تمثال الجندي العائد .. رمزية تتجاوز السياسة    شاهد بالصورة.. "وزيرة القراية" وحسناء الإعلام السوداني تبهر متابعيها بإطلالة أنيقة تعبر فيها عن حيرتها بسبب (العدس والسخينة)    شاهد بالفيديو.. في لقطة تصدرت "الترند" على مواقع التواصل السودانية.. محترف الهلال جان كلود يستعرض مهاراته ويهين لاعب المولودية ويتلاعب به ويسقطه على الأرض    شاهد بالفيديو.. "مُقلد" الفنانة إنصاف مدني يدشن ظهوره الأول بحفل داخل "كافيه" بالقاهرة    أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: هل حقاً هذا مستوى دونالد ترمب؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني في حفل خاص وأموال النقطة تغمرها وتغطي أرض المسرح    ((هزمنا المولوديه والدور على سانت لوبوبو))    وفد سوداني برئاسة مستشار مجلس السيادة إلى بلجيكا    شاهد بالفيديو.. سيدة سودانية تشكو: (جارتي تقيم علاقة غير شرعية مع شقيق زوجها وبسببهما دخلت في مشكلة كبيرة مع زوجي بعد أن سمحت لهما بفعل الفاحشة داخل غرفة منزلنا)    زراعة الخرطوم ومنظمة الفاو تنفذان حملة تطعيم الماشية بولاية الخرطوم    تحديث «إكس» يفضح مواقع إنشاء حسابات قادت حملات سلبية ضد السعودية    (التخلي السريع قادم)    خلافات المليشيا حقيقية ولكن    (أرحل ياجعفر فقد بلغ السيل الذبى؟؟؟؟)    أخيرا العالم يعترف بأن حرب السودان هي حرب تشنها مليشيا مجرمة ضد الشعب السوداني    ادارة مكافحة المخدرات ولاية النيل الابيض تضع حدا لنشاط شبكة إجرامية متخصصة في الإتجار وتهريب الحبوب المخدرة    كانت ساعة النصر بدخول الغربال    أكبر هبوط شهري منذ انهيارات الكريبتو في 2022.. لماذا ينهار سوق العملات المشفرة الآن؟    شاهد بالفيديو.. محترف الهلال يثير غضب جمهور المولودية والجهاز الفني ويتسبب في ثورة عقب نهاية المباراة بتصرف غير أخلاقي    وزير الداخلية ومدير عام قوات الشرطة يفتتحان مصنع الكفاية للملبوسات الشرطية    إدارة مباحث كسلا تفكك شبكة إجرامية لتهريب البشر يتزعمها أحد أهم المطلوبين الهاربين من السجن    هذا المبلغ مخصص لتكملة مشروع مياه القضارف وتتلكأ حكومة الولاية في استلامه لأسباب غير موضوعية    أن يكون رئيس أقوى دولة في العالم جاهلًا بما يحدث في السودان فهذه منقصة في حقه    أشهر ناشط في مجال العمل الطوعي بالسودان يعلن إعتزاله العمل الإنساني بعد أن أرهقته "الشائعات"    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    فى الطّريق إلى "الضّعين"، ف "أم دافوق": كيف يفكّرُ الجيش فى القضاء على "التمرّد"؟    