أول تعليق من ترامب على اجتياح غزة.. وتحذير ثان لحماس    مقتل 18 شخصا واختطاف 14 آخرين بينهم 3 فتيات من الفاشر    تأملات جيل سوداني أكمل الستين    مقتل كبار قادة حركة العدل والمساواة بالفاشر    مناوي: صمود الفاشر رسالة تاريخية لعبدالرحيم دقلو    فبريكة التعليم وإنتاج الجهالة..!    السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    مصلحة الشعب مع الحقيقة دائما حتى لو كانت قاسية    أونانا يحقق بداية رائعة في تركيا    بيراميدز يسحق أوكلاند ويضرب موعدا مع الأهلي السعودي    دبابيس ودالشريف    السودان يشارك في مؤتمر ومعرض المجلس الدولي للمطارات لإقليم أفريقيا    رئيس مجلس السيادة يلتقي أمير دولة قطر و يعقدان اجتماعاً ثنائياً    ما ترتيب محمد صلاح في قائمة هدافي دوري أبطال أوروبا عبر التاريخ؟    دراسة تكشف تأثير "تيك توك" وتطبيقات الفيديو على سلوك الأطفال    "خطوط حمراء" رسمها السيسي لإسرائيل أمام قمة الدوحة    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    لقد غيّر الهجوم على قطر قواعد اللعبة الدبلوماسية    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    أمير قطر: بلادي تعرضت لهجوم غادر.. وعازمون على مواجهة عدوان إسرائيل    شاب سوداني يستشير: (والدي يريد الزواج من والدة زوجتي صاحبة ال 40 عام وأنا ما عاوز لخبطة في النسب يعني إبنه يكون أخوي وأخ زوجتي ماذا أفعل؟)    هالاند مهاجم سيتي يتخطى دروغبا وروني بعد التهام مانشستر يونايتد    الهلال السوداني يتطلّع لتحقيق كأس سيكافا أمام سينغيدا    شاهد بالصورة والفيديو.. بضحكة مثيرة جداً وعبارة "أبشرك اللوري مافي زول سائقه مركون ليهو زمن".. سيدة سودانية تثير ضجة واسعة بردها على متابع تغزل في جسدها: (التحية لسائق اللوري حظو والله)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفتح النار على المطربة إيمان الشريف: (المجهود البتعملي عشان تطبلي لطرف تاني قدميه لزوجك لأنك مقصرة معه ولا تعطيه إهتمام)    شاهد.. "جدية" الإعلام السوداني تنشر صورة لها مع زوجها الشاعر وتستعين بأبيات من الغزل نظمها في حقها: (لا شمسين قدر نورك ولا الاقمار معاها كمان)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    مصر تسجل مستوى دخل قياسيا في الدولار    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والري بالخرطوم تبحث إعادة إعمار وتطوير قطاع الألبان    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    أعلنت إحياء حفل لها بالمجان.. الفنانة ميادة قمر الدين ترد الجميل والوفاء لصديقتها بالمدرسة كانت تقسم معها "سندوتش الفطور" عندما كانت الحياة غير ميسرة لها    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    حادث مأسوي بالإسكندرية.. غرق 6 فتيات وانقاذ 24 أخريات في شاطئ أبو تلات    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرورة التثقف وتبدل الأطوار الحضارية
نشر في الراكوبة يوم 26 - 06 - 2014


استهلال:
" إذا كانت الثقافة تتجلى عبر نوع من الأذى الدائم فإنها مع ذلك نعمة لا تقدر بثمن"1
يبدو أن النظر في ماهو إنساني يستوجب منا العودة إلى ماهو ثقافي وحضاري وذلك لكون الهوية الإنسانية لا تتحقق إلا بالثقافة والتحضر وذلك لكون الهوية الذاتية للفرد لا تتشكل بمعزل عن هويته الاجتماعية ولقائها بالأغيار واستفادتها من التراث الإنساني والتجارب التاريخية المشتركة. إذا أضفنا ما يميز الإنسان عن غيره من مجموعة المحددات الثقافية مثل اللغة والدين والفنون ومختلف العناصر المكونة للخصوصية ومنظومة القيم وأنماط السلوك الأخرى التي ينخرط في ممارستها تأكيدا للانتماء فإننا نستخلص من ذلك انقسام الإنسانية الكونية إلى مجموعة من الخصوصيات تتجلى في تعدد الهويات الثقافية وتنوعها. غير أن المشكل الفلسفي الذي يطرأ هنا يتعلق بمجال تكوينية الهوية الثقافية بين المفرد والجمع ومراوحتها على المستوى التاريخي بين التشكل والازدهار من جهة والانحطاط والأفول من جهة أخرى. بعد ذلك يتراءى لنا مشكل جديد يتعلق بعلاقات الثقافات فيما بينها وميلها إلى التمركز على الذات وإعلان التفوق واحتكار التكلم باسم بالتحضر والعالمية ودخولها في تنافس يتحول إلى صراع واستبعاد لغيرها.
