أهداني الأخ الطاهر محمد أحمد "المراجع لقانوني"، و الذي كان يعمل سابقاً بمدينة الرياض - السعودية و يعمل حالياً بمملكة البحرين، قبل سنوات خلت، كتاباً باللغة الإنجليزية، جد شيّق، بعنوان "صحراء تموت". و قد وثَّق كاتبه، مايكل أشر، البريطاني الجنسية، و الذي كان يعمل معلماً للغة الإنجليزية بمدرسة الفاشر الثانوية في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وثق، من خلال مؤلفه هذا، لرحلة تنقل فيها مع الكبابيش في ترحالهم. كما سلط الضوء على التحولات البيئية و الإجتماعية و الديموغرافية التي حدثت بمنطقة الكبابيش جراء الجفاف الشهير الذي ضرب كردفان عموماً و تلك المنطقة على وجه الخصوص في العام 1984م. و حسبما تضمنه الكتاب فقد إمتدت تلك الرحلة لسنوات طوال، رافقهم فيها الكاتب في ترحالهم بين كردفان و دار فور، طلباً للكلأ و الماء لإبلهم. و قد إستمتعت أيما إستمتاع بقراءة هذا الكتاب و الذي تجولت عبر صفحاته في منطقة الكبابيش و مضارب بواديهم و كذا كل الفيافي التي كانوا يجوبونها، فضلاً عن تعرفي على جانب من حياتهم الإجتماعية. كما تضاعفت متعتي بالطرائف العديدة التي وردت في الكتاب علاوةً على المواقف المضحكة ذات الصلة بمحاولة "الخواجة" أشر التفاعل مع بيئة و مجتمع و ثقافة مختلفة كل الإختلاف عن تلك التي شكلت شخصيته. و رغبةً مني في إلقاء الضوء على بعض الجوانب التي تناولها هذا الكتاب، و التي تمثل جزءاً يسيراً مما ورد فيه، كونه يحتوي على أكثر من ثلاثمائة صفحة من الورق المتوسط، رغبةً مني في ذلك فقد أردت أن اصطحب معي القاريء الكريم في السياحة ذات العلاقة بالرحلة. و قد رأيت أن من الأنسب أن يكون تناولي للكتاب من خلال إضاءات على بعض الجوانب لترجمة ما أورده الكاتب في كتابه فضلاً عن قيامي بالتعليق على ذلك و كذا التحليل. تعود خلفية الكتاب المشار إليه، حسبما تضمنه، إلى أن مايكل أشر قد عقد العزم على تقديم إستقالته من التعليم و التنقل مع الكبابيش بغرض إرتياد فضاءات حياتية أخرى، غير تلك التي كان يعيش فيها، ثم الكتابة عن هذه القبيلة. كان ذلك خلال العطلة الصيفية للمدارس و التي قضاها ببريطانيا، حيث راودته خلالها تلك الفكرة و راقت له ثم دفعته إلى ترجمة نيته إلى فعل، فقرر المضي قدماً فيه حال عودته من الإجازة. و مما حفزه على تلك الرحلة تمكنه النسبي من التحدث باللغة العربية و فهم ما يقصده المتحدث بها. قام مايكل، عقب رجوعه من بريطانيا، بزيارة صديق له يُدعى محي الدين أبو صفيطة، كان يعمل تاجر إبل بالفاشر، و طلب إليه أن يقدمه لناظر الكبابيش للسماح له بالتنقل معهم. و قد لجأ إلى هذا التاجر لمساعدته، بحكم تعامله مع الكبابيش و توطد علاقته بهم. و بالفعل رافقه أبو صفيطة لمقابلة الناظر لهذا الغرض، حيث قابلاه فرحب بهما و أكرم وفادتهما ثم إستجاب لطلب مايكل، بعد أن أبلغه بأنه ليس أول "خواجة" يقدم على هذه الخطوة، بل سبقه لها آخرون تنقلوا مع عربهم و كتبوا عنهم. قبل القيام برحلته شرع مايكل في الإستعداد لها فإشترى بعض اللوازم التي أبلغه عرب الكبابيش بضرورة شرائها و منها جمل يسمى "ود العتيقة" و بندقية قديمة و كذا جلابية و عراقي و سروال طويل و مركوب و عمامة. كانت تلك الرحلة، في نظري، تمثل الحد الفاصل بين العالم الحضري الذي نشأ و ترعرع فيه ذلك البريطاني و بين عالم البداوة الذي يعد غريباً كل الغرابة عليه. و يمكن للمرء أن يتخيل عمق النقلة التي حدثت لمايكل من خلال تفكره في البون الحضاري الذي يفصل بين الحياة التي عاشها مايكل ببلده و بين الحياة