أمريكا تفتح بوابة الرقاقات المتقدّمة أمام G42    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كاف" يخطر الهلال السوداني بقراره النهائي حول شكوى مفاجئة    شاهد.. صور ولي العهد السعودي سمو الأمير محمد بن سلمان مع علم السودان تتصدر "الترند" على مواقع التواصل والتعليقات تنفجر بالشكر والثناء مع هاشتاق (السودان بقلب بن سلمان)    شاهد.. الفنانة ندى القلعة تمدح السعودية: (يا خادم الحرمين سلام وولي عهدك السعى للسلام) والقايداية بالحرية والتغيير حنان حسن تسخر: (أجي يا أخواني.. يا مثبت العقل والدين)    تسيد السعودية للإقليم خلال العقد القادم    استئناف حركة المرور في معبر الرقيبات بين دارفور وجنوب السودان    الطيب صالح ناهض استعلاء السلطة عبر "الكتابة السوداء"    البحر يبتلع عشرات السودانيين الهاربين من جحيم بلادهم    دونالد ترامب يفجّرها حول حرب السودان    قرار لسكان الخرطوم بشأن فاتورة المياه    حقق حلمه وكان دائماً ما يردد: "لسه يا قلبى العنيد لا شقيت لابقيت سعيد".. شاهد ماذا قالت مفوضية اللاجئين عن ظهور الشاب السوداني "مهدي" وهو يغني مع الفنان الشهير تامر حسني داخل أحد المصانع بالقاهرة    السودان يعلن وصول شحنة من هولندا    فريق ميداني متخصص من إدارة مباحث ولاية كسلا يسدد بلاغ خاص بسرقة عربة بوكس    الذكاء الاصطناعى وإرضاء الزبون!    بالصورة.. صحيفة "الغارديان" البريطانية تهاجم القيادي بمليشيا الدعم السريع "الربيع عبد المنعم" وتؤكد حذف حساباته على منصات التواصل الاجتماعي    شبح شفاف.. مفترق بين الترقب والتأمل    الطاهر ساتي يكتب: مناخ الجرائم ..!!    تحذير من استخدام الآلات في حفر آبار السايفون ومزوالة نشاط كمائن الطوب    الطاهر ساتي يكتب: أو للتواطؤ ..!!    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرورة التثقف وتبدل الأطوار الحضارية
نشر في الراكوبة يوم 26 - 06 - 2014


استهلال:
" إذا كانت الثقافة تتجلى عبر نوع من الأذى الدائم فإنها مع ذلك نعمة لا تقدر بثمن"1
يبدو أن النظر في ماهو إنساني يستوجب منا العودة إلى ماهو ثقافي وحضاري وذلك لكون الهوية الإنسانية لا تتحقق إلا بالثقافة والتحضر وذلك لكون الهوية الذاتية للفرد لا تتشكل بمعزل عن هويته الاجتماعية ولقائها بالأغيار واستفادتها من التراث الإنساني والتجارب التاريخية المشتركة. إذا أضفنا ما يميز الإنسان عن غيره من مجموعة المحددات الثقافية مثل اللغة والدين والفنون ومختلف العناصر المكونة للخصوصية ومنظومة القيم وأنماط السلوك الأخرى التي ينخرط في ممارستها تأكيدا للانتماء فإننا نستخلص من ذلك انقسام الإنسانية الكونية إلى مجموعة من الخصوصيات تتجلى في تعدد الهويات الثقافية وتنوعها. غير أن المشكل الفلسفي الذي يطرأ هنا يتعلق بمجال تكوينية الهوية الثقافية بين المفرد والجمع ومراوحتها على المستوى التاريخي بين التشكل والازدهار من جهة والانحطاط والأفول من جهة أخرى. بعد ذلك يتراءى لنا مشكل جديد يتعلق بعلاقات الثقافات فيما بينها وميلها إلى التمركز على الذات وإعلان التفوق واحتكار التكلم باسم بالتحضر والعالمية ودخولها في تنافس يتحول إلى صراع واستبعاد لغيرها.
