دائماً ما كان هنالك , ثمة شيء بهاتاً ألمحه , مع كل نشرة اخبار عالمية اسمع فيها خبراً عن السودان , فكان عقلي يمطرني بأسئلة قوية لا اجد لها اجابة واضحة , بل كنت اتلمس خوفاً مكتوماً بين حروف ذلك الخبر , خوف رهيب , شعور مكبوت بالتمييز , قوة ما داخل هذا السوداني العنيد . حتى اثناء دراستي , عندما كنت اسمع جهابزة المتحدثين باركان النقاش , وهم يصبون غضبهم على فشل سياسة الحكومة وبرنامجها , كنت متأكد ان هنالك شيء غائباً ,حقيقة ماثلة للوجود , يراها الآخرون , ولا نراها نحن , او فالنقل نحاول ان نتجاهلها , فليست القضية قضية حكومة , من يحكم السودان وكيف ؟ إن كان ذلك الحاكم , عمر البشر , ياسر عرمان , الصادق المهدي , عبد الواحد نور , مناوي , جبريل ابراهيم , أو يشخص آخر سوداني آخر , مهما يكن أو يكون ؟ فالقضية اعمق من ذلك بكثير , وكل الحكومات السابقة والحالية والقادمة ,حاولت اصلاح هذا الوطن بطرق مخلتفة , اعزائي دعونا نتحدث وموضعية ,وببساطة بلا توتر , فكل حكومة اتت بانقلاب عسكري أو عن طريق صناديق الاقتراع , كان قصدها شريفاً في الواقع , ولها فكرتها التي تؤمن بها وطريقتها التي كانت – أو مازالت – تعتقد أنها الافضل للاصلاح حال الوطن , فهم حاولوا , ومازالوا يحاولون – وليس معنى كلامنا أننا نتلمق الحاكمين الآن أو غيرهم , فقناعتي الشخصية أن القضايا ستحل , وإن لم نستطع فالموت سيحل كل شيء , وعاجلاً أم آجلاً سيرحل قادة اليوم ويأتي غيرهم , ويظل السؤال في مكانه اين هي القضية ؟ وماهي المعضلة ؟. قبل عام خمسة اشهر بالتحديد , قابلت شخص من غينيا كوناكري , فسألني من دافع حب الاستطلاع , من أي البلاد اتيت ؟ فقلت بلا تردد : من السودان ؟ فقال لي بلا تردد , وبفخر عجيب , تمنيت حينها من كل قلبي , إن كانت معي كاميرا لتصوير نظراته وخلجاته وهو يقول لي بفخر شديد : أتعلم أن أمي سودانية ؟ حينها بدأت بالفعل انظر للاشياء من زاوية اخرى , وبعد ايام قابلت شاب من غانا , وتكرر ذات السناريو من جديد فقال لي ذلك الشاب : يُقال أن اصولنا من السودان !! ثم آخر , فكنت اسمع منهم عن السودان , كان منهم , مَن يعرف هويتي وكينونتي , وفيهم من لا يدري شيئاً عني , وتحت كل الاحوال , كان في داخلي شعور قوي بالتمييز , بالفخر , أنني قادم من بلاد , يدرك الانام في العالم اجميعن قوتها إلا أهلها . ثم تكرر نفس الموقف مع رجل ألماني قال لي : لا أستطيع أن افهمكم ؟ ثم من فرنسي آخر , تكرر ذات الحوار , مع رجل آخر ثم وآخر , من جنسيات عُدة , ولو بدأت اعدد هذا الامر , لن انتهي منه , لكن مع الايام ادركت حقيقة أننا فعلاً اقوياء , والاحداث الاخيرة , اعادت لي هذا الموقف , خصوصاً بعد حالة الرعب التي اعتلت هؤلاء السادة في شمالنا , تأكدت من هذه الحقيقة , أننا فعلاً أقوياء , ولا ندري سر قوتنا , التي تنبع من كوننا سودانيون بلا شك ! في الواقع عاد لي هذا الشعور من تلك الاخبار المبتهجه برفع الحظر عن السودان – وانا لست ضد هذا الموضوع , بل من دواعي سروري ان نعود البلد لوضعها الطبيعي , غير مصنفه تحت دائرة الارهاب أو محاصرة – لكن المؤسف في الامر أن بعض الاخبار تتحدث عن عقود لتبادل تحاري واستيراد من امريكا , وافواه اخرى تطالب بالافراج عن حاويات مُنعت من الدخول , بها شبس وحلوى ومأكولات , واشياء اخرى نستوردها , مثلما فعل الاشتراكيون من قبل وفشلوا , وجاء الديمقراطيون حاولوا استيراد الديمقراطية على طريقة الانجليزية , وآخرون بنكهة فرنسية , وايضاً فشلوا , حاول الاسلاميون استيراد ألوان اسلامية جديدة , وايضاً فشلوا , لأنهم هؤلاء الآخرين , لم ينتبهوا إلى حقيقة أن الاسلام عندنا ليس كاسلام الآخرين , بل يختلف من حيث المضمون والشكل والتطبيق , مثلما هي طبيعتنا كسودانيين تختلتف عن كل اللذين حولنا , لاننا لانصلح غير أن نكون سودانيون فقط بلا منازع , شئنا ذلك أم ابينا , وكل محاولات الانتماء للآخر أو استيراد هوية وانظمة فشلت فشلاً ذريعاً , ولم تستطع أن تصمت امام سودانيتنا . فالعالم يدرك اننا اقوياء بما فيه الكافية , وحقيقة نحن كذلك , ومن اجل ان يخدعونا , صوروا لنا منذ سنوات طويلة , ان التطور مرتبط بأمكانات مادية , وأن التكنولوجيا هي اساس التطور , بل أن العقول البيضاء هي التي تبدع وتخترع وتكتشف , وأنها هي الفذه , بل زرعوا فينا ايضاً , أن التجارة مربحة اكثر من الانتاج المحلي , الاستهلاك هو الاسرع للحضارة , فملأوا شقوق عقولنا يأسماء , ماركاتهم , ومنحوها لقب تجارية عالمية , واقنعوا سادتنا بان الاستثمار والبنوك تنموية هي الاساس في النهضة , وأن الاعتماد على قوة عقولنا وانفسنا لعبة انصرافية ومضيعة للوقت والجهد , فخرجنا من كل هذا , نهاية المطاف , بفكرة الضعف وعدم القدرة على التنفس إلا بواسطتهم , شيء مثل غسيل الدماغ , شيء شكك في قدرتنا على الابداع والتطوير , حتى اصبح آفاتهم تسيطر على عقولنا , وجعلتنا ننسى قوتنا , التي هي موجودة فينا من الاصل , وبالفطرة . فالقضية ليست قضية استثمار وآيدي عاملة اجنبية ,وأموال اجنبية , بقدر ما أنها قضية قناعتنا الذاتية في اننا اقوياء ونقدر على ان نفعل الاشياء , وننصنعها , ومن يشكك في كلامي هذا فاليذهب إلى اقرب منطقة صناعية , بأي مكان من هذا السودان العنيد , سيشاهد قوتنا بام عينه , وليست المعضلة الحقيقية , من يحكم السودان ؟ , ولا كيف يحكم السودان ؟ . بقدر ما أن المعضلة كيف نبني السودان ؟ كيف نكتشف قوتنا ؟ فنحن لا نحتاج لسلاح فتاك وقوي , أو تكنولوجيا , لانها عندنا من الاصل , وموجودة ,بحيث لا نحتاج لاستيرادها على الاطلاق , فالتاريخ يخبرنا , أننا لم نستعمر أحد من قبل – بخلاف تلك الفترة المروية القديمة – لكن الناس من حاولوا استعمارنا , وهم من أتوا لنا , وما من حملة قدمت الى السودان العنيد , إلا وكان هدفها الذهب والرجال , والذهب مازال موجوداً , والرجال ايضاً مازالوا موجودين , وحواء السودانية , تخرج كل يوم , علماء ورجال اقوياء , وابطال حقيقين. صدقوني اعزائي ,, هنالك عشرات الوسائل لعادة بناء قوتنا واستخراجها من سُباتها العميق , بل نحن قادرون على فعل المستحيل , ونحن قوة عظمى حقاً , لكننا لا ندرك ذلك , بل أزمتنا تنبع في أننا نصدق اكذوبة ( أننا ضُعفاء , لا قوة لنا ) , فنخلقنا لانفسنا الحجج والمبررات التي تكبح جماح قوتنا وتخيلنا أن الفساد , الحكومة , الصراع , الادراة السيئة , مصالح ,عدم الوطنية , ... الخ هي السبب , وكل هذا ليس صحيحاً , اتدرون لماذا ؟ لاننا ببساطة فقدنا الثقة في انفسنا . Email :[email protected]