وساطة الفريق اول ابراهيم سليمان: هل تكرار لذات السيناريو    شاهد بالفيديو.. ياسر العطا يقطع بعدم العودة للتفاوض إلا بالالتزام بمخرجات منبر جدة ويقول لعقار "تمام سيادة نائب الرئيس جيشك جاهز"    عقار يشدد على ضرورة توفير إحتياطي البترول والكهرباء    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    ريال مدريد يهزم دورتموند الألماني ويصطاد النجمة 15    (زعيم آسيا يغرد خارج السرب)    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    قنصل السودان بأسوان يقرع جرس بدء امتحانات الشهادة الابتدائية    المريخ يتدرب على اللمسة الواحدة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان    شاهد بالفيديو.. مواطن سوداني ينطق اسم فريقه المفضل بوروسيا درتموند بطريقة مضحكة ويتوقع فوزه على الريال في نهائي الأبطال: (بروت دونتمند لو ما شال الكأس معناها البلد دي انتهت)    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    منظمات دولية تحذر من تفشي المجاعة في السودان    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    صلاح ينضم لمنتخب مصر تحت قيادة التوأمين    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد.. زوج نجمة السوشيال ميديا أمنية شهلي يتغزل فيها بلقطة من داخل الطائرة: (بريده براها ترتاح روحى كل ما أطراها ست البيت)    بعد الإدانة التاريخية.. هل يستطيع ترامب العفو عن نفسه إذا نجح بالانتخابات؟    أسعار الأدوية في مصر.. المصنعون يطلبون زيادة عاجلة ل700 صنف    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يقدمون فواصل من الرقص "الفاضح" خلال حفل أحيته مطربة سودانية داخل إحدى الشقق ومتابعون: (خجلنا ليكم والله ليها حق الحرب تجينا وما تنتهي)    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    في بورتسودان هذه الأيام أطلت ظاهرة استئجار الشقق بواسطة الشركات!    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    السعودية "تختبر" اهتمام العالم باقتصادها بطرح أسهم في أرامكو    ميتروفيتش والحظ يهزمان رونالدو مجددا    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وطن المحنة ... في صحبة بدوي مصطفى الشيخ ورفاقه (4) .. بقلم: د. عبدالله البخاري الججعلي
نشر في سودانيل يوم 06 - 05 - 2017

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
أم درمان فبراير 1996م
وصلنا للمستشفى أخيرا وكانت في غاية البساطة والجمال ، أفرادها العاملين كانوا في أجمل صور النظافة و الأناقة ، و فيها حديقة منسقة بشكل باهر و جاذب ، وخيل لي وقتها أنني في مستشفى نائي صغير في نواحي الريف الأنجليزي .
كل شيء في هذا المكان كان يشرح الصدر ويبعث في النفس الأرتياح ، الترتيب و الهدوء و النظام ، وحتى الأبتسامة التي كانت تعلو وجوه العاملين هنا ، الزهور التي بدت لي منسقة بشكل جميل ، غير أن كل هذا لم يخفف من قلقنا على صحة جدي المتراجعة .
هناك لمسة جمالية أنجليزية محيطة بي ، هذا ما شعرت به منذ الوهلة الأولى وأنا أدخل هذا المكان ، و شعرت سريعا أن هناك رابط ما بين كتاب موت دنيا الذي أحمله وبين هذا المشفى الخاص الصغير .
أستقبلتنا جدتي عزة الريح العيدروس عند البوابة بوجه يمتلئ صبرا و جلدا و أحتسابا ، ثم أخذتنا مباشرة نحو الغرفة التي يستلقي فيها جدي بدوي .
عندما دخلنا عليه كان نائما في غفوة ما بعد العصر ، وكان بجوار سريره طاولة عليها صديقاه اللذان لم يفارقاه طيلة عمره ، سبحته الخضراء و مصحفه .
كنت محتارا بادي الأضطراب عندما رأيت منظره في البداية وهو مستلقي يصارع أوجاع المرض و صرعاته ، وكان أمرا مؤلما لي ساعتها وأنا الذي تمتعت ردحا طويلا في طفولتي بحسن صحابته و طيب حنانه و أبتسامته التي لا تفارق وجهه .
لقد تمثل لي الوطن الذي مزقت وفتكت بأوصاله الحرب شرقا و غربا و جنوبا ، و طمرت العقوبات الأقتصادية المؤلمة و العزلة الخارجية أقتصاده بعد أن فرضت علينا بسبب سياسات النظام الحاكم الهوجاء ، في صورة جدي الذي يرقد أمامي طريح الفراش مريضا في هذا السرير بعد سنوات و سنوات من العطاء والبذل الوطني .