الحضرية في السودان، دعك عن حياة البداوة التي تمثل بالنسبة له عالم جد مختلف عن عالمه و ذلك على العديد من الصعد. و بالفعل عبّر مايكل عن هذا الأمر في مؤلفه آنف الذكر، ذاكراً أنه أحس، في مستهل رحلته تلك، بإحساس غريب ظل ينتابه من آنٍ لآخر. كان يشعر، وفقاً لقوله، بغرابة الناس من حوله و غرابة المكان و كذا غرابة كل شيء بل و غرابة نفسه، و هو يرتدي العراقي و السروال الطويل. بعد شروعه في الترحال مع الكبابيش و إنغماسه في تفاصيل الحياة اليومية بتلكم الأصقاع النائية، بدأ أشر يشعر، بمرور الأيام، بالفارق الكبير بين المجتمع الغربي و المجتمع الجديد، لا سيما و أن النقلة التي حدثت له تعد، بكل المقاييس و على كل الأصعدة و المستويات، هائلة. حاول، و هو يغالب الإحساس بالسأم الناشيء عن الروتين الحياتي الممل بالبادية، التأقلم على الحياة هناك غير أن المعاناة النفسية قد إستبدت به. ظل، من وقت لآخر، يشعر بأن الحياة البدوية ذات الإيقاع الرتيب والتي تفتقر لوسائل الترفيه، يصعب ترويض النفس عليها، لكنه، و كما أشار لذلك، كان مضطراً، للتكيف على تلك البيئة حتى يتمكن من بلوغ مرامه. و ذكر أنه كان يجد في "الزمارات"، التي يعزف عليها الشباب هناك، في بعض الأوقات، سلوى لما كان يفتقده من ترفيه، غير أن وفاة الناظر حالت بينه و بين ذلك لمدة عام كامل، و ذلك بسبب الحداد الذي خيم على البادية. غير أن من المفارقات العجيبة أن أشر، و بعد فترة قصيرة من تنقله مع الكبابيش، بدأ يتذوق طعم الحياة بتلك البادية، حيث ظهر له وجهها الجميل من خلال التعامل الإنساني الراقي الذي طوقه به العرب هناك فضلاً عن عبقرية المكان التي بدت له كأروع ما يكون. و قد ذكر في مؤلفه ذاك أن الصحراء، ووفقاً لإستكشافه لأسرارها، لها أعماقها الجمالية الخاصة و ألقها الأخاذ و سحرها الجاذب، رغم ما يبدو عليها، ظاهراً، من جفاف و قسوة. و تبعاً لذلك فقد تفاعل، بمرور الزمن، مع تلك البيئة و أحبها و تغلغل بروحه في مفرداتها البسيطة العميقة. ذكر أشر أن الناس هناك كانوا، أول عهده بهم، يرشقونه، بنظرات متسائلة قبل معرفة حقيقته. و بالطبع فإن هذا أمر طبيعي منشأه أن من الغرابة بمكان أن يشاهد هؤلاء الأعراب "خواجة" في وسط الصحراء يتنقل معهم، بحكم أنه لا ينتمي لهذا العالم، بل و لا أحد منهم يتوقع أن تستهويه حياة البداوة القاسية أو يكون قادراً على تحملها، كما لا أحد يصدق أنهم كبدو يمثلون لهذا الخواجة أمراً مهماً يعول عليه في مقبل حياته. و من الحكايات الطريفة التي سردها أشر في كتابه ذاك أن أحد الكبابيش سأله، ذات يوم، عن صحة ما سمعه عنهم، أي "الخواجات"، من أن الواحد منهم يعيش مع المرأة دون أن يتزوج منها، فأجاب أشر بأن الشخص في مجتمعهم يمكن أن يعيش مع المرأة بدون زواج و يمكن أن يتزوجها، و هو أمر، حسب قوله، خاضع للإتفاق بين الرجل و المرأة. و أردف أشر بقوله أن الدهشة قد إستبدت بالسائل جراء الإقامة مع المرأة دون زواج فقال "حسبنا الله و نعم الوكيل". و من الطرائف التي ذكرها أيضاً أن الكبابيش عندما لاحظوا إنكبابه على الكتابة، حينما كان عاكفاً على تدوين مادة كتابه المستقاة من تفاصيل حياتهم اليومية، سألوه بقولهم له: لماذا لا تصبح "فكي" طالما أنك تهوى الكتابة إلى هذا الحد؟. و من عجبٍ أنه ذكر أن الفكي يقوم بممارسات ليس لها أساس إسلامي يُعول عليه، بمعنى أنها "بدع"!!. أما كيف أدرك هذه الحقيقة فهذا ما يثير الإستغراب. و أشار كذلك إلى أنه كان، ذات مرة، جالساً لوحده في الخيمة التي خصصها الناظر له، فإذا برجل