حسين بازرعة ...تجسيد حلم كان – المقالة الأولى ......................... لن تحذو مقالاتي الثلاث عن مشروع "حسين بازرعة " الشعرى حذو الكثير من تلك التى ظهرت عنه أثناء حياته أو بعد رحيله ، و التى نحت منحى تأريخيا فجا ، فتعرضت لحياة الرجل بصورة سردية رصدية سطحية دون أن تتغلغل و لو يسيرا في تربة مشروعه . و لذلك لن أكون معنيا هنا بسرد معلومات كثر عن الرجل ، بقدر ما سأحاول جاهدا الحفر فى العوامل التى تضافرت لصياغة عبقريته الشعرية الفذة ، و أحاول تقييم مشروعه – و لا أقول تجربته كما ذهب البعض – واقفا عند بعض التساؤلات المشروعة و المتعلقة بتقييم هذا المشروع . كلما ولجت عوالم " حسين بازرعة " الشعرية استوقتنى ثلاثة أشياء مهمة جدا . الأولى أن بازرعة لم يكن يحلم يوما بالدخول إلى عوالم كتابة الشعر الغنائى ، بل كان يحلم بكتابة القصيدة الشعرية التقليدية المعروفة والتى كان يأمل أن يبلغ فيها شأوا عظيما ، غير أن حادثة عابرة غيرت تاريخ الرجل ، و بالتالى تأريخ الأغنية السودانية برمته . هذه الجزئية ربما تفسر كسل الرجل في التعامل مع فنانين كثر حيث انحصرت علاقته الفنية تقريبا بعثمان حسين مع أعمال قلائل لآخرين مثل التاج مصطفى و عبدالعزيز داؤود . و ربما تفسر أيضا تعلق الرجل بالقصيدة الغنائية الطويلة و عزوفه عن الأغنية القصيرة ( باستثناء اغنيتى " ذكرتنى " و " المصير " ربما ) . الشئ الثانى أن بازرعة يشكل حلقة من حلقات التلاقح الثقافى العظيم بين السودان و اليمن . و يشكل الفنان الكبير الطيب عبدالله والفنان العظيم أحمد ربشة ( ذو الجنسية الصومالية ) و الموسيقار العظيم ناجى القدسى الحلقات الثلاث الأخر . و لقد بصم هذا الرباعى بأصابعه الأربعين على الوجدان السودانى . الشئ المدهش أن أربعتهم هاجروا من السودان في فترات ما من حيواتهم . أما الشئ الثالث فهو أن بارزعة شكل تجسيدا لسودان جميل عاشه ، سودان كان يفرخ العباقرة بتلقائية شروق شموسه ، و انسياب نيله بين فخذى أرضه البكر ، سودان شكلت فيه أغنيات بازرعة / عثمان حسين مرجعية جمالية مؤثرة ، و بالتالى فإن رحيل " بازرعة" كان فاجعا رغم مرضه وتقدمه في السن ، وربما كان مرادفا في أذهان الكثيرين لموت فترات خضراء في تاريخ بلادى قد لا يجود الزمان بمثلها . ولعل مدخلى لمشروع الرجل سيكون النقطة الأخيرة هذه . ولد " حسين محمد بن سعيد بازرعة " في مدينة "سنكات" في العام 1934 . انحدرت أمه من جذور هدندوية أما جده لأبيه فقد قدم مهاجرا من "اليمن" في نهايات القرن التاسع عشر. درس " بازرعة" المرحلة الأولية في مسقط رأسه ثم هاجر إلى "بورتسودان " ليدرس المرحلة الابتدائية . و لعل عواملا ثلاثة ساهمت و منذ البداية في اذكاء جذوة ثقافة الرجل ، أولها المكتبة الضخمة التى كان يمتلكها والده في المنزل و التى نهل منها " بازرعة" نهلا . ثانيها دراسته للقرآن في سنة مبكرة مما رفده بلسان عربى مبين ( ستساهم هذه الدراسة لاحقا في تشكيل عاميته التى تلامس الفصحى كثيرا ) ، أما العامل الثالث فهو الجو المدرسى المعافى الذى عاصره الصبى الشاعر . فمثلا ذكر " بازرعة " أن