قبلته في جبهته بعد أن كفكفت دمعي ، ثم تنحيت بعيدا نحو ركن قصي من الغرفة جلست فيه منشغلا بمعاودة القراءة في كتاب ( موت دنيا ) أحاول أن أعيش في سيرة و دنيا جدي و رفاقه ، و تركت أمي تنخرط مع جدتي في حوارات طويلة بصوت خافت عن تطور حالة جدي الصحية .
وقفت أمام باب صالون مدام ( دي باري ) وأنا أسمع صياح عالي و تصفيق متواصل لمن كانوا في الداخل .
يبدو لي أن الجدل على أشده و أن جلسة نقاش اليوم سوف تكون حامية الوطيس و تنذر بشرر من ألهبة الأدب و المغنى و الوطنية !
طرقت الباب طرقا خفيفا ثم دخلت بهدوء كعادتي دون أن يشعر بي أحد ، ممنيا النفس أن أستمتع بأنس الصحبة و ألقها مع أبطال ملحمة هذا المكان الرحب .
وبينما أنا في مجلس المحجوب و د.عبدالحليم محمد و جدي بدوي داخل صالون مدام دي باري الأدبي ، أواصل أستماعي لتلاوة عريضتهم الوطنية بتأدب و أنصات ، شعرت أثناء حديثهم عن الحرية و حقوق شعبنا بحياة كريمة بعد الأنعتاق من نير الأستعمار بغصة شديدة في حلقي ،و بخافق في الصدر ثارا و دمع في مجاري الخد مارا .
السبب هو تشتت عقلي من صور المقارنة التي لاحت أمامي في الأفق ، بين لوحة الوطن الزاهية التي ظل يرسمونها له بعد خروج الأنجليز منه ، وبين حاله الآن المزري بعد أن ماتت دنيا هذا الجيل و ذبلت أمانيه و أنقشعت أحلامه و رحل رجاله .
رجاله الذين عملوا مع الأنجليز ثم تعلموا منهم أن يأسسوا لهذا الوطن خدمة مدنية مدربة على مستويات عالية من المسؤولية و الأمانة و عفة اليد من المال العام .
رجاله الذين رسخوا حكم القانون في أدارة شؤون هذه البلاد السياسية و الذي كان ينطبق على أي فرد منهم الوزير قبل الغفير ، ولا تتدخل فيه السياسة و الولاء الحزبي أبدا .
رجاله الذين حفظوا السودان موحدا بحدوده كاملة التي أستلموها من الأنجليز و منعوا القوى الدولية أن تلعب بسيادته و الأطماع الأجنبية التي كانت تحيق به من كل جانب .
رجاله الذين حكموا أهل هذه البلاد برضاء تام و أختيار من أهلها عبر صناديق الأنتخابات في ظل نظام سياسي ديمقراطي يكفل حرية الأختيار كاملة للجميع دون قيد أو شرط .
حاولت جاهدا أن أعيش زمانهم في تلك اللحظة وأنا مغيب الذهن بسكرة و نشوة طريقة أدارتهم لهذه الدنيا ، و حديثهم الحماسي لمستقبل هذا الوطن ، متناسيا في نفس الوقت حاضري و حاضر هذا الوطن المؤلم الحالي .
فالبكاء لن يجدي على اللبن المسكوب ، وربما كان الأنفع لي أن أستمتع باللحظة التي أنا بصحبتهم فيها ، فأتتلمذ على جدالهم فربما نفع يوما معرفة تاريخنا الوطني السياسي في صناعة غد و مستقبل أفضل لهذه البلاد .
كان المحجوب كعادته مفتتحا الحديث يشرح بخلفيته و خياله القانوني الفذ للحضور الهرم الأداري لحكومة السودان .
ذكر أنه يتألف من الحاكم العام و ثلاثة سكرتيرون ، الأداري و القضائي والمالي ، ثم يتبع ذلك حكام المديريات ومعها مفتشي المراكز و مساعديهم .
قال أن السكرتير الأداري مسؤول عن الصحة والتعليم و الزراعة و الأعلام والطيران المدني و الشرطة و السجون و الحكومة المحلية و الأدارة الأهلية ، وأن السكرتير المالي مسؤول عن الجمارك و رسوم الأنتاج و مشروع الجزيرة و السكك الحديدية .