المشكل الثالث الذي يبرز للعيان هو مخاطر المديح الذاتي والقول بالخصوصية الثقافية على ترسيخ قيم كونية حضارية تبشر بالتسامح والتساوي وتدعو إلى الانفتاح والتعارف ومخاطر العولمة على الهوية. في هذا الإطار ماهو مفهوم الثقافة ؟ وما الهوية؟ وهل توجد ثقافة أم عدة ثقافات؟ وما علاقة الثقافات بعضها ببعض؟ هل تقوم على التهميش والهيمنة والقول بأفضليتها على حساب الأخرى أم تتغذى من التنوع والديناميكية والانفتاح وتستثمر التقاطع مع غيرها من أجل التثاقف المثمر والتفاعل التوليدي الخلاق؟ وما المصير الذي ينتظر كل هوية ثقافية ؟ هل تتعرض للتحجر والجدب أم تنصهر في الحضارة الكونية ؟ بعبارة أخرى ما الذي يميز الهوية الثقافية ؟ هل قدرتها على أن تظل حية ومحافظة على قوتها وإبداعيتها أم أن مصيرها ينتهي إلى التقوقع والانحدار والسقوط ؟ وكيف السبيل إلى احترام حق الضيافة الكونية؟
ماهو في ميزان الفكر هو رفض القول بمركزية ثقافة واحدة وسيادتها الأبدية وتزعمها ريادة الإنسانية ورفعها مشعل التحضر بشكل دائم والقول بأن الثقافة هي من الخصوصيات التداولية التي تضيفها الشعوب إلى الطبيعة قصد التغلب على التوحش وقهر الغريزة وزرع حق الضيافة بدل ووضعية التدافع والتدافع.
1- في تشكل الهوية الثقافية:
" يحدد الناس هويتهم بما هم ليسوا عليه"2
تعتبر الثقافة من أكثر المفاهيم العلمية تعقيدا بل من أكثر التعريفات تداولا في حقل العلوم الإنسانية وذلك لتعارضها مع الطبيعة من جهة أولى والخلط بينها والتربية الذوقية ووضعها إلى جوار الحضارة في مرتبة ثانية. بناء على ذلك ليست الثقافة مسألة ثانوية بل هي عنصر ضروري ومسألة حيوية بالنسبة إلى الإنسان إذ تتشكل من أجل إخراج المجتمع من مآزق متنوعة أهمها الفوضى واللاّنظام وحالة الطفولة والقصور الذاتي والوضعية الهمجية والتوحش والمشاعر الأنانية ومسايرة الغرائز والأهواء دون ضوابط.
تتحدد الثقافة من جهة المضاف إلى الطبيعة قصد الانتصار عليها ووضع الحدود والتميز عنها وتتجه نحو التقنية والصناعة والتمدن بالترويض والخبرة والتهذيب والصقل والتنمية والتربية والإشباع والاختراع. كما تظهر الثقافة في كل العلاقات المبتكرة التي تصل الناس بالطبيعة وتصل الناس بعضهم ببعض. في هذا السياق يصرح شبلنغر:" تنشأ ثقافة لحظة ما تستيقظ روح نبيلة" وتغادر الاهتمام بالجزئي نحو الكلي.