معلم اللغة الانجليزية في المرحلة الابتدائية كان عازفا للكمان بجانب تمكنه من اللغة الإنجليزية . أيضا من البداية انتبه أستاذ اللغة العربية الى موهبة بازرعة فوجهه لدارسة شعر "حافظ" و "شوقى" و "المتنبئ "و" العقاد" و كتابات "طه حسين" و المعاصرين من الشعراء السودانيين مع ضرورة الإحتفاظ بملامحه الخاصة حين يكتب . هذا الملمح – الاستقلالية – مهم جديد لفهم عوالم " بازرعة "الشعرية فيما بعد حيث سلك شاعرنا طريقا فريدا وجديدا في الأغنية السودانية كما سنرى لاحقا . أما معلمه لمادة الرياضيات فلم يكن سوى الكبير " أحمد سليمان " المحامى صاحب " مشيناه خطى " . هذا الجو المعافى ثقافيا كان مشجعا للمواهب في ذلك الوقت .و لذلك عرف " بازرعة " الكتابة منذ الإبتدائية فنشر قصائده في صحيفة مدرسية كان يصدرها . قبل مغادرة محطة " بورتسودان " لابد من الوقوف عند عوامل ثلاثة أثرت كثيرا في حياة " بازرعة" الشعرية : أولها وفاة أبيه و هو لم يزل بعد صبيا يتعثر في أثوابه .هذا اليتم المبكر يعد مدخلا مهما لفهم هذا الحزن الدفيق الذى تتلفع به قصائد الرجل ( و ستضاف إليه لاحقا قصة غرامية عصفت بقلبه عصفا ) . يقول بازرعة في رائعة" بعد الصبر " : كل واحد ليهو في تاريخو ماضى أى ماضى وليهو قصة حب قديمة وإنت عارف لما إخترتك حبيبى كان في قلبى جرح يندى بى الهزيمة لكن إنت صرت أغلى حب عندى كنت راضى معاى بى ظروفى الأليمة كنت راضى بى الشقا البتبع خطاى و المآسى المرة في طفولتى اليتيمة هذه الجزئية الأخيرة تشير بوضوح إلى أن أغنية "بعد الصبر " مستوحاة من قصة حب حقيقية !! العامل الثانى هو البحر . فبفعل ميلاد " بازرعة " في سنكات ونشأته ودراسته في " بورتسودان" تولدت والبحر علاقة حب عظيمة ، فكان البحر حاضرا بقوة في كثير من قصائده ، و لعل المقطع الذى يقفز مباشرة الى ذاكرة المتلقى السودانى حين نشير إلى هذه الجزئية ورد في رائعة " قصتنا " : كل طائر مرتحل عبر البحر قاصد الأهل حملتو أشواقى الدفيقة ليك يا حبيبى لى الوطن لى ترابو لى شطآنو لى الدار الوريقة وربما تذكر أيضا قوله في رائعة " أنا و النجم و المساء " : يا ربى البحر اشهدى ها هنا كان موعدى وهنا كان مقعدى أما العامل الثالث فهو صداقة " بازرعة " المبكرة بالفنان العظيم "عبدالكريم الكابلى ". ولقد أثر كل من هذين العملاقين في حياة الآخر ثقافيا ، فكانا يلتقيان لماما ، و يناقشان ما التهماه من كتب وصحف . و لعله ثمة لغزان في حياة " بازرعة " بحاجة الى الدارسة والتقصى . أولهما عدم تغنى " الكابلى " بأية من قصائد " بازرعة " رغم صداقتهما الطويلة و رغم أن ملامح قصائد الأول تشبه كثيرا ما يبحث عنه الثانى في النصوص التى يتغنى بها عادة ، و أعنى ذاك الملمح الفصيح . أما اللغز الثانى فهو عدم تغنى أى فنان سعودى في المملكة بأى نص لبازرعة – ولو كان فصيحا - رغم صداقة الرجل الطويلة الأمد بالأمير" عبد الله الفصيل " صاحب "ثورة الشك " الشهيرة لأم كلثوم ! هل هو تواضع السودانيين أم هى قناعة " بازرعة " الراسخة أنه لم يولد أصلا ليخلد كشاعر غنائى أم ثمة عوامل أخرى ؟ .... مهدى يوسف يتبع