أما السكرتير القضائي فمسؤول قطعا عن التشريع و القضاء و مصلحة وتسجيل الأراضي .
تدخل أحد طلاب كلية غردون فجأة مقاطعا حديث المحجوب وصاح فيه بأعلى صوته :
ربما نسيت أهم جهاز أسسه الأنجليز يا المحجوب ، أنه مصلحة الأستخبارات في الخرطوم والتي تتبع مباشرة لسلطة و مكتب الحاكم العام ..... هذه أم المشاكل !
صمت المحجوب للحظات كان فيها الجميع ينتظر بشغف أن يدلو بدلوه في هذه المداخلة ، فقال بعد برهة من الوقت كان يستجمع فيها رأيه :
لا مناص من الأعتراف بوجود هذه المصلحة يا هذا ، ولا مجال لأنكار أن الأنجليز في سبيل أستتباب الأمن و معرفة كل من يتآمر ضدهم قد وظفوا سودانيين من عديمي الضمير الوطني ليرفعوا لمديرها تقارير أمنية ، لكن هذا لن يثنينا عن نضالنا و تحقيق أهدافنا و نيل مرادنا لهذا الوطن العزيز .
أبتهج الجميع بعد كلامه الأخير و صفقوا له كثيرا و بدأ البعض ينشد أغاني وطنية ألهبت حماسة الحضور و جعلت مدام ( دي باري ) تتمايل بجسدها النحيل الجميل وهي توزع بينهم أكواب الشاي و العصير و لبعضهم الجعة .
ثم قال أحدهم للحضور ممازحا الفتاة اليونانية :
يا جماعة كدي شوفوا لينا أمر هذه المرأة الخواجية المجنونة دي ، ما ممكن تكون جاسوسة للأنجليز مغروزة فينا و نحن ما جايبين خبر !!!!؟
ألتفتت أليه مدام دي باري بحدة و صاحت:
أجي أجي أنا جاسوسة لي الأنجليز ، دا كلام تقوله يا أسماعيل !!!!؟
فأنخرط الجميع بعدها من ردة فعلها العفوية و طريقة وأسلوب كلامها في نوبة ضحك هستيرية .
تلقف بعدها الحديث عبدالحليم محمد من المحجوب وخطب في رواد الصالون :
أحبتي أهل النضال أن معترك الحياة السياسية شائك محفوف بالمخاطر غير أن جيلنا لم يكن يعرف يوما التردد و الوجل أو الخوف ، ولم يكن يقدم رجلا ليؤخر أخرى .
قاطعه أحدهم :
نعم نحن اهل الحارة يا حليم ، لكن شعورنا بفداحة المسؤولية الوطنية الكبيرة الموكلة لنا و خوفنا من مرارة الفشل يجب أن يجعلنا نلزم الحذر من هؤلاء الأنجليز حتى لا نضل الطريق أو تزل بنا الأقدام .
أمن د.عبدالحليم على كلامه و أضاف عليه :
الحذر وحده لا يكفي يا هذا ، فقد كان لنا الحظوة كجيل في أن نصحبه بالعقل الراجح و الفكر النير و الصبر و المثابرة و العزم الصادق الذي لا يلين .
نحن شركاء في كل شيء ، و المسؤولية الوطنية على عاتقنا جميعا و يجب أن يحاسب كل فرد منا نفسه قبل أن يحاسبه الآخرين على أي عمل يأتيه .
نحاسب أنفسنا حسابا عسيرا بحجم الثقة و الحب و الدعم الذي منحه لنا هذا الشعب الصابر المجاهد المؤمن ، فقد وطنا العزم أن نشد أزر بعضنا البعض ، ففشل أحدنا نعتبره فشل للجميع ، وفخر أحدنا فخر للجميع و فخر للوطن بكامله .
تابع أحدهم :
طيب يا رفاق النضال أقترح أنه و حتى تكون لنا كلمتنا يجب أن نفكر يوما ما في تجميع أنفسنا كمثقفين و طليعة تمثل الشعب في تنظيم ما ، لأن الانجليز يريدون أن يضعفونا على حساب رجال الدين و الأدارة الأهلية !
أمن آخر على كلامه :
نعم لا تحلموا أبدا بأن الأنجليز سوف يمنحونكم مساحة من الحرية لتقدموا فيها مطالبكم بأسم الشعب كمثقفين و متعلمين ، لذلك علينا أن نقتلع حقوقنا و حقوق شعبنا عنوة بأتحاد كلمتنا .