المشكل الثالث الذي يبرز للعيان هو مخاطر المديح الذاتي والقول بالخصوصية الثقافية على ترسيخ قيم كونية حضارية تبشر بالتسامح والتساوي وتدعو إلى الانفتاح والتعارف ومخاطر العولمة على الهوية. في هذا الإطار ماهو مفهوم الثقافة ؟ وما الهوية؟ وهل توجد ثقافة أم عدة ثقافات؟ وما علاقة الثقافات بعضها ببعض؟ هل تقوم على التهميش والهيمنة والقول بأفضليتها على حساب الأخرى أم تتغذى من التنوع والديناميكية والانفتاح وتستثمر التقاطع مع غيرها من أجل التثاقف المثمر والتفاعل التوليدي الخلاق؟ وما المصير الذي ينتظر كل هوية ثقافية ؟ هل تتعرض للتحجر والجدب أم تنصهر في الحضارة الكونية ؟ بعبارة أخرى ما الذي يميز الهوية الثقافية ؟ هل قدرتها على أن تظل حية ومحافظة على قوتها وإبداعيتها أم أن مصيرها ينتهي إلى التقوقع والانحدار والسقوط ؟ وكيف السبيل إلى احترام حق الضيافة الكونية؟
ماهو في ميزان الفكر هو رفض القول بمركزية ثقافة واحدة وسيادتها الأبدية وتزعمها ريادة الإنسانية ورفعها مشعل التحضر بشكل دائم والقول بأن الثقافة هي من الخصوصيات التداولية التي تضيفها الشعوب إلى الطبيعة قصد التغلب على التوحش وقهر الغريزة وزرع حق الضيافة بدل ووضعية التدافع والتدافع.
1- في تشكل الهوية الثقافية:
" يحدد الناس هويتهم بما هم ليسوا عليه"2
تعتبر الثقافة من أكثر المفاهيم العلمية تعقيدا بل من أكثر التعريفات تداولا في حقل العلوم الإنسانية وذلك لتعارضها مع الطبيعة من جهة أولى والخلط بينها والتربية الذوقية ووضعها إلى جوار الحضارة في مرتبة ثانية. بناء على ذلك ليست الثقافة مسألة ثانوية بل هي عنصر ضروري ومسألة حيوية بالنسبة إلى الإنسان إذ تتشكل من أجل إخراج المجتمع من مآزق متنوعة أهمها الفوضى واللاّنظام وحالة الطفولة والقصور الذاتي والوضعية الهمجية والتوحش والمشاعر الأنانية ومسايرة الغرائز والأهواء دون ضوابط.
تتحدد الثقافة من جهة المضاف إلى الطبيعة قصد الانتصار عليها ووضع الحدود والتميز عنها وتتجه نحو التقنية والصناعة والتمدن بالترويض والخبرة والتهذيب والصقل والتنمية والتربية والإشباع والاختراع. كما تظهر الثقافة في كل العلاقات المبتكرة التي تصل الناس بالطبيعة وتصل الناس بعضهم ببعض. في هذا السياق يصرح شبلنغر:" تنشأ ثقافة لحظة ما تستيقظ روح نبيلة" وتغادر الاهتمام بالجزئي نحو الكلي.
على هذا النحو تتناقض الثقافة مع التوحش والهمجية والرعونة والجهل والغلظة والتخلف وتعتمد على ما يمارسه الناس من أعمال وتجارب وخبرات وما يراكمونه من معارف وعلوم ونظريات وتنهل مما يكتسبونه من محيطهم الاجتماعي وعلاقاتهم ببعض وتقترب من المعرفة والتكوين والتحويل والفلاحة والحذق والفهم والذكاء والتسوية والتقويم والفكر الثاقب وسعة الاطلاع وتدل على العادات والتقاليد والمأثورات والسلوك المشترك المتناقل من جيل إلى آخر وتشير إلى الفنون الجميلة والإنسانيات والآداب.
غني عن البيان " أننا نتناول كلمة الثقافة في معنيين: 1- منتجات أنظمة رمزية، ومؤسسات خاصة بمجتمع. 2- المنتجات الرمزية المقومة اجتماعيا كأصناف جمالية مستقلة ذاتيا( الفن)"3 .
بناء على ذلك يبرز التثقيف بوصفه حركة تتقدم نحو الكمال بواسطة الارتقاء وعن طريق النمو المعرفي. وبالتالي تحمي الثقافة الإنسان من النزوات العدائية وترفعه فوق الحياة الغريزية وتميزه عن بقية الكائنات وتنزع عنه القوى التدميرية وتدفعه إلى إنتاج الخيرات وانتزاع النافع من الطبيعة والحفاظ على الحياة وتثبيت الوجود البشري وتتكون من الاستعدادات الضرورية لتنظيم العلاقات الاجتماعية وتوزيع المنافع4 .
ليست الثقافة معرفة ومقدرة للسيطرة على الطبيعة بل هي أيضا الأسلوب العام للحياة التي يتميز بها مجتمع معين والسلوك المكتسب الذي يمكن وصف به أنواع النشاط والمواقف والرؤى والنظم القيمية. ان الثقافة هي التي تجعل الكائن البشري فريدا وما تميز هذا الحيوان الاجتماعي عن غيره وتمكنه من التلائم مع محيطه الطبيعي ومن التعارف والاندماج مع بقية أعضاء المجتمع والتكيف مع أنماط حياتهم المتنوعة.
نستخلص من ذلك أن الثقافة ليست ظاهرة بيولوجية تستند على الطبع والمزاج والمواد العضوية بل هي كل ما يضعه الإنسان في محيطه الطبيعي بالتعاون مع غيره وهذا الكل المركب الذي يتكون من الفردي والجماعي ومن الرمزي والمادي ومن المؤسسات والمعتقدات ومن العادات والأعراف والقوانين والشيم.
هكذا تتميز الثقافة بالطابع العام وتغطي معظم جوانب الحياة اليومية وتتراوح بين الثبات والتغير. وبالتالي ليست الثقافة شيئا ينضاف إلى الحياة بل قوام تدفقها ودم وجود الشعب وهذا الكل السائد لديه من لغة ودين.
تنمو الثقافة وتتطور حينما توجد فئة من المجتمع تعمل بجد ومثابرة وتضحوا بنفسها من أجل الشأن العام وتعبر عن طابعها الديناميكي والتفتح والتجدد حينما تتفرغ فئة أخرى للتأمل والتنظير والتذوق والإبداع وتظل هذه الثقافة قوية ومستمرة طالما تمارس النقد على ذاتها وتفكر خارج نسقها الخاص وتذبل وتتدحرج وتضعف وتنقرض حينما تسقط في التقليد والتماثل والتكرار وتهمل الاختلاف والتنوع والخلق.
2- في تحول الثقافة إلى حضارة:
" تنمو الحضارة في دائرة النفعي ، وتنمو الثقافة في دائرة القيمي" كلود ليفي - شتراوس
بعض من الفلاسفة يزدري كل تفريق بين الحضارة والثقافة ويقر بوجود قرابة متينة بينهما تصل إلى حد التطابق مثل سغموند فرويد ويتصورون القرابة على غرار العلم والتقنية والبعض الآخر مثل ماكس فيبر يعملون على التمييز بينهما ويجعلون مفهوم الثقافة يدل على القيم والمعاني الروحية التي يضيفها الإنسان إلى الطبيعة بينما يلصقون بالحضارة دلالة نفعية ويشيرون إلى الجانب المادي التنظيمي للتقدم العلمي والتكنولوجي ويتوقفون عند الخاصية التراكمية من جهة كون الحضارة ثمرة جهود للتحسين والتطوير تخص الظروف المادية التي يعيشها الإنسان وترتبط بتغيير المحيط الاجتماعي وترتكز على الصناعة.
