الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    دبابيس ودالشريف    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وطن للنسيان ... في صحبة بدوي مصطفى الشيخ و رفاقه (3)


أم درمان فبراير 1996م
أخذت اتطلع لأشجار اللبخ في شارع النيل من نافذة الحافلة ونحن في طريقنا مع والدتي لمشفى دار الشفاء حيث يرقد جدي بدوي مصطفى طريح الفراش .
أشجار هرمة ضاربة بقدمها منذ زمن الأنجليز ، ورغم ما أصابها من عوامل الطبيعة و الأهمال و عدم الأكتراث بحالها ألا أنها مازالت صامدة منتصبة في شموخ مخلدة لتاريخ مضيء مليء بالبطولات و التضحيات و ذكريات كفاح جيل سطروا أروع الملاحم لهذا الوطن .
ظهرت لي مع أشجار اللبخ صورة جدي التقي الورع عفيف النفس و الخلق و الرأي ، فتذكرته ذكرى المحب له و المعجب المفتون به ، تذكرت كيف كان يسير حياته بين الناس كما هي الآن أشجار اللبخ تسير حياتها عبر الحقب و السنون في هذا الشارع العتيق .
شدني المنظر ففتحت كتاب ( موت دنيا ) و كتبت هذا العبارة كرسالة لصديقيه المحجوب و عبدالحليم محمد في أحدى حواشيه .....
ربما بين جدي وبين تلك هذه الأشجار لغة و ملامح و صفات مشتركة ، نعم هناك العديد من القواسم المشتركة بينهما فليس أقلها من أن هذه الأشجار قد بذلت ظلالها بسخاء للمارة تخفف عنهم قيظ حرارة الخرطوم طيلة شهور العام ، و كان على وجه جدي الصبوح أبتسامة فياضة لا تفارق محياه يبذلها بسخاء صدقات للناس فيخفف عنهم رهق و هموم هذه الحياة .
كما أن قلب هذه الأشجار قد حفظ أسرار مئات الألاف أن لم تكن الملايين من المواعيد الغرامية للعشاق الذين كانوا يقضون تحت ظلالها الوارفة الساعات الطوال ، و قلب جدي قلب مؤمن مضياف منفطر بالحب دوما ،و ينبض رحمة للجميع ويسع كل مشاكلهم التي كانوا يستنجدون به لحلها سواء عندما كان وزيرا أو عندما أحترف مهنة التجارة و أصبح أحد أكبر مصدري الجلود في السودان .
هذه الأشجارنحتت فيها أحرف ورسومات في سيقانها و تتزين و تتلون في الأعياد والمناسبات الكبري كالدرويش في حلقة المديح يوم ميلاد النبي صلوات الله عليه و سلم ، و روح جدي كذلك كروح الصوفي أفلح أن يزكيها بالخير و الأحسان بعد أن جردها من كل موبقات الحياة الدنيا و زهدها في مفاتنها .
جلس أليه مرة شيخ شيوخ الحركة الأسلامية الأستاذ يس عمر الأمام ليجري معه لقاء تلفزيونيا في منزله بحي الملازمين ، فقال له عبارة مازالت ترن في ذهني أختصرت لي سيرة ماقدمه جدي للوطن و الأسلام في السودان عندما قال له :
يا شيخ بدوي جئنا بنظام أسلامي يحكم السودان ، ان شاء الله تكون راضي عن القاعدين نسوي فيه !!؟
في تلك الجلسة أثناء المقابلة التلفزيونية ذكر الأستاذ يس عمر الأمام له مآثره و التي كانت تخفى عني و قد أنجزها جدي لوحده دون أن يدفعه لذلك حب شهرة أو تنظيم أو جهة داعمة مساندة له في وجه سيل المعارضين لأهدافه .
توقفوا أمام عدة محطات بداية بحزب الأشقاء الذي كان أحد أبرز مؤسسيه وبدأ يتبلور تكوينه بعد العام 1944م ، ثم مرحلة توحيد الأحزاب الأتحادية التي أدارها الصاغ صلاح سالم و اللواء محمد نجيب بالقاهرة عام 1952م وتمخض عنها تشكيل الحزب الوطني الأتحادي .