على هذا النحو تتناقض الثقافة مع التوحش والهمجية والرعونة والجهل والغلظة والتخلف وتعتمد على ما يمارسه الناس من أعمال وتجارب وخبرات وما يراكمونه من معارف وعلوم ونظريات وتنهل مما يكتسبونه من محيطهم الاجتماعي وعلاقاتهم ببعض وتقترب من المعرفة والتكوين والتحويل والفلاحة والحذق والفهم والذكاء والتسوية والتقويم والفكر الثاقب وسعة الاطلاع وتدل على العادات والتقاليد والمأثورات والسلوك المشترك المتناقل من جيل إلى آخر وتشير إلى الفنون الجميلة والإنسانيات والآداب.
غني عن البيان " أننا نتناول كلمة الثقافة في معنيين: 1- منتجات أنظمة رمزية، ومؤسسات خاصة بمجتمع. 2- المنتجات الرمزية المقومة اجتماعيا كأصناف جمالية مستقلة ذاتيا( الفن)"3 .
بناء على ذلك يبرز التثقيف بوصفه حركة تتقدم نحو الكمال بواسطة الارتقاء وعن طريق النمو المعرفي. وبالتالي تحمي الثقافة الإنسان من النزوات العدائية وترفعه فوق الحياة الغريزية وتميزه عن بقية الكائنات وتنزع عنه القوى التدميرية وتدفعه إلى إنتاج الخيرات وانتزاع النافع من الطبيعة والحفاظ على الحياة وتثبيت الوجود البشري وتتكون من الاستعدادات الضرورية لتنظيم العلاقات الاجتماعية وتوزيع المنافع4 .
ليست الثقافة معرفة ومقدرة للسيطرة على الطبيعة بل هي أيضا الأسلوب العام للحياة التي يتميز بها مجتمع معين والسلوك المكتسب الذي يمكن وصف به أنواع النشاط والمواقف والرؤى والنظم القيمية. ان الثقافة هي التي تجعل الكائن البشري فريدا وما تميز هذا الحيوان الاجتماعي عن غيره وتمكنه من التلائم مع محيطه الطبيعي ومن التعارف والاندماج مع بقية أعضاء المجتمع والتكيف مع أنماط حياتهم المتنوعة.
نستخلص من ذلك أن الثقافة ليست ظاهرة بيولوجية تستند على الطبع والمزاج والمواد العضوية بل هي كل ما يضعه الإنسان في محيطه الطبيعي بالتعاون مع غيره وهذا الكل المركب الذي يتكون من الفردي والجماعي ومن الرمزي والمادي ومن المؤسسات والمعتقدات ومن العادات والأعراف والقوانين والشيم.
هكذا تتميز الثقافة بالطابع العام وتغطي معظم جوانب الحياة اليومية وتتراوح بين الثبات والتغير. وبالتالي ليست الثقافة شيئا ينضاف إلى الحياة بل قوام تدفقها ودم وجود الشعب وهذا الكل السائد لديه من لغة ودين.
تنمو الثقافة وتتطور حينما توجد فئة من المجتمع تعمل بجد ومثابرة وتضحوا بنفسها من أجل الشأن العام وتعبر عن طابعها الديناميكي والتفتح والتجدد حينما تتفرغ فئة أخرى للتأمل والتنظير والتذوق والإبداع وتظل هذه الثقافة قوية ومستمرة طالما تمارس النقد على ذاتها وتفكر خارج نسقها الخاص وتذبل وتتدحرج وتضعف وتنقرض حينما تسقط في التقليد والتماثل والتكرار وتهمل الاختلاف والتنوع والخلق.
2- في تحول الثقافة إلى حضارة:
" تنمو الحضارة في دائرة النفعي ، وتنمو الثقافة في دائرة القيمي" كلود ليفي - شتراوس
بعض من الفلاسفة يزدري كل تفريق بين الحضارة والثقافة ويقر بوجود قرابة متينة بينهما تصل إلى حد التطابق مثل سغموند فرويد ويتصورون القرابة على غرار العلم والتقنية والبعض الآخر مثل ماكس فيبر يعملون على التمييز بينهما ويجعلون مفهوم الثقافة يدل على القيم والمعاني الروحية التي يضيفها الإنسان إلى الطبيعة بينما يلصقون بالحضارة دلالة نفعية ويشيرون إلى الجانب المادي التنظيمي للتقدم العلمي والتكنولوجي ويتوقفون عند الخاصية التراكمية من جهة كون الحضارة ثمرة جهود للتحسين والتطوير تخص الظروف المادية التي يعيشها الإنسان وترتبط بتغيير المحيط الاجتماعي وترتكز على الصناعة.