المعنى الايتيمولوجي للحضارة يدل على التحضر والحضر والحاضرة وهو المدينة والمدنية والتمدين وتتميز الحضارة بالطابع الكوني وتتنزل في إطار الزمن والتاريخ وترتبط بالتقدم والتحول نحو الأفضل. بالرغم من وجود حضارة واحدة في كل عصر إلى جانب عدة ثقافات قومية فإن الحضارة تفترض وجود ثقافات متنوعة للغاية يقوم بينها تحالف والتقاء ولا صراع وإقصاء مع محافظة كل ثقافة على ما يخصها. إذا كان صاموال هنتغتون يكشف عن العلاقات العدائية بين الشعوب وتفجر الحروب بشكل مستمر بين الدول ويقول بصدام الحضارات فإن عمونيال كانط وبول ريكور وروجي غارودي وغيرهم يقولون بحوار الحضارات ويدعون إلى إقامة حالة السلم بشكل دائم بين الدول وتكثيف روح التعاون والصداقة. بيد أن الحضارة معرضة إلى النكوص والانحطاط وقد تعرف عودة بالبشرية إلى حالة الهمجية والتوحش وذلك بسبب الغزو والاستيلاء والغلبة من طرف حضارة أخرى حققت صعودها بشكل مفاجىء وسريع.
إذا أرادت هوية ثقافية معينة أن تجتاز مسافة الإبداع الحضاري فإنها مطالبة بفك الغربة عن العالم والتخلص من الفراغ الذي يغمر الحياة اليومية والتوقف عن التهالك على أشكال المدنية ومداواة الذات المغرقة في القدم وإعادة النظر في الإنسان وإعادة بناء العلوم وتغيير البنية العميقة للعقل والمجتمع. بيد أن الحضارة تولد حينما يحصل تطور في وسائل الاتصال وتراكم في الاقتصاد وتداخل في العلاقات تبسط هوية معينة ثقافتها على الكون وانتشارا في العالم وتتمركز على ذاتها وتجد التأييد من الهويات الأخرى.
" من غير الممكن صهر جميع الشعوب في بوتقة واحدة على أساس خاصية مشتركة تجعل منها مجتمعات بدائية أو جاهلة وهذه مصطلحات مشكوك في صحتها تطلق على كل شكل من أشكال الحياة الاجتماعية التي استمرت إلى عهد قريب ولا تزال مستمرة إلى الآن في بعض الحالات"5
من المعلوم أن التحضر ينبني بالأساس على محاربة التعصب وتشجيع التنوع وينتقل من المواجهة بين الثقافات إلى التكامل الكوني بينها ويجعل من التعددية والاختلاف وضعية للاعتراف المتبادل والتسامح. كما ينشر التحضر التوافق بين البشر عن طريق تشبيك العلاقات البيذاتية والبيثقافية ويجسر الهوة بين الأغيار ويعتمد بالأساس على اللغة بوصفها سيرورة حية للتفاهم عن طريق الحوار والترجمة والتثاقف.
3- تبدل الأطوار الحضارية:
" كان يمكنهم القبول بفكرة وجود ثقافات مختلفة ، ولكن لا توجد في نظرهم سوى حضارة واحدة هي الثقافة الغربية بماهي نتاج المسيحية وهي بهذه الصفة متفوقة على الثقافات الأخرى. وهم يعتقدون بوجود تقدم أخلاقي ، معنوي واجتماعي"6
تنقل الثقافة المجتمعات من الفوضى إلى النظام ومن اللاّشكل إلى الشكل وتتطور وتصل إلى مجدها وقمتها حينما تنتصر على رغباتها الأنانية وتصوراتها الضيقة وتتعالى على الانتماءات الجهوية والمحلية والقطرية وتتخلى عن الإقصاء والتمركز على الذات والنظرة العنصرية وتستبدل اهتمامها بالجزئيات والمصالح القريبة وتنشد الغايات الكلية للنوع البشري وتسعى إلى تحقيق الأبعاد الروحية وتطلب الكلي والمطلق والكوني وتشرع الاختلاف وتعترف بالتنوع وتجعل من التعدد والكثرة فضاء للتلاقي والتخاصب وفرصة للاثراء. لعل أهم شروط الترقي الثقافي إلى الطور الحضاري هي الانفتاح والمرونة والنهل من الأغيار والاستفادة من الثقافات الأخرى ويحدث ذلك عن طريق المثاقفة والفعل البيثقافي والاحتكاك والنقل والمحاكاة وتقدم الإضافة وتعيش حالة ابداعية على الصعيد المادي والتقني وفي المجال الروحي والفني.