يلبس ثياباً مرقعة يدخل عليه و يحييه من على البعد و يجلس على "فروة" ثم يخرج مسبحة جد طويلة من حقيبة صغيرة و يشرع في التسبيح. دفعه الفضول لمعرفة سر هذا الرجل، لا سيما و أن هيئته الغريبة مثيرة للتساؤل. سأله عن هويته فذكر له الرجل أنه "فكي" من قبيلة الجوامعة، خارج في سبيل الله. كانت هذه الإجابة كافية لمحاولة أشر الإسترسال في الحديث معه، عله يظفر منه بمادة يضيفها لكتابه. لذا فقد أردف مستفسراً إياه عما يعني ب"خارج في سبيل الله"، إلا أن ذلك الشخص إستمر في تسبيحه غير آبه بسؤال أشر، و ذلك في مسلك يعبر عن صدود الرجل عن أشر، و رغبته في مواصلة تسبيحه. و هذا يعني أن الرجل لا يرغب في حديث غير مثمر مع شخص لا تجمع بينه و بينه أرضية مشتركة. أما فيما يتصل بالمواقف الحرجة التي تعرض لها أشر فمنها أنه عندما بارح، ذات مرة، "دكة" العرب الذين كان في معيتهم، أي المكان الذي كانوا يقيمون فيه بخيامهم لفترة مؤقتة، متجهاً صوب "دكة" الناظر، الكائنة بعيداً عن ذاك المكان، فقد تعرض لمخاطر جمة. و يتمثل ذلك الموقف في أنه كان يمر، وقتها، بمنطقة الزيادية راكباً جمله "الموسوم" ب "وسم" أي علامة الكبابيش، في وقت كان فيه القتال يدور بين الكبابيش و الزيادية، و يتربص بعضهم ببعض. و لولا لطف الله ثم الحماية التي وجدها أشر من صديق له من قبيلة الزيادية، يدعى عبد الرحمن أمبدة، يعمل شرطياً، لحدث له ما لا تحمد عقباه. و قد تعرض لموقف حرج آخر في رحلته تلك، عندما كان يتأهب للمبيت بجوار قرية، حيث أوقد ناراً و شرع في إعداد شاي، بعد أن "قيّد" جمله، غير أن جمله إختفى. حاول، إثر ذلك، تتبع أثره، تحت ضوء القمر، و لكن دون جدوى. ذهب، عقب ذلك، إلى أحد المنازل طالباً مساعدته في العثور على جمله، لكنه فوجىء بصراخ فتاتين كانتا خارج المنزل الذي توجه إليه، حيث جن جنونهما عندما رأتاه يمشي ليلاً و صاحتا "الجان ... الجان". حاول جاهداً إقناعهما بأنه إنسان، لكنهما لم تأبها به و فرتا منه. ذهب لمنزل آخر و وجد رجلاً كبير السن من قبيلة ميما، فرحب به و حكي له أشر حكاية جمله فهب لمساعدته. و بالفعل تحرك معه الرجل و تتبع أثر الجمل فوجده و أعاده لمكانه. و من أحرج المواقف التي تعرض لها أشر أكثر من مرة المعارك التي كانت تدور، أحياناً، بين الكبابيش و لصوص الإبل و التي كان يُستخدم فيها السلاح الناري. و قد أشار إلى أنه لا يستطيع إستخدام السلاح كما ينبغي، ما جعله يواجه مآزق لا قبل له بها. و من المواقف الحرجة الأخرى التي حدثت لأشر أيضاً أنه سافر مع الكبابيش براً إلى مصر عندما توجهوا لها من أجل بيع إبلهم، فقبضت عليه السلطات المصرية و وجهت له تهمة التجسس، حيث حبس بسجن أبي سمبل ثم أسوان، على ذمة التحقيق، و من هناك تم ترحيله للقاهرة، حيث تم تسليمه للسفارة البريطانية بعد تبرئة ساحته. سافر، عقب ذلك، من مصر إلى بريطانيا، لكنه تعاقد بعد فترة قصيرة من عودته مع وزارة المعارف السعودية بمهنة مدرس لغة إنجليزية. لم تدم إقامته بالسعودية طويلاً حيث ترك المهنة و سافر إلى كينيا في سياحة ثم غادرها عائداً إلى السودان حيث إلتأم شمله بالكبابيش، مرةً أخرى، و واصل إعداد مؤلفه المشار إليه حتى أكمله. و قد أشار في كتابه ذاك إلى أن الكبابيش يمتازون بالكرم و الشهامة و قوة التحمل. كما ذكر أن صحراء الكبابيش التي كانت صالحة للعيش فيها ضربها الجفاف نتيجة للعوامل الطبيعية التي ضاعف منها إهمال المسؤولين و لا مبالاتهم و إدارة ظهورهم للتحولات البيئية السالبة التي حدثت بتلك المنطقة. [email protected]