أخذ النقاش يحتدم و يحتدم بعدها ، كل يدلي بدلوه ، و ظهر توجه قوي بينهم في الأخير أن يؤسسوا تنظيم يجمعون فيه كل الخريجين ، و يقدمون بأسمه مذكرة قوية للأنجليز يعبرون فيها عن كل مطالبهم و أشواقهم .
لله دركم من جيل !
توقفت عن القراءة مع حركة دخول الممرضة علينا في الغرفة والتي كان يبدو عليها التثاؤب و التكاسل بعض الشيء ، ربما كان لها وردية طويلة و يوم شاق فأرهقها وجعلها لا تستطيع حتى أن تخفي أرهاقها و ضجرها عنا .
قامت بقياس الضغط لجدي و تأكدت من أنه يتناول الدواء في وقته وسألتنا بكل وقار و تهذيب أن كنا نريد أي خدمة فشكرتها جدتي و أمي ، ثم أنصرفت بعدها مسرعة ربما لنيل قسط من الراحة في أستراحة العاملين أو لتسليم ورديتها لزميل آخر .
عدت للكتاب كرة أخرى ليس لمعاودة القراءة ولكن لكتابة هذا التعليق على هامش نفس الصفحة الأخيرة التي توقفت عندها :
لم يستفق وعيي على حكم ديمقراطي يكفل الحريات في دنيا اليوم ، وهذا ما يجعلني أتأسى على ضياع الديمقراطية في هذه البلاد ثلاثة مرات .
لقد تجرعنا الكؤوس تلو الكؤوس من الديكتاتورية الفاشية التي أسست لحكم مطلق في السودان لجماعة معينة في بلد حدادي مدادي لسنوات عدة .
لذلك لم أتذوق طعم الحرية ولا أظن أن من حولي يكترث بها كثيرا اليوم مقابل المأكل و المشرب و تأمين ضرورات الحياة بسبب الضائقة الأقتصادية التي نعاني منها .
لقد تعلمت من صحبتكم الشيقة أساتذتي و أبائي أن الحرية في مفهومها الشامل و الواسع مبدأ يجب أن يكون مقدسا في أذهاننا ، نؤمن بحتميتها ، نعمق في ضمائر أبناء هذا الشعب الأحساس بأهميتها ، و نقرع الأجراس ليل نهار في فجاج أرض هذه البلاد تبشيرا بها .
الحرية كقيمة في الحياة لا مساومة عليها ، و الشعوب التي تدخل مع حاكميها أو مستعمريها في مقايضة أو مساومة عليها توقع في نفس الوقت وثيقة عبوديتها .
ولكن هل الحرية غاية في حد ذاتها أم وسيلة !!؟
قطعا هي وسيلة لبلوغ غايات أعظم ، فالوثبات في ظل الأنظمة القمعية وأن تجملت بأي مسميات خاوية المضمون لا تخلق أي سلام أو تنمية أو نهضة بل خيبات جديدة و فشل كبير و مزيد من الكبت و القمع والفساد .
الحرية هي الوسيلة المثالية و المدخل الرئيسي للبناء الديمقراطي للدولة والذي يعتمد على توزيع و تقسيم المسؤولية الوطنية بين السلطات الثلاثة التنفيذية و التشريعية و القضائية .
و على عكس الحاكم العسكري الذي يلجأ في كثير من القرارات للحسم السريع ، فأن الحكومة الديمقراطية تحتاج الى صبر و أناة في عملية صناعة القرار ، ولكنها و رغم ذلك البطء فأنها المصدر الوحيد الذي يمثل سيادة الشعب و سلامته .
قطع علي كتابتي لهذه الخاطرة دخول جمع من الأطباء و الممرضين لغرفة جدي يتقدمهم رجل متقدم السن شائب الرأس يلبس بدلة بيضاء كاملة ظهرلي في هيئته كصورة اللوردات الأنجليز الأرستقراط .
تقدم نحو جدتي و سلم عليها سلاما خاصا وكأنهم يعرفون بعضهم منذ أمد بعيد و هي ترد عليه التحية بأعتزاز و حرارة .
مرحب بيك يا دكتور
كيف هو حال صديقي اليوم يا حاجة عزة ؟
الحمدالله يا دكتور في خير و نعمة .