لكن ماهي الأسباب المؤدية بالثقافة الى التحجر؟ وما الذي يجعل حضارة تذبل وتموت بعد سؤدد ومجد؟
يقول شبلنغر في هذا الاطار: " تتحجر ثقافة فجأة ، فتموت ويسيل دمها وتخور قواها فتصير حضارة ".
أسباب هذا التراجع والانحطاط هي كالآتي:
- عندما تتمكن ثقافة معينة من تحقيق الاكتمال الداخلي والخارجي وتبلغ الأهداف المرسومة.
- عندما تعود الثقافة الى الاهتمام بارضاء الغريزة والجوانب المادية على حساب ماهو روحي وتهمل العقل والابداع الفني وتتوقف عن طلب المطلق.
- عندما تقع في فخ محاكاة الثقافات الأخرى وتصاب بداء التقليد والاستنساخ والاغتراب الثقافي وتتوقف عن الابداع والتجدد والخلق.
- عندما تصاب بمرض الوله الذاتي ويتكاثر فيها الخطاب الافتخاري والنكوص واجترار الماضي وتهمل أهمية الوعي بالزمن ويسيطر عليها حراس التاريخ التذكاري وتكتفي باعادة انتاج نفسها وتخليد الذكريات.
- عندما تنتصر فيها أحد المحددات وشكل من الثوابت على البقية وهي العرق والدين واللغة والنظام السياسي وتتشكل دوغما اقصائية وتسيطر ايديولوجيا السلطة الرسمية على الفضاء العام.
- عندما يغيب نمط المثقفين المجددين الذين يمارسون التحليل والنقد والتغيير والالتزام ويبرز نمط آخر من المثقفين التقليديين الذي يقتصرون على التبرير والشرح والتفسير ونشر لثقافة السائدة.
- دخول الثقافة عصر الامبريالي ورغبتها الشديدة في الاستحواذ والهيمنة على الشعوب والمجتمعات المجاورة وتحولها الى قوة عسكرية تفرض هوية مابعد ثقافية وتجعل من النمط الامبراطوري شكلا من الاقامة في العالم.
- تجاوز الغرابة المطلقة أو الغيرية الجذرية التي من جانب الذات تجاه الثقافات المغايرة والاعتراف بوجود الاختلاف بين الذاتي والأجنبي ووحدة المصير والاعتماد على الترجمة لفهم الآخر الثقافي.
" الترجمة لا تطرح فقط عملا فكريا نظريا أو تطبيقيا ولكنها تطرح مشكلة أخلاقية تتمثل في تقريب القارىء من الكاتب وتقريب الكاتب من القارىء... مما يعني ممارسة الضيافة اللغوية"7
لكن ماهي المخاطر الناتجة عن هذا التصحر الثقافي؟ وماذا يحدث للثقافات حينما تسقط الحضارة؟ وهل يمكن الاستئناف وتحقيق الانطلاقة الجديدة والاسترجاع الحضاري؟
خاتمة:
" ظهر مفهوم تساوي الثقافات (في المكانة والتعقيد) ونسبويتها ،مما أدى الى تعليق مفهوم الحضارة المدركة بوصفها الانجاز المادي والمعنوي لثقافة معينة واختفت الأحكام التقويمية"8
لقد ارتبط التطور المعاصر للعولمة بزوال الصفة الإقليمية وانتقاص سيادة الدولة الوطنية وفشل مشروع الحداثة وانقلاب حركة التنوير على سياسة امبريالية كليانية وفقدت العلمنة العديد من المكاسب أمام المد التيولوجي وفي ظل عودة الديني عن طريق المتحولين الجدد أو إعادة إنتاج الماضي بتنشيط ذهنية التحريم وتركيز مؤسسات التبشير والدعوى وبواسطة التوريث والإرساليات الخيرية وهيمنة المقدس على الوعي.