وتجربته كوزير للتربية والتعليم في حكومة سرالختم الخليفة و ذكرى تأسيس جامعة أم درمان الأسلامية في عهده ، وقراره الشهير بفرض اللغة العربية و التربية الأسلامية كمواد أساسية في الشهادة السودانية .
حمد له ذلك وما ذهب أليه لأبعد من هذا عندما قام في تلك الفترة بفرض قانون يساوي في الأجر بين مرتبات مدرسي اللغة العربية و الدين ، ومرتبات بقية المدرسين .
أنتقلوا بعدها الى محطة صندوق الزكاة وكيف أنه كان أول سوداني نادى بتأسيسه في السودان في فترة حكم الرئيس الأسبق نميري ومطالبته للرئيس بذلك .
وقفت الحافلة أمام مبنى جامعة القاهرة فرع الخرطوم ( النيلين ) لتنزل ركابا و تقل آخرين ، فقررت أن أعود للقراءة مجددا في الكتاب و دخول دنيا جدي و رفاقه من جيل التعمير .
وقفت أمام باب صالون مدام دي باري وطرقته طرقا خفيفا ثم دخلت حتى أستمتع بأنس الصحبة و جلسة نقاش و جدال جديدة مع أبطال ملحمة رحلة كتاب ( موت دنيا ) .
لقد سعدت و أفتتنت بكل الأراء و الأفكار و المواقف التي ظلوا يسردونها لي منذ أن ولجت قدماي دنياهم التي عاشوها كما يرددون جميعا في نضرة الشباب و بهجته و قوة الفتوة و توثبها و تضحيات الرجولة و نبلها .
دخلت المجلس وقد أمتلئ المكان عن آخره وضج بكثرة الحضور ، فأتخذت مكانا قصيا فيه حتى لا أقطع عليهم الحديث و أزعجهم بالسلام والتحية ، فوجدت د. عبدالحليم محمد يتحدث بحماسة شديدة عن جيلهم الذي وهب حياته و جهاده للسودان الجديد ، ويدعي أنه أذا أقتضاهم الواجب أن يطوفوا بين مدنه و قراه وأن نخبر نواحي الحياة المختلفة فيه فلابد لهم أن يفعلوا ذلك .
و قال أيضا نحن جيل كان موضع تجربة الزمن ، تستهدفهم محنه وتصهره حوادثه وتعدهم الأقدار لتحمل مسؤوليات جسام و عظيمة لا قبل لمن سبقهم بها ولن يسمع الجيل اللاحق بمثيلاتها .
صفق الحضور كثيرا لحديث د.عبدالحليم محمد و وقف أحدهم وبدأ يثمن دور هذا الجيل و في عزمهم و كدهم و نضالهم لنيل شرف الحرية من المستعمر وردد بعدها أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي بك لبث الحماسة و ركن الخمول بين الحضور :
بلاد مات فتيتها لتحيا . . . وزالوا دون قومهم ليبقوا
وحررت الشعوب على قناها . . . فكيف على قناها تسترق ؟
أتجه الجميع بعدها بأنظارهم نحو المحجوب الخطيب المفوه صاحب القول السديد و الحكمة البالغة و الشعر الرصين ، فأعتدل في مجلسه وقال دعوني أقدم لكم صديقي بدوي مصطفى لعله يشجينا بحلو كلامه عن الأنجليز اليوم !
أبتسم بدوي له ورد عليه قوله : يا محجوب هل تعلو العين على الحاجب؟
أنتم أهل الكلام بصرفه و نحوه و بلاغته فلن أقدم نفسي عليك خصوصا بعد أن رأيت مدام دي باري وقد شمرت عن سواعدها و فردت وجهها و صلبت طولها و عدلت جلستها أنتظارا لحديثك أنت بالذات دون غيرك ...
ثم أنفجر المجلس بعد تعليق جدي ضحكا و قهقهة ، وأحمر وجه السيدة اليونانية ذات الوجه المليح و الصدر البارز و الخصر النحيل خجلا .
أبتسم المحجوب من مزحة رفيق دربه بدوي مصطفى ، و بدأ الجميع بالسكوت ينتظرون ردة فعله ، فقال لهم المحجوب مغيرا من نبرة صوته بشكل أكثر ألتزاما و حزما : ( يا رفاق أن في القمة متسعا فقط للمتوفقين ) !
