من جهة أخرى فقد قرأت كتاباً آخر لأشر بعنوان "البحث عن طريق الأربعين" ذكر فيه أنه، و بعد رحلته مع الكبابيش، عزم على القيام برحلة في وسط كردفان، ليكتب عن عادات الناس هناك و تقاليدهم و مجمل نشاطهم الحياتي. و قد إستمتعت أيضاً متعة بالغة بقراءته، لا سيما و أن جزاءا من مسرح أحداثه يمثل المنطقة التي أنتمى إليها. ذكر أشر، في ذلك المؤلف، أنه إستقل عربة "لوري" من أم درمان متجهاً صوب منطقة كردفان قبيل المغرب، حيث إنتوى أن يشتري، بعد وصوله كردفان، جملاً من مدينة أو قرية معينة ليستقله في رحلته تلك. ولجت العربة، حسب سرده، بعد مسافة قصيرة، منطقة خلوية و إستمرت في سيرها طوال الليل. و قد أدرك أشر في تلك الرحلة، كما أشار إلى ذلك، أن الأهالي الذين يستقلون هذه العربات في السفر يعانون أيما معاناة في مثل هذه الرحلات. بعد مواصلتها السير طوال الليل، توقفت العربة في الصباح الباكر بأم روابة و توجه الركاب نحو إمرأة كانت تبيع الشاي و القهوة "ست شاي" حيث ذهب هو أيضاً و طلب شاي، مثله مثل بقية الركاب. جلس الركاب يتجاذبون أطراف الحديث ريثما يعلمهم السائق بالعودة إلى أماكنهم بالعربة تمهيدا لإستئناف الرحلة. و بينا كانوا حيث هم، حضر مساعد "اللوري" و أبلغهم بأن ثمة عطل باللوري يحتاج لإصلاح و أن عملية الإصلاح جارية. تفاجأوا بالخبر، ثم تواترت الأنباء عن الوقت الذي سيستغرقه الإصلاح، و كذا سرت شائعات بأن الإصلاح ربما يستغرق يوماً كاملاً. و عندما سمع أشر بهذه الأنباء، كما ذكر في كتابه، إستفسر عن السوق الذي يمكن أن يشتري منه جملاً. و في الحال أشار إليه أحدهم إلى السوق فذهب إليه و أشترى جملاً. واصل أشر رحلته بالجمل من أم روابة حيث غادرها قبيل المغرب، بعد أن ساعده الشخص الذي إشترى منه الجمل، و يدعي أحمد علي، من قبيلة الجوامعة، و الشخص الآخر الذي قام بال"المكاتبة" لبيع الجمل، و يدعى جاد الله، من قبيلة البزعة، ساعداه على "معادلة" شنطته بقربة ماء أحضراها له (معادلتهما على ظهر الجمل). حذّر الشخصان المذكوران أشر، قبل مبارحته أم روابة، من حمر و الكبابيش فذكرا له أنه، و ما لم يكن يقظاُ، سيطلق عليه واحد من أفراد هاتين القبيلتين النار و يستولى على جمله. غير أن أشر، و كما أشار في مؤلفه، لم يكترث لتلك التحذيرات معتبراً إياها من قصص الماضي أو الأساطير التي عفا عليها الزمن. مر أشر في رحلته تلك، بالأبيض التي وصلها بعد أربعة أيام، ففر منه جمله غرب الأبيض فطارده محاولاً اللحاق به و لكن دون جدوى. و بعد أن كلّ و أصابه شيء من النصب جراء العدو وراء الجمل، قام شابان كانا يستقلان جملاً، و يتواجدان على مقربة منه بالإمساك بجمله. شكرهما على حسن صنيعهما و سألاه عن وجهته فأجاب بأنه مسافر إلى النهود و منها سيواصل رحلته غرباً. ذكرا له، حينها، أن أسميهما عثمان و علي و أن النهود هي وجهتهما أيضاً، و يمكن له مرافقتهما. كرر شكره لهما و أبدى إستعداداً للسفر و إياهما، ثم سألهما عن قبيلتهما فقالا له أنهما من قبيلة حمر، فأستوقفه هذا الإسم، و قال في نفسه أنه غدا وجهاً لوجه مع الناس الذين تم تحذيره منهم، لكنه قرر عدم التراجع عما قاله لهما، و عزم على مرافقتهما. وصل أشر و الشابان إلى قرية في ريفي الأبيض، بعيداً عن الشارع الرئيسي، عند المغرب، فحلوا ضيوفاً على شيخ الحلة المدعو جمعة صالح. و قد ذكر أن أهالي الحلة توافدوا على بيت الشيخ للترحيب بهم، و كان بعضهم يرشقونه، من آن لآخر، بنظرات متساءلة، تحدث عن إستفسارهم عن هويته و وجهته و هدفه من رحلته. سأله الشيخ، كما ذكر، عما إذا كان الإنجليز سيأتون إلى السودان مرة أخرى أم