسكرية الوحيدة في دولة تذخر بالكثير من الموارد الإقتصادية المستغلة وغير المستغلة. توجد داخل أراضي جنوب السودان بعثة ضخمة للأمم المتحدة تسمي ال(يونيميس) وهي من أكبر البعثات الأممية داخل دولة إفريقية في الوقت الراهن، وُضعت إلى جانبها عدد مقدر من القوات الأممية تحت البند السادس، الأمر الذي لا يُعرف لها حتى يوم الناس هذا مهمة بعينها، وكانت المنظمة الدولية تؤكد إنها قوات لمساعدة الدولة الوليدة في مجال التنمية والبنية التحتية، وهو أمر لم يحدث قط، حيث ظلت السيدة هيلدا جونسون (ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في جنوب السودان السابقة) تُشاهَد بصورة يومية من قبل العامة في الملاهي الليلية بجوبا وهي تتمايل طرباً مع سُمّار الحانات من معاقري الخمور وطالب اللذة وبنات الليل. بالإضافة إلى فشل القوات الأممية في حماية المدنيين الذين تعرّضوا للقتل والتعذيب والإغتصاب والإعتقال أمام أعينها في أوقات كثيرة، في وقت تكتفي فيه بكتابة التقارير (عابرة للبحار) لإبداء القلق تجاه الأمر دون أن تحرّك ساكناً. لجأت حكومة جنوب السودان منذ عام 2005م إلى الإعتماد على دولتي أوغنداوكينيا في إقتصادياتها، الأمر الذي عُدّ حينئذٍ محاولة لدفع فاتورة الحرب التي إمتدت منذ 1983م حتى التوقيع على نيفاشا في 2005م، أما إثيوبيا فإنها ليست في تقديرات صقور الحركة الشعبية ، إذ أن إسقاطات ومرارات الطرد من أديس أبابا في العام 1991م على يد الرئيس الإثيوبي الراحل (ملس زيناوي) لا زالت عالقة بأذهانهم، وتبعاً لذلك فإن هناك عدد من دول الجوار والإقليم دخل بثقلها إلى (سوق جنوب السودان) منذ تلك الفترة، أهمها: 1- أوغندا: أغرقت دولة أوغنداجنوب السودان بإعداد هائلة من الأيدي العاملة غير المهرة وأصحاب المهن الهامشية، كما تاجر الأوغنديون في الخمور والبغاء والملبوسات. 2- كينيا: ساهم الكينيون في الإجراءات المتعلقة بالنظام المصرفي ويعود إليهم الفضل في تأسيس بنك جنوب السودان المركزي، وقد إستثمروا في مجال المصارف والبنوك والدواء والسيارات والبناء والتشييد. 3- الصومال: دخل إلى جنوب السودان أعداد كبيرة من التجار الصوماليين الذين ضاقت بهم أسواق دول شرق ووسط إفريقيا جرّاء المنافسة الشرسة التي يجدونها من الهنود والذين سبقوهم إلى هذه المناطق بمئات السنوات، وقد وجد التجار الصوماليين ضالتهم في الدولة الوليدة حيث إستثمروا في المشتقات النفطية والمواد الغذائية والنقل والمواصلات والتحاويل البنكية. 4- إثيوبيا: تتخوف الحكومة الإثيوبية من الدفع بأعداد كبيرة من مواطنيها إلى أراضي الدولة الناشئة من منطلق علاقتها غير الجيدة مع حكومة جنوب السودان، ولكن مع ذلك فقد شهدت بعض المدن في جنوب السودان بروز إستثمارات في مجالات السياحة والفندقة ومياه الشرب على أيدي الإثيوبيين. كما نجد عدد من الدول ساهمت في الحركة التنموية لجنوب السودان مثل حكومة اليابان التي قدمت إستشارات في المجالات العسكرية والتدريب، فضلاً عن إنشاء الطرق والجسور، أما من جانب دول الإتحاد الأوربي ودول (الترويكا) فإنها عملت على تأهيل منتسبي الجهاز الحكومي بأعمال الورش والسمنارات والتدريب والتخطيط. تأثرت دول محيط دولة جنوب السودان بالأزمة تأثيراً لا يقل عن التداعيات