المعنى الايتيمولوجي للحضارة يدل على التحضر والحضر والحاضرة وهو المدينة والمدنية والتمدين وتتميز الحضارة بالطابع الكوني وتتنزل في إطار الزمن والتاريخ وترتبط بالتقدم والتحول نحو الأفضل. بالرغم من وجود حضارة واحدة في كل عصر إلى جانب عدة ثقافات قومية فإن الحضارة تفترض وجود ثقافات متنوعة للغاية يقوم بينها تحالف والتقاء ولا صراع وإقصاء مع محافظة كل ثقافة على ما يخصها. إذا كان صاموال هنتغتون يكشف عن العلاقات العدائية بين الشعوب وتفجر الحروب بشكل مستمر بين الدول ويقول بصدام الحضارات فإن عمونيال كانط وبول ريكور وروجي غارودي وغيرهم يقولون بحوار الحضارات ويدعون إلى إقامة حالة السلم بشكل دائم بين الدول وتكثيف روح التعاون والصداقة. بيد أن الحضارة معرضة إلى النكوص والانحطاط وقد تعرف عودة بالبشرية إلى حالة الهمجية والتوحش وذلك بسبب الغزو والاستيلاء والغلبة من طرف حضارة أخرى حققت صعودها بشكل مفاجىء وسريع.
إذا أرادت هوية ثقافية معينة أن تجتاز مسافة الإبداع الحضاري فإنها مطالبة بفك الغربة عن العالم والتخلص من الفراغ الذي يغمر الحياة اليومية والتوقف عن التهالك على أشكال المدنية ومداواة الذات المغرقة في القدم وإعادة النظر في الإنسان وإعادة بناء العلوم وتغيير البنية العميقة للعقل والمجتمع. بيد أن الحضارة تولد حينما يحصل تطور في وسائل الاتصال وتراكم في الاقتصاد وتداخل في العلاقات تبسط هوية معينة ثقافتها على الكون وانتشارا في العالم وتتمركز على ذاتها وتجد التأييد من الهويات الأخرى.
" من غير الممكن صهر جميع الشعوب في بوتقة واحدة على أساس خاصية مشتركة تجعل منها مجتمعات بدائية أو جاهلة وهذه مصطلحات مشكوك في صحتها تطلق على كل شكل من أشكال الحياة الاجتماعية التي استمرت إلى عهد قريب ولا تزال مستمرة إلى الآن في بعض الحالات"5
من المعلوم أن التحضر ينبني بالأساس على محاربة التعصب وتشجيع التنوع وينتقل من المواجهة بين الثقافات إلى التكامل الكوني بينها ويجعل من التعددية والاختلاف وضعية للاعتراف المتبادل والتسامح. كما ينشر التحضر التوافق بين البشر عن طريق تشبيك العلاقات البيذاتية والبيثقافية ويجسر الهوة بين الأغيار ويعتمد بالأساس على اللغة بوصفها سيرورة حية للتفاهم عن طريق الحوار والترجمة والتثاقف.
3- تبدل الأطوار الحضارية:
" كان يمكنهم القبول بفكرة وجود ثقافات مختلفة ، ولكن لا توجد في نظرهم سوى حضارة واحدة هي الثقافة الغربية بماهي نتاج المسيحية وهي بهذه الصفة متفوقة على الثقافات الأخرى. وهم يعتقدون بوجود تقدم أخلاقي ، معنوي واجتماعي"6
تنقل الثقافة المجتمعات من الفوضى إلى النظام ومن اللاّشكل إلى الشكل وتتطور وتصل إلى مجدها وقمتها حينما تنتصر على رغباتها الأنانية وتصوراتها الضيقة وتتعالى على الانتماءات الجهوية والمحلية والقطرية وتتخلى عن الإقصاء والتمركز على الذات والنظرة العنصرية وتستبدل اهتمامها بالجزئيات والمصالح القريبة وتنشد الغايات الكلية للنوع البشري وتسعى إلى تحقيق الأبعاد الروحية وتطلب الكلي والمطلق والكوني وتشرع الاختلاف وتعترف بالتنوع وتجعل من التعدد والكثرة فضاء للتلاقي والتخاصب وفرصة للاثراء. لعل أهم شروط الترقي الثقافي إلى الطور الحضاري هي الانفتاح والمرونة والنهل من الأغيار والاستفادة من الثقافات الأخرى ويحدث ذلك عن طريق المثاقفة والفعل البيثقافي والاحتكاك والنقل والمحاكاة وتقدم الإضافة وتعيش حالة ابداعية على الصعيد المادي والتقني وفي المجال الروحي والفني.