لا، مشيراً، أي شيخ الحلة، إلى أن فترة حكمهم كانت أفضل فترة حكم. كما ذكر أشر أنه، و حينما غرز أصابعه في العصيدة لتناول طعام العشاء بمنزل الشيخ، كادت أصابعه أن تحترق، في حين أن بقية الناس، كانوا يأكلونها بصورة عادية دون أن يبدو عليهم الشعور بحرارتها. مروا في رحلتهم تلك بالخوي و مركب و الرويانة، حيث ودعه الشابان اللذان عرجا على قريتهما الكائنة بالقرب من النهود، كما ذكر، و واصل هو سيره نحو النهود. و قد ذكر أن فراقهما له كان مبعث كدر بالنسبة له، نظراً للمعاملة الكريمة التي وجدها منهما و المساعدة التي قاما بتقديمها له، و التي، كما قال، ضحدت كل ما قاله الرجلان بأم روابة عن حمر. لاقى أشر في رحلته تلك ما لاقى من ألوان المعاناة و صنوف المشقة، و منها أنه عندما كان يهم بالمبيت في الخلاء، بعد سفره بالجمل لساعات طوال،عقب مغادرته أم روابة، سقط من على ظهر الجمل على شوك هشاب "شقل" و شوك حسكنيت مما جعله يعاني أيما معاناة من شدة الألم. قضى وقتاً طويلاً محاولاً (الفكاك) من الشوك، و ذكر أن تلك الليلة تعد أتعس ليلة قضاها بالسودان. كذلك فإن من المواقف الحرجة التي تعرض لها أشر أن شرطياً قابله ناحية قرية الرويانة و سأله عما إذا كان لديه تصريح سفر أم لا، و عندما أجاب بلا، تحدث معه الشرطي بلهجة صارمة بأن عليه مقابلة السلطات بالنهود للنظر في أمره، مردفا ما قاله بسؤال موجه لأشر: هل تسمحون في بلدكم لأجنبي أن يتنقل بدون تصريح زيارة؟. ثم قال له أنه سيتابع أخباره ليعرف ما إذا كان قد قابل الجهات المختصة أم لا. و ذكر أشر أنه، و رغم أن تلك المعاملة من قبل الشرطي كانت أسوأ معاملة يجدها بالسودان، إلا أنه إقتنع بأن ذلك الشرطي على حق و هو الوحيد الذي يقوم بواجباته الوظيفية خير قيام. ذهب أشر بقوله، كذلك، أنه قابل الجهات المختصة بالنهود، صباح اليوم التالي، تنفيذا لأوامر ذلك الشرطي، فمنحه المسؤول المختص خطاباً لشيوخ القرى لمساعدته في التنقل، و كان ذلك بمثابة تصريح تنقل. كما ذكر أن المسؤولين الحكوميين بالنهود عبروا له عن أسفهم لتخلف المنطقة و بساطة الحياة بها، إلا أنه، و حسبما ذكر في كتابه ذاك، إختلف معهم في وجهة نظرهم تلك، ذاكراً لهم أن هذه المنطقة وأهلها متحضرون، إستناداً إلى المنظور المعنوي للحضارة، من تعامل إنساني راق و غيره. و قد ذكر أن أهل المنطقة المعنية التي عبرها بجمله يعتبرون أكثر تحضراً من العديد من الأوروبيين، تأسيساً على الشق المعنوي للحضارة، حيث يمتازون بالكرم و الشهامة و الإيثار و غيرها من الشيم التي تفتقر إليها المجتمعات الغربية. و ذهب بقوله أن الشق المعنوي للحضارة، و الذي يبرز إنسانية الإنسان من عدمها هو الذي يجب أن يُعول عليه كمعيار للتحضر و ليس الشق المادي و الذي تشبع منه و أدرك أبعاده. كما أشار إلى أن الكرم بكردفان يكاد أن يكون حقاً، يحق للضيف مطالبة المضيف به. و هكذا فقد وثق أشر لرحلتيه آنفتي الذكر في ظروف محفوفة بالمخاطر و المجازفات حيث ركب الأهوال، و بالذات خلال رحلته مع الكبابيش الذين مكث معهم حوالى الخمس سنوات قطع فيها، حسبما ذكر، سبعة آلاف ميل، و جاب الصحاري و السهول و الوهاد و النجود بين كلٍ من دار فور و كردفان. و قد إلتقى أشر خلال رحلتيه أنماطاً مختلفة و أعداداً كبيرة من البشر، و كتب عن عادات و تقاليد الناس بتلك الأصقاع، كما تمكن من التفاعل مع البيئة الصعبة و التعايش مع الظروف الإستثنائية بالسودان و كذلك أشبع الجانب الإنساني فيه، حيث وجد في مجتمعنا المعاني الإنسانية القيمة التي تفتقدها المجتمعات الغربية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.