الداخلية للأزمة نفسها، فقد إستقبل السودان حتى نهاية عام 2016م أكثر من مليون لاجئ من جنوب السودان مقارنة ب(27 ألف لاجئ) في ذات التوقيت من العام 2015م، ويصل اللاجئون الفارون من الحرب في جنوب السودان إلى السودان عبر عدد من المسارات والمعابر الحدودية أهمها: معبر (جودة) في ولاية النيل الأبيض ومعبر (الليري) بجنوب كردفان ومعبري (بابنوسة) و(الميرم) بغرب كردفان، وشهدت مدينة نيالابجنوب دارفور وصول أعداد محدودة. وبحسب الإحصاءات الرسمية السودانية فإن معدل التدفق اليومي للاجئين نحو (450 – 300) لاجئاً أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن، منهم ما بين (150 – 100) لاجئ عبر جنوب كردفان، وما بين (100 – 50) عبر جنوب دارفور، وتستحوذ ولاية النيل الأبيض على العدد الأكبر منهم، إذ تتراوح أعداد العابرين بها ما بين (200 – 150) لاجئاً. ويلاحظ وقوف السودان في مسافة متساوية بين حكومة جنوب السودان والمعارضة المسلحة بقيادة د. ريك مشار. تتوجّس حكومة إثيوبيا كثيراً في علاقتها بنظام سلفا كير الحاكم في جنوب السودان، إذ يوجد بينهما تاريخ مشوب بالحذر وعدم الثقة منذ زوال نظام الرئيس (منقستو هيلا مريام) في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، في وقت نجد فيه الجانب الكيني يمثل دور (الحكيم) في الأزمة الراهنة، على الرغم من ضلوع قوات لها بالمشاركة في الحرب إلى جانب النظام في جوبا تحت دواعي حراسة الشرعية وحماية رعاياها وبسط الأمن في الإقليم. أما دولة أوغندا، فرئيسها يوري موسيفيني يعتبر الحليف الإستراتيجي والتاريخي لسلفا كير، وكفى ما فعل (موسيفيني) بمواطني الدولة الوليدة خلال هذه الأزمة دليلاً على أطماعه في – ليس فقط إحتواء جنوب السودان فحسب – وإنما محاولة ضمه لبلاده. تقود مصر في تعاونها مع حكومة جنوب السودان عددٌ من الملفات الساخنة والتي تعتبر لديها مسألة (حياة أو موت)، كالمياه على سبيل المثال، فالحكومة المصرية صرّحت في غير مرة أن مياه النيل تعتبر قضية أمن قومي لمصر، وعلى الرغم من أن النيل الأبيض الذي يعبر جنوب السودان في طريقه إلى السودان ومن ثم عبر نهر النيل إلى مصر لا يسهم إلا بما تقديره 16% من جملة إيرادات مياه النيل، إلا أن التجاوز الإثيوبي لمصر ومضييها قدماً في إنشاء (سد النهضة)، أمر أثار قلق حكومة القاهرة كثيراً، ما جعلها تلجأ إلى الإستقواء بجنوب السودان لتأمين هذا (النذر اليسير) من المياه كخطة بديلة في حال تأزم ملف سد النهضة بينها وإثيوبيا، ولعل ذلك أحد الأسباب التي جعلت حكومة الرئيس (عبد الفتاح السيسي) تدخل بثقلها في الحرب الدائرة في جنوب السودان، فقد ورد طبقاً لمصادر مطلعة في المعارضة المسلحة أن القوات المصرية تقاتل جنباً إلى جنب مع قوات سلفا كير من جهة، ومن جهة أخرى تقوم مصر بتقديم التسليح المطلوب لحكومة جنوب السودان من خلال التخلص من فائض الأسلحة القديمة، إذ أن القوات المسلحة المصرية في عهد الرئيس السيسي قامت بتطوير تسليحها وإمتلكت منظومة صاروخية حديثة، ولا غرو من أن يتم التخلص من السلاح القديم لصالح حلفائها خدمة لإستراتيجيات بعيدة المدى. تسببت أزمة جنوب السودان في جرائم إرتكبتها الحكومة وميليشياتها ومسّت قضايا حساسة في حقوق الإنسان وكرامته كالقتل