مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    وفاة وزير الدفاع السوداني الأسبق    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع د.النور حمد
نشر في الراكوبة يوم 06 - 04 - 2017

المفكر د. النور حمد في حوار تجلية الرؤى والمواقف رغم كل الادعاءات فالسودان حالياً دولة علمانية غالبية البشر يظلون متدينين بطريقةٍ أو بأخرى "أسلمة الدولة" تعني تقسيمها وشرذمتها وتعطيل كل قواها الحية انقلابات العسكر السودانيين (علمانيين وإسلاميين) انتهت إلى فشلٍ مدوٍّي أخلاقيات الجماعات السودانية لم تستسغ رأسمالية الإسلاميين المتوحشة ما يجري في السودان ارتجال يفضي إلى ارتجالٍ أسوأ من سابقه لهذه الأسباب (...) انعقد لقاء نيروبي النخب فاقموا ازمات البلاد بل وصنعوها منذ مؤتمر الخريجين تجربة حكم الإسلاميين أنها أحرقت شعارات الإسلام السياسي إلى الأبد الإسلاميون السودانيون علمانيين، والعلمانيون السودانيون إسلاميين. يعمل د. النور حمد باحثًا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدولة قطر، ومشرفًا علميًّا على الموقع الإلكتروني للمركز، ومديرًا لتحرير مجلة "سياسات عربية" التي يصدرها المركز- وهو حاصل على دكتوراه التربية في التربية الفنّية من جامعة إلينوى، وماجستير التربية الفنّية من جامعة ميامي، ودبلوم الفنون الجميلة من كلّية الفنون الجميلة والتطبيقيّة في السودان درَّس في جامعات شرق واشنطن، "ومانسفيلد"- في الولايات المتحدة الأميركيّة، وعمل رئيسًا لقسم التربية الفنية في جامعة قطر وهو ناشط ثقافي، نشر أكثر من مئة مقالة في الصّحف والمجلّات العربيّة والسودانيّة، في الفكر، والثقافة، والسياسة. كما نُشرت له دراسات متنوّعة في الدوريّات الأكاديمية المحكّمة في الفكر والتعليم والسياسة. وقد ألّف عدّة كتب في الفكر والثقافة والسياسة. حوار: الهضيبي يس كيف ينظر النور حمد لواقع المجتمع السوداني؟ - هذه سؤال كبير جدا وتصعب الإجابة عليه في حوار صحفي، لكن يمكن القول باختصار شديد، إن الواقع السياسي السوداني واقع مأزوم. فكل الحراك الذي يجري الآن مما تحاول الحكومة عمله من خلال الحوار الوطني، ومما يجري من القوى المعارضة بمختلف مكوناتها يدل على الأزمة المستحكمة ومحالة الخروج منها. ولا أعتقد أن اختراقًا قد جرى في ذلك. فما يجري لا يمثل، في نظري، سوى إعادة تدوير للأزمة. أما تردي الواقع الاقتصادي فلا يحتاج إلى دليل. وبطبيعة الحال تنعكس الأزمة السياسية والأزمة الاقتصادية على أحوال المجتمع. فبطالة الشباب، وانغلاق الأفق، دفعت بالكثيرين إلى الهجرة، وأفرزت اشكالات كبيرة في الأمن الاجتماعي، وفي منظومة القيم. ماهي حقيقة الصراع الدائر حول مفهوم علاقة الدين بالدولة؟ - ان عبارة "تحكيم شرع الله"، ظلت لعقود طويلة هي العبارة السحرية، التي استطاعت تيارات الإسلام السياسي أن تحشد بها سياسيًا، قطاعًا عريضًا من الجمهور المسلم، وتحصره بها في جيب التبسيط. وهكذا، نشأ التصور، بأن ما دُرج على تسميته، تاريخيًا، "الشريعة الإسلامية"، هو الوصفة السحرية الوحيدة، الكفيلة بحل قضايا الفكر، والسياسة، والاجتماع، في واقع المسلمين الحديث، المأزوم، المتسم بالتركيب والتنوع، والتعقيد. هذه الدعوة التي بدأت ارهاصاتها في ما يُطلق عليه، "عصر النهضة العربية"، ثم علا صيتها في النصف الأول من القرن العشرين، خاصةً، في مصر وباكستان، دعوة مأزومة، أفرزتها الصفعة الحضارية المجلجلة، التي نتجت عن التقاء الشرق الإسلامي، وجهًا لوجه، مع الحضارة الغربية، إبّان الحقبة الاستعمارية. حينها، أدركت النخب المسلمة، عن يقينٍ، مقدار تخلف واقعها. ولكن، بدلاً من أن تتجه عقول هؤلاء الدعاة، من حملة شعار "الدستور الإسلامي"، و"أسلمة الدولة"، إلى مناقشة سبل الخروج من ربقة التخلف، بدراسة التجربة الغربية، ومعرفة الكيفية التي انطلقت بها أوروبا من سيطرة الكنيسة، والإقطاع، وقبضة الحق المقدس للأباطرة والملوك، في الحكم، اختاروا الانكفاء على الجوانب غير المشرقة، في تاريخهم الديني، والعودة إلى متون النصوص الدينية، وتأويلاتها القاصرة عن شأو العصر، لدى الكتاب المدفوعين بالعاطفة الدينية، وحدها، محاولين كبس واقع بالغ السعة، والتعقيد، والحيوية، في أضابير نصوص الفقه القديمة، بالغة الضيق. ما كان المأمول والمنتظر؟ - تقديم أدبياتٍ نقديةٍ وفكرٍ إصلاحي. لكن للأسف جنح هؤلاء الدعاة للمزايدة، والاستعلاء. فامتطوا ظهر حصان التفوق الأخلاقي المتوهم، فوصف بعضهم؛ مثال محمد قطب، الحالة الكوكبية المتوثبة، حينها، المحتشدة من أجل تحقيق قفزاتٍ أكبر في التقنية والتنمية، وفي الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ب "جاهلية القرن العشرين". أدى ذلك التبسيط إلى انحصار قطاعٍ كبيرٍ جدًا، من العقول العربية والإسلامية، خاصة عقول الشباب، والطلاب، على امتداد العالم الإسلامي، في هذا الجيب المتحوصل، غير المنتج. وهكذا، أضاع رد الفعل المأزوم، تجاه تقدم الغرب، على الشعوب الإسلامية، ما يقارب القرن من الزمان، أُنفق معظمه في العنف السياسي، والتجارب الاعتباطية. لكن، كما رأينا، فقد دعت، حركة النهضة التونسية، مؤخرًا جدًا، وهي أول الخارجين من تلك الغيبوبة الطويلة، إلى ضرورة فصل الدّعَوِي عن السياسي. وجاء ذلك، بصورةٍ مفاجئة، وبلا تسبيبٍ منهجيِّ كاف. لم ذهبتم الى ذلكم التفسير، تفسير غياب المنهج الكافي؟ - هو أمرٌ يوحي، أن ضغوط الواقع السياسي، وحساباتِ الربح والخسارة، كان لها الدور الأكبر في إحداث تلك النقلة. ومع ذلك، يُحمد لحركة النهضة ذلك الإعلان، لأن فيه اعترافًا عمليًا بالأزمة، ودعوة للتفكير على نحوٍ جديدٍ، مغاير من الناحية الأخرى، نشأ من صدمة الاحتكاك بالغرب، عن كثبٍ، تيارٌ آخرٌ، مأزوم، تمثل في الماركسيين، والعروبيين؛ من ناصريين، وبعثيين. أدار هؤلاء ظهرهم لتراثهم، وواقعهم الثقافي، والاجتماعي، لتنشأ على أيديهم ما يمكن أن نصفها بحكومات الصفوة المغتربة عن واقعها، المنبهرة بالعلمانية، ولكن، على النمط الشيوعي، الاستبدادي، الذي يعتمد نظام الحزب الواحد، والدولة الأمنية. عطلت هذه النخب العلمانية العروبية، حراك الوعي، وحراك الثقافة الحرة، والتنمية، وحراك تجديد الخطاب الديني، وقعدت بالأوطان، عقودًا من الزمان وحين تساقطت هذه الأنظمة، مؤخرًا، في ثورات الربيع العربي، أسفر التحول المعلول، الناقص، الذي جرى، عن خرابٍ، ودمارٍ، وهجراتٍ جماعية ملحميةٍ، واضطرابٍ في العلاقات الدولية، وانبهامٌ للسبلِ، وحيرةٍ، مطبقةٍ. وكما رأينا في مصر، فقد أعادت النخب الكارهة للإسلام السياسي الديكتاتورية العسكرية، من جديد، بعيارٍ أقل، وكفاءةٍ أقل، وأحوال مصرية عامةٍ أسوأ. وتقول الشواهد، الآن، إن الأزمة المزمنة، قد أخذت تعيد إنتاج نفسها، على نحوٍ جديد. ولقد مثل السودان، الذي هو موضوع هذا الملتقى، المختبر الذي جرت فيه تجربة الإسلام السياسي، التي قدمت أبلغ دليل على أن "أسلمة الدولة" تعني، بالضرورة، تقسيمها، وشرذمتها، واجهاض طاقة دفعها، وتعطيل كل قواها الحية. إذاً فأخطاء النخب تسببت في زيادة رقعة الخلافات؟ - فقد مالت النخب الحداثية السودانية، في معسكري العَلمانية، والدين، في ممارستهما السياسية، في الواقع السوداني، إلى نهج القفز على الواقع، والتغيير من أعلى إلى أسفل. فاتبعت نهج الانقلابات العسكرية، بدلا من العمل الوئيد من القواعد، صُعدًا إلى أعلى، طلبًا للتغيير. انتهت الانقلابات العسكرية، التي قام بها كلٌّ من العلمانيين، والإسلاميين السودانيين، إلى فشلٍ مدوٍّ. فالنخب التي قادت هذه المسيرة الطويلة، التي اتسمت بالإخفاق الشديد، لم تكن تملك إدراكًا عميقًا، لا للعلمانية، ولا للدين. وجراء تصورات قاصرة تعثرت تجارب الحكم العربية الإسلامية الطويلة. أي تصورات تعنيها؟ - لا العلمانية، كوعاء للحريات، وللديمقراطية، وفصل السلطات، ولشفافية الحكم، ولحراسة الحقوق، كانت مفهومةً، ومطبقةً، كما ينبغي. ولا الدين، في بعده الروحاني، الذي يربط المجتمعات بمرجعيته الأخلاقية، وقواعد تربيته، خاصة تربية النشء، وبوصفه؛ أي الدين، رافعةً ساندةً لثقافتها التكافلية، التراحمية، كان، هو الآخر، مفهومًا، على نحوٍ صحيحٍ. نريد مزيد من الايضاحات؟ - يسارنا العلماني، ديكتاتوري إقصائي، وإسلاميونا، ديكتاتوريون إقصائيون، بل، ورأسماليون أقحاح، كما بينت تجربة الانقاذ في السودان. فهم يرفعون الشعار الإسلامي، ويديرون البلاد بمنهج الرأسمالية المتوحشة، فيطحنون مجتمعاتهم، ومنظومة قيمها، طحنًا ذريعًا. هناك عداء أعمي للفظة "ديني"، وسط قطاعٍ عريضٍ من العلمانيين. وهناك عداء أعمى للفظة "علماني"، وسط قطاعٍ كبيرٍ من المتدينين. وعليه، نشأت حالةٌ من الاستقطاب والانقسام المجتمعي، تتسم بالسير في خطين متوازيين، وبعدم الاستعداد، بل، وعدم القدرة على توليف المفاهيم، ومزاوجتها. طبيعي طالما كانت العلمانية نقيض للدولة الدينية؟ - "علمانية الدولة"، من جهة، و"روح الدين"، من الجهة الأخرى، لا يقفان، في حقيقة الأمر، على طرفيْ نقيض. فالذين يرون ضرورة أن تكون الدولة، بوصفها جهازًا إداريًا مُنسِّقًا لجهود الأمة، دولةً علمانية؛ أي محايدةً تجاه الأديان المختلفة، لا ينبغي أن يكونوا، بالضرورة، في نظر خصومهم، رافضين للدين، أو معارضين للتدين، ولقيمه الرفيعة. كما أن مفهوم التدين، لدى غلاة العلمانيين، الذين يرون في الدين ممارسة من مخلفات الماضي، وأن دوره في الحياة لا يتعدى تعطيل طاقات الشعوب، وحراسة التخلف، مفهوم أوشك، هو الآخر، على الانقراض. فحالة العداء المطلق للدين وللتدين، التي أذكتها التصورات الماركسية، اللينينية، الاستالينينة، الماوية، وبلغت حدَّ تجريمه، تبخّرت، هي الأخرى، تمامًا، مع انهيار المنظومة الشيوعية. ووضح أن غالبية البشر يظلون متدينين، بطريقةٍ أو بأخرى. بل، لقد كانت الكنيسة البولندية، ذراعًا، قويًا، داعمًا لحركة "تضامن"، التي فككت النظام الشيوعي، وأعادت الحريات والديمقراطية في بولندا. كما أن تيار لاهوت التحرر، في أمريكا اللاتينية مثل ذراعًا ساندةً للتحول الديمقراطي، بقي التدين، كما هو واضح من كل مسيرة التاريخ الإنساني، ظاهرةً مرتبطةً عضويًا بالتكوين النفساني للفرد البشري، وللجماعات البشرية، أينما وجدت. بل أثبت علم الاجتماع الدور التاريخي للدين في حياة المجتمعات. لكن، كما يرى هبرماس، فإن من اللازم على الوعي الديني، أن ينجح في اجتراح صيرورةٍ اندماجيةٍ في المجتمع الحديث. فعلى الرغم من أن الدين يمثل في الأصل، "تصورًا للعالم"، أو "فهمًا قائمًا على عقيدة"، يرى أن من حقه الوصول إلى السلطة، ليبني شكلاً من أشكال الحياة، في إطارٍ كليٍّ، فإن عليه الآن أن يعرف كيف يستغني عن هذا الحق. بمعنى؟ - بعبارةٍ أخرى، على المتدينين أن يستغنوا عن الحق في احتكار التأويل، والتنظيم الشامل للحياة، نزولا عند شروط علمانية العلم، وضرورة أن تكون سلطة الدولة سلطةً محايدة، تتيح المجال العام للحريات الشاملة، وألا تتصرف وكأنها تمثل الحق المطلق. ومن الناحية الأخرى، لا يحق للمواطن العلماني، طالما ارتضى أن يقدم نفسه كمواطن، أن ينكر إمكانية صحة التصورات الدينية المتعلقة بحقيقة العالم. ولا ينبغي من ثم، أن ينكر على المواطن المتدين حقه في التعبير عما يراه، بلغةٍ دينية، وحقه في طرح مواضيع للمناقشة العمومية، من منظورٍ ديني. أكثر من ذلك، ينبغي على الثقافة العلمانية الليبرالية أن تطالب المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة، إلى لغة عمومية، واضحةٍ بالنسبة للجميع. ماذا عن متغيرات الحداثة وقبول الدين لها؟ - لقد تنبه علماء الاجتماع مؤخرا وعلى رأسهم ماكس ڤيبر، منذ القرن التاسع عشر، إلى دور الدين العضوي في المتشكل الاجتماعي البشري. يقول عزمي بشارة، إن ماكس ڤيبر لم يخالف ماركس، في التأكيد على أهمية الاقتصاد، في التحكم بحياة الناس. غير أن دراسة ڤيبر للظروف الاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة في أوروبا، وأمريكا الشمالية، في الفترة ما بين القرن السادس عشر، والقرن الثامن عشر، جعلته يضيف، أن المصالح، التي يسعى الناس لتحقيقها في المجتمع، لا تنحصر في المصالح الاقتصادية، وحدها. فهناك مصالح أخرى تتعلق بالقوة، والسيطرة، والمنزلة. كما أن اعتناق دينٍ معيّنٍ، والانتماء إلى جماعةٍ معينةٍ، قد يعينان على فهم الناس وصوغهم لمصالحهم. يضاف إلى ذلك، أن المنظومة الدينية الثقافية لجماعةٍ معينة، قد يكون لها أثرٌ في أخلاقية الجماعة، بحيث يُسهِّل هذا الأمر،
أو يُصعِّب، التكيف مع منظومات اقتصادية بعينها. وبناءً عليه، يمكنني أن أضيف هنا، أن أخلاقية الجماعات السودانية، المستندة على القيم التكافلية، التراحمية، لجوهر الإسلام، وللتصوف، يجعل من الصعب عليها، أن تقبل، أو تستسيغ الرأسمالية المتوحشة، التي أتي بها اسلاميو السودان، وفرضوها على البلاد بالاستبداد، المستند على دعاوى دينية. فالدين، في بعض تجلياته، يمكن أن يمثل، وقد مثل بالفعل، في بعض منعطفات التاريخ، قوةً جماهيريةً رافضة للظلم، وساندة للعدل والمساواة. كما أنه يمثل أقوى آلية للتعبئة والحشد. وتأتي خطورته، أن طاقته هذه يمكن أن تستخدم للثورة ولتحقيق الحرية والعدالة، أو للعكس. فإذا لم يستخدم هذه الطاقة المستنيرون، سقطت في يد الجهلاء من القادة الشعبويين الاستبداديين. لربما أمكن القول، إن فكر حقبة الحداثة، ظل منحصرًا، بصورةٍ عامة، وإلى حدٍّ كبير، في منطقة "المنولوج". سواء عند الإسلاميين أو العلمانيين؟ - من ناحيةٍ، أدار النصوصيون الدينيون، منولوجًا طويلاً مع أنفسهم، أيأس الناس من الدين، ومن إمكانية تحقق الحرية، والعدالة، والمساواة الاجتماعية، والاستنارة، والاشباع النفسي والروحي، والجمالي، في إطار المنظومة الدينية. وهو ما فتح الطريق للفكر العلماني العقلاني لكي يسود، بل ولتتطرف بعض جدائله، فتصم الدين، في جملته، بالمرحلية. أما الفكر العلماني، الذي أمسك بالدفة، منذ عصر الأنوار، فإنه، أدار، كما فعل دعاة الدين، منولوجًا، جديدًا، مع نفسه، ولكن في الاتجاه المعاكس. قادت "ثورة العقل" الحداثية، إلى تشكيل صورة للوجود وللحياة ظن العلمانيون الأقحاح أنها صورة "تقدمية" (progressive) غير أن هذه الصورة، رغم إعلاء أهلها لها، وجدها القطاع الأعرض من الناس، من الناحية العلمية، متسمةً بالبؤس، والفقر المعنوي. فرغم دعاوى التحرر والتقدمية، التي جاءت بها، فإن الإطار العقلاني، الجاف، الذي صنعته الوضعية، لم يتعد في تعريفه للإنسان، من الناحية العملية الواقعية، أكثر من كونه كائنًا منتجًا ومستهلكًا. ويمكن القول، بصورة عمومية، إن المحاولة، اليوم، إنما تنحصر في الحفر والتنقيب في المنطقة الواقعة بين هذين النقيضين. أي؛ توظيف العاطفة الدينية لتحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة، وتوظيف العقل في الوقوف الصلب ضد الاستبداد والكهنوت والإرهاب الديني، وفرض الطهرانية المظهرية الكاذبة. ما من شك، أن هناك اتجاهًا متناميًا، لتسييل المفاهيم، ومنها مفهوم "ديني" و"علماني"، بعد فترةٍ جمودٍ، اكتنفت دلالاتهما، وحصرتهما في خانة التعارض المطلق، خاصةً، في الاستخدامات الفكرية والسياسية، في الواقع العربي المعاصر. فقد أخذت تنشأ، على النطاق الكوكبي، تياراتٌ جديدةٌ، تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة. وأخذت، هذه التيارات، تتناول إشكالية "العلمانية" و"الدين"، بعيدًا عن أطر الثنائيات القديمة، المتعارضة، التي طالما حبست كثيرًا من رؤى حقبة الحداثة، في قمقم الجمود. هل صحيح ان فكرة الايدلوجية السياسية سقطت؟ - أصلا لا توجد إيديولوجيا في الممارسة السياسية السودانية، اتباع إيديولوجيا بعينها يعني أنك تتبع منظومة تصورية، متماسكة، خطأ كانت أم صوابا. أما ما يجري في السودان فهو ارتجال يفضي إلى ارتجالٍ أسوأ من سابقه. لكن بالمعنى العام، انتهى عهد الايديولوجيات القابضة التي ترى أنها تملك رؤية متكاملة للتاريخ ولتطور المجتمعات، كما في الماركسية، أو الإيديولوجيا كقالب نصوصي تاريخي، مقدس، يمكن صب كل المجتمع فيه، كما لدى الإسلاميين. العالم يعيش عهد السياسات والخطط قصيرة الأجل، وحلحلة إشكالات بناء الدولة في السياق المحلي، بمنأى عن السرديات الكبيرة اللامة لكل شيء. أقصد؛ الانحصار في الحوكمة الرشيدة، بعيدًا عن الشعارات الطنانة وادعاء إعادة صياغ وعي الناس ومسلكهم، الذي تؤثر عليه؛ سلبا، أو إيجابا، الأحوال الاقتصادية والأداء السياسي. ماهي دواعي إقامة حوار يجمع أهل الدين والعلمانيين؟ - هي محاولة لتقريب شقة الخلاف بين التيارات الفكرية السودانية، والوصول إلى اتفاقات حد أدني حول صورة الدولة، ونشر امكانية التقارب الفكري بين النخب وفي أوساط الشعب ماصحة اتهام أن النخب السودانية فاقموا من أزمات البلاد؟ - هذا ليس اتهامًا وإنما هو حقيقة موضوعية، أن نظل عبر ستين عامًا غير قادرين على بناء دولتنا وعلى ارساء ثوابت لبناء الدولة يعني أن النخب لم تنضج فكريا ولا سياسيًا. فأزمة السودان هي أزمة نخبه في المقام الأول- هم لم يفاقموا الأزمة وحسب، وإنما صنعوها منذ مؤتمر الخريجين. النخب في الأحزاب التقليدية وفي ما تسمى القوى الحديثة، هي التي أدخلت البلاد في مستنقع الانقلابات العسكرية التي أضاعت خمسين عامًا من عمر استقلال السودان، ولم تفعل سوى تعميق الأزمات. شغلت الأنظمة العسكرية خمسين عاما من مجمل سنوات الاستقلال التي بلغت الآن واحدا وستين عاما. كيف تقرأ تجربة الإسلاميين في الحكم؟ - تجربة فاشلة- من جميع الوجوه. ميزتها الوحيدة أنها أحرقت، وإلى الأبد، عبر كلفة باهظة، شعارات الإسلام السياسي، مثال: "تحكيم شرع الله"، و"القرآن دستور الأمة"، و"لا ولاء لغير الله". لقد نهضت كثير من الدول الإسلامية وحققت انجازات باهرة بعيدة عن هذه الشعارات الغوغائية. ماهي مقومات الدولة الحقيقية من وجهة نظرك؟ - دستور ديمقراطي تعددي، وتداول سلمي للسلطة، وبسط للحريات العامة، وقضاء مستقل تمامًا عن السلطة التنفيذية، يحرس الدستور وحكم القانون، وآليات لضمان شفافية الممارسة، وللمراقبة والمحاسبة. يضاف إلى ذلك وجود خطط علمية للنهوض، ولبناء الدولة، متوافق عليها من جميع الأطراف. أفكار الدولة المدنية والعلمانيين صالحة للتطبيق في دولة ك(السودان)؟ - ظل السودان دولة علمانية طيلة فترة الحكم البريطاني (1898-1956). وظل دولة علمانية في فترة ما بعد الاستقلال، حتى تطبيق قوانين سبتمبر 1983. وهو الآن دولة علمانية، رغم كل الادعاءات. الجدل حول "دينية الدولة"، جدل فارغ من أي محتوى موضوعي. هو إرباك باسم الدين للجماهير، وللقوى المجتمعية الحية، بغرض استدامة الاستبداد السياسي. يمكن للقيم الانسانية الجوهرية، وهي قيم دينية في الأصل؛ كالحرية، والعدالة، والمساواة، والصدق، والأمانة،والتجرد من الغرض المنفعي الشخصي، أن تشكل الخلفية الساندة للتوجهات السياسية، والإدارية، من غير أن نلصق على الدولة بطاقة دينية شكلية لا تعني شيئا في الواقع الموضوعي. ماهي احتياجات المستقبل السياسي في السودان؟ - أولا الابتعاد عن الشعارات الدينية الكاذبة، واتخاذ خطوات عملية حقيقية نحو التحول الديمقراطي، وإبعاد القوى الأمنية من السيطرة على مجريات الشؤون السياسية في البلاد. فالقوى الأمنية، بطبيعة تكوينها، قوى حذرة وقابضة، واختصاصها هو ضمان أمن البلاد، لا إدارة العملية السياسية. نحن لم ندخل مرحلة الحوار المنتج بعد. نحتاج حوارًا يغير البنية الحكومية والأداء الحكومي، كما يغير وعي الشعب ومسلكه. فمشكلتنا ليست مشكلة حكومات وحسب، وأنما هي أيضا مشكلة منظومة قيمية تعمل على هدم الدولة وتعطيل حراك التحديث، وتعويق البناء المؤسسي. ماهي نقاط الضعف والقوة في كل من شخصية الاسلامي والعلماني؟ - ما لا ننتبه إليه أن الإسلاميين السودانيين علمانيين، وأن العلمانيين السودانيين إسلاميون. إسلامية الإسلاميين، بزعم أنهم "إسلاميون أقحاح"، مجرد ادعاء. يتحدثون عن "أسلمة المعرفة"، ويرسلون أبناءهم إلى أرقى الجامعات الغربية، كما لا ينسون أن يضعوا في جيوبهم وجيوب أفراد أسرهم، جوازات سفر أجنبية. تقطر أعينهم دمعًا وهم يتذكرون زهد عمر بن الخطاب، ويحشون، في ذات الوقت، حساباتهم في البنوك الأجنبية بملايين الدولارات. هذه أكاذيب سياسية، لا أكثر. وكذلك العلمانيين الذين يتحدثون عن ماركس ورأس المال، ، وديكتاتورية البروليتاريا، أوعن ليبرالية بلا ضافة، وهم يغشون المساجد صباح مساء، ويتمايلون مع الأذكار والمديح. تقسيم "علماني" و"إسلامي" في البيئات السودانية، تقسيم وهمي، وهو الذي كرس حالة الاستقطاب لعقود طويلة، وأقعد البلاد. اختلافنا ينصب أساسًا على كيفية بناء الدولة، وإدارتها بصورة فعالة وشفافة. حقيقة، نحن لا نحتاج لهذه المسميات الفارغة. علي ماذا توافق الاسلاميين والعلمانيين في مؤتمر نيروبي؟ - لقد قرأتم البيان ولا اضافة لي عليه. المهم أن المنتمين للمؤتمر الوطني، أو للشعبي، أو ل "سائحون"، أو للشيوعيين، أو البعثيين أو الناصريين، أو الجمهوريين، أو الأمة أو الاتحاديين، وغير هؤلاء، يمكن أن يجلسوا ويتفاوضوا على اتفاقات لبناء الدولة، وخلق ثوابت توقف "الغدر الإنقلابي"، والسيطرة من قبل جهة واحدة. نحن الآن نحاول التحرك نحو منصة جديدة للشراكة. فالدين لله، والوطن للجميع. وهذه مجرد ضربة بداية. وأتنمى أن تحدث مثل هذه الملتقيات داخل السودان ولا نضطر لعقدها خارج حدود البلاد. مرة أخرى، لن يكون هناك حوار منتج، والقبضة الأمنية بهذه الصورة القائمة التي نراها الآن. فهي قبضة غير مسبوقة وتوشك أن تصادر الفضاء العام، مصادرة كاملة هل من رسالة حول مستقبل الدولة؟ - هذه دولة تملك من الموارد الطبيعية، والموارد البشرية، ومن ثراء التاريخ وعمقه، ومن تنوع الثقافات، ما تحسده عليها شعوب الأرض قاطبة. ومع ذلك، فهي تحتل الآن، مع دول قليلة جدًا، ذيل القافلة البشرية. بالتخطيط وبالمؤسسية وبالقيادات النزيهة، الحازمة، المنضبطة، استطاعت دول ليست لها موارد تذكر، أن تبني اقتصادات بالغة القوة، وأن تبني دولا متماسكة، وأن تخلق شعوبًا تنعم بمقدار كبير من السعادة. في حين لا نزال نحن، الذين نملك موارد لا حصر لها، نستورد قوتنا الضروري. ويستمر ريفنا الذي خوى على عروشه يزحف على مدننا، لتتخلق من هذه الهجرات الملحمية، غير المسبوقة، "حالةمدينيةكابوسية"، جديدة، فقدت جمال الريف، وجمال المدينة، في آن معا. إشكاليتنا إشكالية قيادات، تفتقر إلى المعرفة، وإلى الشغف الأصيل بالبناء، وإلى الصدق مع الذات ومع الناس. كما هي أيضًا إشكالية سياسات مرتجلة، واستعاضة عن الفعل الحضاري الحقيقي بالشعارات وبالخطاب الديني الباهت، لغش الجماهير، ما أوقعنا في دوامة الاستسلام للعجز المزمن، وإنكار أن هناك أزمة طاحنة، أصلا. فنحن نمر الآن بمنعطف تاريخي بالغ الخطورة. نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية، سبق أن لخصها الأستاذ محمود محمد طه بعبارة: "إعادة تعليم المتعلمين وغير المتعلمين". الانهيارات التي تولت في فترة ما بعد الاستقلال، لم تصب البنى التحتية والبنى المؤسسية، وحدها، وإنما أصابت روح الانسان. وما نأمل فيه الآن أن نكون قد وصلنا إلى الاقتناع أن كل الرؤى القديمة والأساليب القديمة، لم تكن منتجة، وقد عفا عليها الزمن. هذه هي نقطة الانطلاق للتصورات الجديدة لبناء الدولة السودانية. ومن المهم جدا أن يتعلم الكبار إسناد الأمور إلى الشباب، فهم غد البلاد، وأملها في النهوض، وليست أجيالنا نحن المأزومة، التي تعهدت هذه الاخفاقات الدواية بالرعاية، لستين عاما ويزيد.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.