لكن ماهي الأسباب المؤدية بالثقافة الى التحجر؟ وما الذي يجعل حضارة تذبل وتموت بعد سؤدد ومجد؟
يقول شبلنغر في هذا الاطار: " تتحجر ثقافة فجأة ، فتموت ويسيل دمها وتخور قواها فتصير حضارة ".
أسباب هذا التراجع والانحطاط هي كالآتي:
- عندما تتمكن ثقافة معينة من تحقيق الاكتمال الداخلي والخارجي وتبلغ الأهداف المرسومة.
- عندما تعود الثقافة الى الاهتمام بارضاء الغريزة والجوانب المادية على حساب ماهو روحي وتهمل العقل والابداع الفني وتتوقف عن طلب المطلق.
- عندما تقع في فخ محاكاة الثقافات الأخرى وتصاب بداء التقليد والاستنساخ والاغتراب الثقافي وتتوقف عن الابداع والتجدد والخلق.
- عندما تصاب بمرض الوله الذاتي ويتكاثر فيها الخطاب الافتخاري والنكوص واجترار الماضي وتهمل أهمية الوعي بالزمن ويسيطر عليها حراس التاريخ التذكاري وتكتفي باعادة انتاج نفسها وتخليد الذكريات.
- عندما تنتصر فيها أحد المحددات وشكل من الثوابت على البقية وهي العرق والدين واللغة والنظام السياسي وتتشكل دوغما اقصائية وتسيطر ايديولوجيا السلطة الرسمية على الفضاء العام.
- عندما يغيب نمط المثقفين المجددين الذين يمارسون التحليل والنقد والتغيير والالتزام ويبرز نمط آخر من المثقفين التقليديين الذي يقتصرون على التبرير والشرح والتفسير ونشر لثقافة السائدة.
- دخول الثقافة عصر الامبريالي ورغبتها الشديدة في الاستحواذ والهيمنة على الشعوب والمجتمعات المجاورة وتحولها الى قوة عسكرية تفرض هوية مابعد ثقافية وتجعل من النمط الامبراطوري شكلا من الاقامة في العالم.
- تجاوز الغرابة المطلقة أو الغيرية الجذرية التي من جانب الذات تجاه الثقافات المغايرة والاعتراف بوجود الاختلاف بين الذاتي والأجنبي ووحدة المصير والاعتماد على الترجمة لفهم الآخر الثقافي.
" الترجمة لا تطرح فقط عملا فكريا نظريا أو تطبيقيا ولكنها تطرح مشكلة أخلاقية تتمثل في تقريب القارىء من الكاتب وتقريب الكاتب من القارىء... مما يعني ممارسة الضيافة اللغوية"7
لكن ماهي المخاطر الناتجة عن هذا التصحر الثقافي؟ وماذا يحدث للثقافات حينما تسقط الحضارة؟ وهل يمكن الاستئناف وتحقيق الانطلاقة الجديدة والاسترجاع الحضاري؟
خاتمة:
" ظهر مفهوم تساوي الثقافات (في المكانة والتعقيد) ونسبويتها ،مما أدى الى تعليق مفهوم الحضارة المدركة بوصفها الانجاز المادي والمعنوي لثقافة معينة واختفت الأحكام التقويمية"8
لقد ارتبط التطور المعاصر للعولمة بزوال الصفة الإقليمية وانتقاص سيادة الدولة الوطنية وفشل مشروع الحداثة وانقلاب حركة التنوير على سياسة امبريالية كليانية وفقدت العلمنة العديد من المكاسب أمام المد التيولوجي وفي ظل عودة الديني عن طريق المتحولين الجدد أو إعادة إنتاج الماضي بتنشيط ذهنية التحريم وتركيز مؤسسات التبشير والدعوى وبواسطة التوريث والإرساليات الخيرية وهيمنة المقدس على الوعي.