والإغتصاب والتشريد بذريعة بسط هيمنة الدولة، مقرونة بردود الفعل التي أبدتها المعارضة المسلحة وتضرر منها كذلك أعداداً كبيرة من المواطنين في عدد من المدن الكبرى، مما عمّق من المآسي والصعوبات التي تواجهها الدولة برمتها، وفي هذا السياق تبرز جملة من السيناريوهات محتملة الحدوث خلال المرحلة القادمة بعد أن فشلت جهود الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق إفريقيا (الإيقاد) وإجهاض الإتفاق الذي وقعها طرفا النزاع تحت رعايتها في أغسطس 2015م. هناك عدة سينارهات لمستقبل الأوضاع في دولة جنوب السودان أهمها : أ- السلام الاجتماعي: من المتوقع ظهور عقلاء من داخل البلاد لقيادة برنامج واسع للمصالحات الإجتماعية بين المكونات القبلية المختلفة، وهو تيار قد يضم عناصر من غير القبيلتين المتنافستين (النوير والدينكا)، ولكنه سيناريو لا يتوقع حدوثه في الوقت الراهن لوجود مشاعر الغبن والإحساس بالإضطهاد في أوساط مجتمعات جنوب السودان، وتنامي حالة تجييش المشاعر والإنحياز للقبلية والجهوية مما يلغي دور المثقفين ويضعهم في موقف (التخوين) الوطني. ب- إنهيار الدولة: من غير المستبعد أن تؤدي الحرب وتطاول أمدها إلى نتيجة (متوقعة بشدة)، وهي تساقط مؤسسات الدولة، من ثم إنهيارها التام. والإنهيار بدأت معالمه الإقتصادية والإجتماعية تتبدى في أفق الدولة، حيث لم يعد الرباط الوطني يضم شمل أبناء دولة جنوب السودان علاوةً علي استشراء الفساد الإداري والمالي وضعف الولاء للوطن، مما يجعل سيناريو (تفكك الدولة) هو السيناريو الأقرب إذا إستمرت الأوضاع علي هذه الشاكلة. ج- التفكك إلى دويلات (التقسيم): لا ينبغي أن لا نأخذ في الإعتبار خيار (إنهيار الدولة) دون إستصحاب إمكانية التجزؤ الذي قد يواجه جنوب السودان في المستقبل القريب، فالفرصة مواتية إلى المطالبة بثلاث دويلات على أقل تقدير، تمثل الأقاليم الكبرى (أعالى النيل – بحر الغزال – الإستوائية)، إذا تتباعد فرص قبول المجتمعات في العيش معاً مرة أخرى تحت مظلة دولة واحدة مع مرور الوقت دون إيجاد حلول جذرية للأزمة. د- إحتمال الإندماج في الدولة الأم: دلّت الكثير من التجارب السياسية بين الدول والتي أدّت إلى إنفصالها إلى دولتين أو أكثر، إلى العديد من الصعوبات التي واجهت نهوضها من الركام، وتبعاً لذلك تم تغليب خيار الإندماج مرة أخرى كما حدث في كل من اليمن وألمانيا وغيرهما. وهذه القاعدة قد ترجّح كفة ميزان الصراع في جنوب السودان إلى المطالبة بالعودة مرة أخرى إلى الدولة السودانية، وهي مطالبة قد تأتي من المجتمع الدولي أو القيادة السياسية في جنوب السودان بشقيها في الحكومة والمعارضة، وعلى الرغم من أن الحكومة السودانية قد ترضخ في نهاية الأمر إلى القبول بذلك، إلا أن الأصوات التي ستعارض الأمر من داخل المجتمع السوداني سيكون لها تأثيرها بلا شك، فقد سبق أن أغمضت (إتفاقية نيفاشا) عن حق المواطن السوداني في المشاركة في إستفتاء جنوب السودان في 2011م الأمر الذي سيجده البعض مسوّغا لرفض أي إتجاه للدمج مرة أخرى في إطار دولة واحدة، أو على أقل تقدير المطالبة بإستفتاء أهل السودان. ه- الطريق الثالث: قد يطرأ تيار لا يرى في أيٍّ من الرجلين (ريك مشار وسلفا كير) مستقبلاً سياسياً لقيادة البلاد