قاطعه أحد الحاضرين بأنفعال : لا فض فوك يا المحجوب ، فعلا أن القمة لا تتسع ألا للمتفردين و نحن أهل لذلك .
صمت المحجوب برهة كأنه لم يعجبه مقاطعة هذا الشخص له ، فأنتظر الحضور بعدها بترقب بقية كلامه ، ثم واصل ...
هذه العبارة الحكيمة أحبتي ليست من بنان أفكاري وأنما هي عبارة أطلقها لنا سيادة الحاكم العام الجديد السير جون مافي في زيارته لنا الأسبوع الماضي في كلية غردون الثانوية .
لقد كانت زيارة تأريخية تحمست و أستعدت لها أدارة الكلية و الأساتذة و الطلاب أستعداد كبيرا لمقدم الزائر المهم و الكريم ، خصوصا وكما تعلمون الظروف السياسية الحرجة التي أستلم فيها السير مقاليد حكم و أدارة البلاد بعد حوادث عام 1924م و مقتل السردار و خروج الجيش و الموظفين المصريين من البلاد .
لقد كان يوم الزيارة يوما حافلا أطل علينا فيه السير ( جون مافي ) بطلعته البهية وهو شخص أنيق كعادة الأنجليز في ذلك ، طويل القامة طولا منقطع النظير ، وأذا به يخطب الطلاب فيتدفق بلاغة و حسن تعبير و يفتح أمامنا أبواب الأمل للغد بعد أن شنف آذاننا بجملته الخالدة ... (أن في القمة متسعا فقط للمتوفقين ) .
أمن د.عبدالحليم محمد على كلام المحجوب محركا رأسه بعلامة الأيجاب ، ثم أضاف عليه :
ولعلك تذكر أيضا للبقية يا المحجوب أن أساتذتنا البريطانيين طلبوا ألينا أن نكتب جميعا مقالات انشائية عن تلك الجملة القيمة التي تتضمن معاني عظيمة .
وافقه المحجوب ثم تابع :
نعم يا عبدالحليم وقد طبقنا عليها نظرية دارون عن تنازع البقاء و بقاء الأصلح ، و نظريته عن تخير النماذج ، و صورنا كيف يكون الزحام في الدرج الأسفل للسلم و يشتد العراك ، ولكن سرعان ماينفلت الأقوياء من بين الزحام صاعدين درجات السلم من غير عناء ليصلوا الى القمة .
غمغم الجميع بين واحد مؤيد وثاني متحمس و آخر معلق بشكل خافت لمن كان يجلس بجواره حول قيمة هذه العبارة و ماتحمله من روح و ألهام يدفع دفعا نحو تخير العلا و الخلاص والحرية و التقدم و السؤدد لهذه البلاد .
سكت الجميع لبرهة بعدها كانوا ينظرون فيها للمحجوب و عبدالحليم محمد و اللذان كانا بدورهما ينظران لجدي بدوي باشارة أن دورك قد حان للكلام بحديث الأنس و حديث دنيانا التي حسبوا كل شيء جميل عنها غير أمر موتها و زوالها !
رأيت جدي يعتدل في جلسته ثم يبدأ الحديث فتحمست لذلك كغيري ممن ضاقت بهم جنبات الصالون الأدبي :
- اليوم تعرضت يا رفاق لموقف قبيح مع أستاذ اللغة الإنجليزية بالكلية مستر ديكاندول .
وقفت مدام دي باري من خلف الجميع و حاولت أن تشارك في الحديث فقالت مقاطعة جدي :
أعرفه جيدا يا بدوي هو رجل إنجليزي شين ، مسيخ ، قوي ، وشه زي وش العجايز و نخرته حادة زي المنشار بجي لينا كتير هنا في المكتبة لطلب الروايات الأنجليزية .
أنفجر المجلس كله بعدها ضحكا و دخلوا في نوبة هستيرية من القهقهات و التعليقات الجانبية الساخرة من مداخلتها الطريفة و لكنتها السودانية المكسرة .