سأل بعدها الأطباء عن تطور حالته الصحية فقدموا له تقرير طبي مفصل ، دخلوا بعدها في نقاش قصير أشتركت فيه الممرضات تتوسطهم تلك الأخيرة التي دخلت علينا متكاسلة متثائبة قبل نصف ساعة من الزمن .
بدى لي أو تخيل لي أنه شخص مهم للغاية ، كبير أخصائيين أو مدير هذا المشفى كله ، هذا ماشعرت به بسبب أرتباك و حزم و أهتمام الطاقم الطبي المصاحب له بكل كلمة كان يوجهها لهم .
بعد ما أنهى هذا الدكتور كلامه معهم أتجه الى سرير جدي بدوي و جلس بجواره ثم أمسك بيده و حياه قائلا :
كيف صحتك اليوم يا شيخ بدوي ؟
رد عليه جدي بضغطة خفيفة على يده دون أن ينبس بأي كلمة أشارة منه أنه بخير و أنه سعيد لرؤيته.
بعدها حدث مشهد عجيب لن أنساه من مخيلتي طيلة حياتي .
ظل هذا الدكتور يمسك بيد جدي و هو ينظر أليه مليا دون أن يتكلم .
كان ينظر أليه و كأنه يسترجع شريطا طويلا من الأحداث و الذكريات ، ثم بعدها بدأت تنزل من خده دموع غزيرة حاول جاهدا أن يكتمها وأن لا يذرفها ، ألا أنه يبدو أن نفسه لم تقاوم أنهيارها أمام مشهد جدي الذي بدى جاثيا على السرير أمامه دون أي حركة .
تناول الدكتور من جيب بدلته منديلا مسح به دموعه ثم وقف متجها و موجها كلامه لطاقمه الطبي المرافق :
طبعا أنته جيل اليوم قد لا تعرفون هذا الشخص المريض الراقد في السرير دا و الذي تمرون عليه كل يوم مرور طبيعي كأي مريض .
الكلام عنه حقيقة قد لا يكفينا أياما و أيام حتى نوفه حقه ، لذلك سوف أختصر لكم القصة كلها في كلمة واحدة فقط هي السودان .
هذا الرجل الراقد في السرير دا هو السودان بكل عظمة و جمال تاريخه النضالي لنيل الأستقلال .
و بأختصار أنا دايركم من اللحظة دي تعتبروا الزول الراقد دا كل ما تدخلوا عليه في الغرفة أنه أنا ،أنا الراقد بدله ، فأنا و هو واحد .
أمن الأطباء و الممرضين على كلام هذا الدكتور دون أن يبدو على ملامحهم أنهم فهموا شيئا كثيرا عن أمر جدي ، و وعدوه أنهم سوف يعطوه من اليوم عناية مكثفة و خاصة ، مع أبتسامة أرتياح كبيرة ملئت وجه جدتي و أمي ، ثم خرج بعدها سريعا .
كان مشهدا عجيبا لن أنساه طيلة حياتي ، وكانت المفاجأة الكبيرة لي عندما سألت جدتي عزة و أمي رباب عن هوية هذا الدكتور أو هذا الشخص الذي كان أميرا لكل هذا المشهد التراجيدي الحزين ..... فقالت لي أمي :
ألم تعرفه !
لا لم أعرفه ولا أظن أنني رأيته قبل هذا اليوم رغم وجهه المألوف لدي !
ردا علي أمي :
هو صاحب الكتاب الذي تقرأه و تحمله في يدك منذ أن خرجت من البيت ، هو د.عبدالحليم محمد .
لحظتها صعقت من هول صدمة الأجابة ، و عرفت سريعا السر وراء جلوسه الطويل بصمت ممسكا يد جدي ثم أمر هذه الدموع الغريبة التي ذرفها أمامه بحرقة و حزن دفين و شديد .
رحم الله المحجوب و دكتور عبدالحليم محمد و جدي بدوي مصطفى الشيخ و كل جيل رحلة كتاب موت دنيا .
أن رحيلكم مر و قاسي علينا في دنيانا اليوم خصوصا أنكم كنتم رجال دولة بوزن الذهب ولن تكفينا بحارا أو محيطات من الدموع لننعيكم أو لنعبر عن أتساع الشقة بين حكمكم و حكام اليوم !
لا أدري من الذي ماتت دنياه أنتم أم نحن !
ومن الذي أوقعه الله في جب الأبتلاء و البؤس و القهر أنتم أم نحن !
أخيرا وليس آخرا لابد من العدل و الديمقراطية و الحرية في هذه البلاد وإن طال السفر .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.