حينما التقى الديني بالثقافة حصل اصطدام بينهما وتم القضاء على الهوية الثقافية باسم الديني المحض وأدرج الثقافي في دائرة الوثني والدنيوي في مقابل القدسي بدل التعامل مع الدين بوصفه جزء من الثقافة. كما أن الحضارة الغربية بررت تمركزها لا من جهة تفوقها الثقافي في شكلها الدنيوي على بقية الهويات بل بوصفها ملهمة بالدين على الدوام وقادرة على منح دين محض أعلى من كل ثقافة وعابر للمجتمعات. غاية المراد أن الاستئناف الحضاري يطرح في إطار الاستقلال الذاتي للثقافات وتساويها في المكانة ونسبيتها المعرفية والمعيارية وتتوقف على اندراج الديني ضمن الثقافة والتعامل معه بوصفه أحد الرمز الثقافية وليس كل الوعي الفكري الذي يمنح الهوية الثقافية أسسها والإطار العام الذي يغطي الحياة اليومية. من هذا المنطلق يجب رد التعددية الثقافية إلى أصولها العلمية والقيام بعلمنة غير عنيفة للدين وذلك برده إلى الثقافة بدل أن يؤكد عالميته عن طريق الهيمنة على الهوية والتأكيد على الإيمان المحض والتحرر من الذوق الجمالي وجعل النظرية اللاهوتية هي مرجع الأحكام الثقافية المسبقة فيما يتعلق نمط الحياة والفرد. إذا كان التثقف هو السيرورة التي يكتسب بمقتضاها الفرد ثقافته الخاصة فإن التحضر هو المسار الشائك والمعقد الذي يقطعه شعب بأسره في سبيل الترقي والتقدم والحصول على درجة من التمدن والتحديث. لكن ما حيلة حضارة إقرأ من أجل العود على بدء؟ هل تقيم مأتما على الدين أم تحرص على اندراجه الثقافي ؟
الهوامش:
[1] Assoun (Paul Taurent), nature , inconscient et culture, in Analyses et réflexions sur la nature, E. Marketing, 1990.p.93.
[2] هنتنجتون (صامويل) ، صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب ، شركة سطور ، المعادي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999، ص.203.
[3] روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2012 ،ص.55.
[4] فرويد ( سغموند) ، مستقبل وهم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ، بيروت ، الطبعة الأولى، 1974، ص.70.
[5] ليتش ( إدموند)، كلود ليفي – شتراوس، البنيوية في مشروعه االأنثربولوجي، ترجمة ثائر ديب، دار الفرقد، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 2010. ص. 203.
[6] روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، مرجع مذكور، ص.101.
[7] ريكور (بول) ، عن الترجمة، ترجمة حسين خمري، منشورات الاختلاف- الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.ص.46.
[8] روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، مرجع مذكور، ص.107.
المراجع:
Assoun (Paul Taurent), nature , inconscient et culture, in Analyses et réflexions sur la nature, E. Marketing, 1990.
هنتنجتون (صامويل) ، صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب ، شركة سطور ، المعادي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999.
فرويد ( سغموند) ، مستقبل وهم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ، بيروت ، الطبعة الأولى، 1974.
ليتش ( إدموند)، كلود ليفي – شتراوس، البنيوية في مشروعه االأنثربولوجي، ترجمة ثائر ديب، دار الفرقد، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 2010.
ريكور (بول) ، عن الترجمة، ترجمة حسين خمري، منشورات الاختلاف- الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.
روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2012.
كاتب فلسفي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.