مرة أخرى، وقد يكون من عدد من دول الجوار الجنوبي، وهنا قد يبرز دور يمكن أن يقوده السياسي الجنوبي د. لام أكول (وهو من زعماء قبيلة الشلك)، وقد نافس الرئيس سلفا كير في الترشح لرئاسة جنوب السودان في آخر إنتخابات عامة شهدها السودان قبل إنفصال الجنوب، أما الجهود التي تقودها الأكاديمي (د. كوستيلو قرنق) من أجل طرح نفسه بديلاً لقيادة جنوب السودان، فإنها في نهاية الأمر قد تواجه بالفشل لعدم الإتفاق عليه وعدم معرفة الجنوبيين بتاريخه السياسي، هذا التيار يجد تنامي وسط اليائسين من إعادة الوئام الوطني على إعتبار أن (سلفا- مشار) تسببا في تعميق الجراح وخراب الدولة الوليدة التي كانت تمتلك فرصة ذهبية لتكون دولة في وضع أفضل عقب إنفصالها عن الدولة الأم، وذلك بإرتكاب فظائع ومجازر وفساد وإثارة النعرة القبلية، مما يجعل القيادة الحالية (حكومة ومعارضة) مسئولة عن حدوث أي سيناريو يفكّك أو يحطم ما تبقي من الدولة ووأد الحلم الجنوب سوداني. و- الوصاية الدولية: تلجأ المنظمة الدولية الكبرى (الأممالمتحدة) وآليتها التنفيذية (مجلس الأمن الدولي) في الأحوال التي تشارف فيها أوضاع الدول على الإنهيار إلى فرض وصاية دولية عليها، وذلك بغرض الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحماية المدنيين ومراعاة حالة توازن القوى التي لا تتأتى إلا بصون مبدأ الإستقرار الدولي، وذلك بإتخاذ جملة من القرارات من بينها تعيين حاكم للبلاد وحكومة وطنية رشيقة تحت إشراف الأممالمتحدة تكون من صلاحياتها التأسيس والتكريس لمراحل سياسية مسقبلية تسودها الديمقراطية والشفافية. بحلول منتصف العام 2014م بدا جلياً لحكومة جنوب السودان أن الحرب ستطول، فالكثير من المكونات الإجتماعية للبلاد شعرت بالغبن من سيطرة القبيلة الواحدة على مقاليد الأمور بصورة شبه كاملة، بل والمجاهرة بذلك أمام الملأ وعبر الإعلام الرسمي للدولة، الأمر الذي قاد الكثيرين منهم للإنضمام إلى المعارضة المسلحة (جناج د. ريك مشار)، ما جعل الحكومة تلجأ إلى وسائل أخرى أكثر تجريماً من الحرب نفسها، فإستقدمت جنوداً من الجارة أوغندا – كما أشرنا أعلاه - ودول أخرى بكامل عتادهم للحرب إلى جانبها لإخماد المعارضة المسلحة التي باتت في ذلك الوقت قاب قوسين أو أدنى من العاصمة جوبا. عطفاً على ما مضى، فإن أمام المجتمع الدولي والمنظمات والهيئات الإقليمية والوسطاء جملة من الخيارات لإيقاف نزيف هذه الحرب وتدارك خطر إنهيار الدولة الجنوبية الحديثة منها: 1- تجميد أرصدة الحكومة في الخارج. 2- إعادة الأموال التي تمّ نهبها بواسطة عناصر النظام أو أفراد مقرّبين إليهم من البنوك الخارجية. 3- فتح جسر جوي دولي عاجل لإغاثة الملايين من المواطنين الجوعى في المخيمات والمدن. 4- وضع البلاد تحت الوصاية الدولية وتقديم قيادات الحكومة والمعارضة إلى المحاكمة. 5- تسريح المليشيات الحكومية ونزع سلاحها. 6- الإستعانة بمجلس حكماء (أممي) لإدارة شئون البلاد لفترة لا تقل عن 5 سنوات. 7- العودة بالبلاد إلى نظام الأقاليم الثلاثة (أعالي النيل – بحر الغزال – الإستوائية)، ويكون على رأس كل إقليم (مسؤول أممي) مهمته إرساء دعائم الأمن. 8- الإستعانة بالدولة الأم (السودان) في حل الأزمة. هذا، أو الطوفان ..!! [email protected]