و بجانب هذا فإن لتكنولوجيا العصر فوائد جمة إنعكست على سائر النشاط الإنساني وجميع مجالات الحياة و منها مجال "الإدارة" و الذي إرتقى بصورة كبيرة بفضل هذه التقنية مما أدى إلى "التطوير" و "التحديث" في شتى مناحيها فأفرز "الحكومة الإلكترونية" في مجال الإدارة العامة و "التجارة الإلكترونية" في مجال إدارة الأعمال و غيرها. و أيضاً تم الإستفادة من التقنية الحديثة في مجالات الطب و الهندسة و الزراعة و الإعلام و المجالات العسكرية و خلافها. و من مظاهر هذه التقنية أيضاً ثورة الصناعات المتباينة كالصناعات الغذائية و الدوائية و مواد البناء و غيرها من صناعات كثر تستهدف، جميعاً، إشباع حاجات الإنسان و الإرتقاء بحياته. و مجمل القول أن الثورة العلمية و التقنية التي صنعها الغرب و التي يصعب حصر مفرداتها العديدة قد ألقت بصخرة كبيرة في بركة الحياة الإنسانية التي كانت، سابقاً، ذات طابع بدائي. و بذا فقد نقلت هذه الثورة البشرية نقلة ضخمة في مشوارها الحضاري و ذلك لدرجة أربكت العالم و خلقت هوة حضارية سحيقة جداً بين دوله، حيث غدت الدول الغربية و غيرها من دول قطعت ذات المشوار الحضاري للغرب مثل اليابان و الصين و الهند و غيرها تتسنم ذروة الحضارة المادية في حين أن مجموعة كبيرة من الدول كدول العالم الثالث لا زالت تغوص في وحل التخلف واسع النطاق و تعيش على فتات التقنية المستوردة، ما جعلها تقبع خارج إطار العصر. الجدير بالذكر أن هذه الطفرة الحضارية المبهرة و التي تمثل علامة فارقة بين الماضي و الحاضر جعلت الغربيين ينظرون، بحكم ريادتهم للعالم في مضمار الحضارة المادية، إلى أنفسهم بأنهم أسمى من غيرهم، أي أكثر عبقرية، جينياً، من بقية الجماعات الإنسانية، كما دفعتهم إلى تصنيف الدول إلى عالم أول و ثاني و ثالث، في حين أن العديد من العلماء بعالمنا أبدعوا و تفوق بعضهم عليهم عندما أقاموا بالبلدان الغربية و تهيأت لهم الظروف الملائمة. من جانبٍ آخر فإن الحضارة الغربية، و رغم إشباعها للجانب المادي عبر تحقيقها للطفرة المادية الجامحة التي غزت العالم بأسره و هيمنت على كل نواحي الحياة فيه بصورة طاغية، قد خلقت واقعاً شائهاً من خلال تركيزها على "الماديات" و إهمالها الكامل للجانب "الروحي" الذي يمثل شقاً مهماً و ضرورياً بالنسبة للإنسان. ذلك أن الإنسان يتكون من جسد و روح و أن ثمة ضرورة لإشباع حاجات الإثنين معاً و ذلك بصورة متوازنة تلافياً لأي خلل في تكوينه النفسي أو الوجداني. و بطبيعة الحال فإن الشق الروحي في الإنسان يتغذى بالمعتقدات الدينية و خاصة العقيدة الإسلامية، و ذلك نظراً لأنها تزرع الطمأنينة و الأمن و السلام الداخلي في الإنسان كما تمثل بلسماً شافياً له من أدواء العصر. و بغير هذه العقيدة يدخل الإنسان في غربة روحية و متاهة نفسية تقذف به بعيداً عن الحياة السويّة الخالية من العقد و التوترات. و إذا طاف المرء بنظره بصورة فاحصة متأملاً في حال العالم الغربي و ممعناً النظر في الحضارة الغربية يتجلى له، من خلال واقعها، أنها نحت منحىً "مادياً" واسعاً و طاغياً غلّبت من خلاله الشق "المادي" على الشق "الروحي" و ظلت سادرة في هذا الإتجاه بل و صدّرته إلى