وبعد أن سكت الجميع مرة أخرى و توقفوا عن الضحك سأل عبدالحليم محمد بدوي :
الحصل ليك شنو مع الزول العبيط العكليته دا يا بدوي ؟ احكي لينا يا بدوي شوقتنا !
سألني اليوم فجأة في نص الحصة :
بدوي مصطفى لماذا تضحك و تهزأ في حصتي ؟
لم يدعني أرد عليه ، فأستطرد سريعا بصوت جهوري عالي و حاسم صائحا بغضب :
أخرج من هنا لا أريد أن أراك بعد اليوم في هذا الفصل مرة ثانية يا بدوي ... أخرج من فصلي و لا ترجع أليه البته !
حاولت أن أستجمع قواي بصعوبة بعد أن دب الخوف في نفسي وأنتشر بين ضلوعي ، و تشجعت شيئا قليلا ناظرا أليه ثم قلت له بأعتراض :
معذرة يا مستر لكن لماذا و الى أين ؟
رد سريعا :
Second c
لكن يا مستر أنا لم أضحك ( قاطعني ) :
ليس عندي أي متسع من الوقت كي أضيعه في النقاش مع طالب عابث وكسول مثلك ! قلت لك أذهب إلى ذلك الفصل أو أذهب للجحيم !
عمّ الارتباك كل من في الفصل لحظتها دون أن ينبس أو يتفوه أي أحد بكلمة واحدة ، الجميع كما تعلمون في الكلية يهابونه و يتحاشون الصدام معه ، أنه شخص عصبي و مزاجي و عنيد ، فخرجت بعدها منكسرا حزينا بقلب جريح على مرأى ومسمع من بقية زملائي .
تحركت إلى الفصل الثاني و عندما وصلت أليه رحّب بي زملائي الجدد أيما ترحيب، ثم سألوني :
بدوي ... ماذا جاء بك إلى هنا؟
أجبتهم مغتما طردني مستر ديكاندول من الفصل و قال لي أذهب بلا رجعة .
التفوا حولي وطيبوا خاطري ودعوني أن أبق معهم في فصلهم ، متوسلين ، فأذعنت للأمر الواقع ، و جلست بينهم حتى جاء وقت فسحة الأفطار .
بعدها جاءني في ساحة المدرسة أثناء الفسحة أصدقائي في الفصل الأول ، و بدأوا يواسوني ويخففون علي الأمر و طالبوني بالعودة مجددا قائلين :
يا أخي الخواجة ده عوير وسوف ينسى ما كان بينكما هلم وارجع إلى فصلك عادي ، صدقنا لن يلتفت أليك و لن يتذكرك .
وماذا جرى بعد ذلك يا بدوي ؟
سأله عبدالحليم محمد بشغف !
بدأ يتابع بدوي سرد قصته على الأخرين ، و الجميع منصت له :
رجعت إلى الفصل بعد تشجيع زملائي ، سائلا الله السلم والسلامة من هذا الأستاذ العوير ، و كنت أردد بيني و بين نفسي الآية الكريمة ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) .
وعندما حان وقت حصة الإنجليزي بعد الفسحة ، دخل المستر الفصل بخطواته الثابتة المعهودة ، وبدت عليه علامات الدهشة و الأستغراب عندما وقعت عيناه مع عيني .
قذفني بنظرة كشرار اللهب فتاكة كأنها رمح، و صمت لثواني مرت علي كالساعات كان يفكر فيها مليا على مايبدو في ردة فعله ، ثم انتهرني بعدها صائحاً :
بدوي مصطفى ... لماذا عدت إلى فصلي ثانية؟ ألم أقل لك لا تريني وجهك مرّة أخرى؟
ذهبت للفصل سي ولم أجد مكانا فارغ يا مستر !
أخرج و أذهب للفصل دي أو أف أو أي فصل أخر .
خرجت من الفصل مرة أخرى و قعدت في أحدى مقاعد الحوش ، في كأبة و وحدة من الخيال، وكأن رأسي قد انطبقت أرضه على سمائه.
رأيت المستقبل أمام ناظريّ مظلما و سوداويا ، و قلت في نفسي الآن تحطمت كل آمالي وأحلامي بعد أن بدأ مستقبلي أمامي اليوم في طريق الانهيار.
