سيتبادر إلى أذهان البعض، أن العنوان أعلاه، منقول عن تعقيب لكاتب «لا يحضرني اسمه للأسف» على كتاب د. منصور خالد «النخبة السودانية وادمان الفشل» فأضاف على عنوان الكتاب في مقال له، «منصور خالد نموذجا»،أي أنه اعتبر منصور نموذجا للنخبة التي أدمنت الفشل شخصيا لا أعرف مثقفا سودانيا معاصرا او غابرا،أثرى المكتبة السودانية، كما فعل منصور خالد، بسلسلة كتب ومقالات متقنة السبك والسرد لغة ومحتوى، وقيمة ما كتبه منصور على مر أكثر من نصف قرن،أنه حرص على توثيق أحداث ووقائع مهمة في تاريخ بلادنا، كان فاعلا فيها أو شاهدا عليها،بأسلوب علمي منهجي، ومن حق قراء نتاج قلم منصور،أن يتفقوا أو يختلفوا معه حول صحة ودقة محتوى ذلك النتاج، وسلامة أو عدم سلامة استنتاجاته وهناك من اعتبر ما كتبه منصور عن تجربته كوزير وقائد سياسي لبعض الوقت في فترة حكم جعفر نميري، ضربا من الأبولوجيا «الاعتذاريات». ولكن حقيقة الأمر هي أنه لا يتنصل من أي دور لعبه خلال الحقبة النميرية/ المايوية، وربما يذكر البعض كيف أن هناك من وصفه بأنه من سدنة مايو، فكان رده بأنه لم يكن سادنا،بل من بناة المعبد المايوي، بينما بعض من وصفوه بالسدانة كانوا من حارقي البخور في ذلك المعبد، الذي تركه منصور بكامل إرادته،وقال في ذلك النظام، الذي كان من بُناتِه، مالم يجسر أحد من زملائه الذين شاركوا في البناء ثم آثروا الابتعاد عنه طوعا أو قسرا، في مقالات نارية في جريدة الأيام التي كانت تحت سطوة الاتحاد الاشتراكي «العظيم»،ولم يكن ما كتبه في تلك المقالات من ضرب الاعتذار الخائب الذي أتى به أبو الطيب المتنبي حين قالوا له :كيف ترفع كافور الإخشيدي إلى مصاف الملائكة، ثم تشتمه شتيمة الأراذل؟فكان رده: وما كان ذلك مدحا له/ ولكنه كأنه جور الورى «يعني كنت أشتم الدنيا التي جعلتني أقول عن شخص مثله ،أنه «بدرالدجى»» ليست غايتي الدفاع عن منصور خالد ومواقفه وخياراته السياسية والفكرية، فقد قرأت جميع كتبه، بل قرأت القديم منها أكثر من مرة،ولم أوافقه الرأي حول وقائع ومحطات كثيرة في تاريخ بلادنا تناولها بالعرض والتحليل، ولكن وكلما قرأت له،ازددت احتراما له وإعجابا بقلمه وفكره، لأنه جسور هصور وصاحب ذهن مرتب، ولغة سامقة سامية، فتأتي كتبه وكأنها بحوث ستخضع للتحكيم والتقويم، ومن ثم تجد كل معلومة ذات «قيمة» فيها موثقة بالشهود والتأريخ، والمراجع، ولهذا فإن حواشي كتبه«footnotes»،عناصر أساسية فيها. قيمة مؤلفات منصور خالد، تكمن في أنها توثيق دقيق وشامل للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي على مدى سنوات التحولات الكبرى في تاريخ السودان المعاصر، أي منذ منتصف ستينات القرن الماضي،مع ما يستوجبه ذلك من ربط الحاضر بالماضي، والاستئناس بالسوابق السياسية والقانونية، عبر تاريخ البشرية، وليس فقط تاريخ السودان منذ الفتح التركي،لإجراء مقارنات ومقاربات ثم التوصل إلى استنتاجات وفي كل هذا الصدد، فمنصور مغرد داخل وخارج السرب، ويُحمد له أنه السوداني الوحيد الذي شغل مناصب عليا،وخبر دهاليز الحكم منذ فجر الاستقلال، وعمل على تدوين وتوثيق»عمر» السودان كما نعرفه اليوم، بين ما من أمضوا في مناصب تنفيذية عليا، فترات أطول من تلك التي أمضاها منصور فيها، منهم من لم يفتح الله عليه بكلمة مكتوبة، عن تجربته في الحكم والسياسة،ومنهم من أدمن التنظير الفطير، ولم ولن يكلف نفسه عناء تدوين تجربته،لأنه يعول ونعلى أن حسناتهم ستمحو سيئاتهم،ولكن حتى تلك الحسنات لا يخبروننا بأمرها إلا في مقابلات مع وسائل الإعلام. منصور خالد رجل جدير بأن نحتفي بنتاجه الفكري، ليس بحفلات التكريم الركيكة التي لانحسن حتى تنظيمها ،بل بأن نقرأ له، ثمن نناقشه بنفس الأسلوب الراقي الذي يستخدمه هو في الشهادة على الآخرين أو لهم. الصحافة