كل دول العالم الأخرى و التي أصبحت، هي الأخرى، تحاكيها فيه. و من البديهي أن الإهتمام بالجانب المادي بكل أبعاده ذات الصلة بتطور حياة الإنسان و سعادته و رفاهيته يعد أمراً حيوياً غير أن حصر كل الجهد البشري فيه على حساب الشق المعنوي يقود إلى خلل يتجلي من خلال شقاء الإنسان و تيهه، مهما بلغ من أسباب التطور. و قد تولدت عن المنحى "المادي" المذكور حالة من التيه و الضياع تمثلت في العديد من السلوكيات الشاذة في الغرب و التي تجسد الإنحطاط الخلقي للإنسان في أبشع صوره و تدلل على بهيميته المختزنة في تلافيف إنسانيته. و من هذه السلوكيات التفسخ الأخلاقي بشتى صوره و إدمان المخدرات و إرتفاع نسبة الجريمة و النسب العالية للإنتحار و إنتشار العصابات مثل المافيا و خلافها، علاوةً على العديد من أنماط الشذوذ و الإنحراف التي سادت العالم الغربي و ذلك على نحوٍ أكّد على تجذر الجوانب السلبية في النفس البشرية التائهة. أما عن التفكك الأسرى فحدث و لا حرج. يقول الفرنسي روجية، أو رجاء جارودي الذي تنقل بين الشيوعية و الوجودية و المسيحية ثم هداه الله للإسلام ثم إرتدّ، مع الأسف الشديد، يقول أن الحضارة الغربية عبارة عن مظهر باهر بلا جوهر و ذلك تعبيراً عن غرقها في "الماديات" و تجاهلها التام ل"الروحانيات" مما أفرز مجتمعات ظاهرها السعادة و باطنها التعاسة و الشقاء، حيث الضلال و القلق و التوتر الدائم و الأمراض النفسية المتباينة. و قد تنقل جارودي، حسبما ذكر، بين كل هذه المعتقدات و الأديان بعد دراسة و بحث و تنقيب متعمق عن الحقيقة، و كان قطباً في العديد منها نظراً لأن إعتقاده فيها، وفقا له، كان نتيجة دراسة و بحث عميقين أهلّه لهذا. و على ضوء ما تم سوقه آنفاً يمكننا التأكيد على أن "الثورة الصناعية" و الجهود العلمية الجبارة التي بذلها العلماء الغربيون الذين إنكبوا على العلوم التجريبية يبحثون و ينقبون و يعملون عقولهم قد قادت إلى أن البشرية قطعت أشواطاً غير مسبوقة في مضمار التطور المادي الذي نقلها نقلة حضارية هائلة في شتى مجالات الحياة، إلا أنه، و من جانب آخر، فإن تغليب الغرب الجانب "المادي" على الجانب "الروحي" بصورة مطلقة أحدث و ما زال يحدث خللاً كبيراً تتمثل صوره في حالة التيه الروحي التي ظل يعاني منها الغربيون في عصرنا الحديث. لذا فإن ثمة ضرورة لقيام علماء الغرب و مفكريه ببث الجانب "الروحي" في جسد حضارتهم عبر إيلائه الإهتمام اللازم من خلال القيام بما يلزم من أجل إشباع هذا الجانب حتى يحدث التوازن المطلوب في النفس البشرية و في المجتمعات هناك. كما أن الفرصة مؤاتية لعلماء الدين الإسلامي و الدعاة لولوج العالم الغربي للدعوة للدين الإسلامي بإعتباره حضارة بديلة تؤمّن على المنجزات الحضارية المادية التي صنعها الغرب و تؤكد على دعوة ديننا الحنيف للسعي للتطوير و التحديث في حياة الشعوب بالصورة التي تسعى إلى إسعاد الإنسان و رفاهيته، كما تعمل، أي الحضارة الإسلامية، في ذات الوقت، على إشباع الجانب "الروحي" في الإنسان بغية خلق التوازن المطلوب في النفس البشرية و المجتمع الإنساني و كذا إنتشال الإنسان من مستنقع الضياع الذي يغوص فيه. [email protected]