حينما التقى الديني بالثقافة حصل اصطدام بينهما وتم القضاء على الهوية الثقافية باسم الديني المحض وأدرج الثقافي في دائرة الوثني والدنيوي في مقابل القدسي بدل التعامل مع الدين بوصفه جزء من الثقافة. كما أن الحضارة الغربية بررت تمركزها لا من جهة تفوقها الثقافي في شكلها الدنيوي على بقية الهويات بل بوصفها ملهمة بالدين على الدوام وقادرة على منح دين محض أعلى من كل ثقافة وعابر للمجتمعات. غاية المراد أن الاستئناف الحضاري يطرح في إطار الاستقلال الذاتي للثقافات وتساويها في المكانة ونسبيتها المعرفية والمعيارية وتتوقف على اندراج الديني ضمن الثقافة والتعامل معه بوصفه أحد الرمز الثقافية وليس كل الوعي الفكري الذي يمنح الهوية الثقافية أسسها والإطار العام الذي يغطي الحياة اليومية. من هذا المنطلق يجب رد التعددية الثقافية إلى أصولها العلمية والقيام بعلمنة غير عنيفة للدين وذلك برده إلى الثقافة بدل أن يؤكد عالميته عن طريق الهيمنة على الهوية والتأكيد على الإيمان المحض والتحرر من الذوق الجمالي وجعل النظرية اللاهوتية هي مرجع الأحكام الثقافية المسبقة فيما يتعلق نمط الحياة والفرد. إذا كان التثقف هو السيرورة التي يكتسب بمقتضاها الفرد ثقافته الخاصة فإن التحضر هو المسار الشائك والمعقد الذي يقطعه شعب بأسره في سبيل الترقي والتقدم والحصول على درجة من التمدن والتحديث. لكن ما حيلة حضارة إقرأ من أجل العود على بدء؟ هل تقيم مأتما على الدين أم تحرص على اندراجه الثقافي ؟
الهوامش:
[1] Assoun (Paul Taurent), nature , inconscient et culture, in Analyses et réflexions sur la nature, E. Marketing, 1990.p.93.
[2] هنتنجتون (صامويل) ، صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب ، شركة سطور ، المعادي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999، ص.203.
[3] روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2012 ،ص.55.
[4] فرويد ( سغموند) ، مستقبل وهم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ، بيروت ، الطبعة الأولى، 1974، ص.70.
[5] ليتش ( إدموند)، كلود ليفي – شتراوس، البنيوية في مشروعه االأنثربولوجي، ترجمة ثائر ديب، دار الفرقد، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 2010. ص. 203.
[6] روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، مرجع مذكور، ص.101.
[7] ريكور (بول) ، عن الترجمة، ترجمة حسين خمري، منشورات الاختلاف- الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.ص.46.
[8] روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، مرجع مذكور، ص.107.
المراجع:
Assoun (Paul Taurent), nature , inconscient et culture, in Analyses et réflexions sur la nature, E. Marketing, 1990.
هنتنجتون (صامويل) ، صدام الحضارات، ترجمة طلعت الشايب ، شركة سطور ، المعادي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1999.
فرويد ( سغموند) ، مستقبل وهم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة ، بيروت ، الطبعة الأولى، 1974.
ليتش ( إدموند)، كلود ليفي – شتراوس، البنيوية في مشروعه االأنثربولوجي، ترجمة ثائر ديب، دار الفرقد، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 2010.
ريكور (بول) ، عن الترجمة، ترجمة حسين خمري، منشورات الاختلاف- الجزائر، الطبعة الأولى، 2008.
روا (أوليفيه) ، الجهل المقدس ، زمن دين بلا ثقافة ، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2012.
كاتب فلسفي
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.