أحسست حقيقة يا أخوان كأن أحدا ضربني ضربة قاضية انكتمت من إثرها أنفاسي وفقدت بعدها الوعي والبصيرة .
وبينما كنت أجالس نفسي المبتئسة أحدثها عن سوء حالي في قعدتي تلك، جاءني عم زايد فراش المدرسة في خطواته الخفيفة المعهودة ليخبرني أن المدير يطلب مقابلتي .
كان مدير الكلية غير متواجد وقتها ، ولا أعلم إن كان في إجازة أو في رحلة عمل لإنجلترا، وكان مستر ديكاندول بمثابة المدير بالإنابة.
قطعت الردهة متثاقل الخطى قاصدا مكتبه ، ثم نقرت على الباب فأومأ إلى بإشارة أن أدخل و حدجني بنظرة ملتهبة أقسى من تلك التي رمانها بها في الفصل ، حينما سمحت لنفسي بالدخول دون إذنه .
بادرني بنبرة عنجهية متطاولة مليئة بالازدراء والخزي، قائلا :
بدوي مصطفى ...
نعم مستر ديكاندول
أنت طالب كسول ولا تعمل ومشاغب إلى أبعد الحدود !
هذا ليس صحيح يا مستر!
أنظر لدرجاتي الأكاديمية و في المناشط أيضا لتتأكد من عكس ذلك .
أخرج ملفي وتأمله مليّاً مطالعاً درجاتي في مختلف المواد ، و لمحت في قسمات وجهه عدم الأرتياح و الأمتعاض وهي تتبدل عندما تحقق من أنها جيّدة .
ماذا تعني بضحكك في فصلي يا بدوي ؟
لم أكن أضحك يا مستر ديكاندول ، صمت بعدها دون أن أنبس بأي كلمة وكأن لساني قد انعقد .
ثم سألني :
هل أنت تدرس معنا هنا بالمجّان؟
أجبته بصوت متهدج ومرتبك :
نعم يا مستر !
لازم تدفع كل النفقات يا بدوي .
قلت في نفسي ..... الخواجة ده حكايتو شنو؟ عايز يغطس حجري؟
سألني مستطرداً و في وجهه ابتسامة و سخرية وتهكّم :
ماذا يعمل والدك؟
مزارع .
يجب أن تذهب وتساعده في الزراعة .
قلت في نفسي .... لا حول ولا قوة إلا بالله ، المدير ده عايز يصل معاي لي شنو ..... داير بأي طريقة يخلص مني و يرفدني ؟
كرر المستر جملته بإصرار وامتعاض :
يجب أن ترحل وتساعد والدك في الزراعة !
عدت إلى صمتي ثانية وكأن صخرة قد وضعت على قلبي وجعلتني واجما حائراً، في الرد المناسب لدعوته المتهكمة ؟
مضى يراجع درجات الفصل الأول (التيرم) وملأ بها نظره من جديد وأفصحت أساريره عن غفران غير متوقّع، ثم قال لي :
لا تضحك مرّة أخرى في فصلي!
أذهب الى فصلك وكن جادا و ملتزما في سلوكك العام .
رجعت أدراجي شاكراً الله على رحمته التي تغمدني بها في تلك اللحظة العسيرة وتذكرت قولة والدي من قبل، حين رفض الخواجة ادخالي المدرسة الابتدائية بالمجان (لا يغلب عسر يسرين ) ... وهذه كل تفاصيل قصتي معه .
تنهد الجميع مع أخر القصة و تدخلت دي ماري مرة أخرى وقالت يا بهوات رأيكم شنو نختم الكلام عن مستر دينكاتول السغيل دا بوصلة غناء !
أستحسن الجميع الفكرة بعد أن شاهدوا بدوي يتصبب عرقا ومعه المحجوب و عبدالحليم و كأنهم يعيشون القصة من جديد .
بدأوا بالغناء و الطرب وقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة ليلا و النفوس تحترق جميعا شوقا للحرية والخلاص الوطني لهذه البلاد التي أقسموا جميعا أن يجعلوها في مقدمة الأمم بعد خروج الأنجليز منها .
وللحديث بقية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.