علة الحركة الشعبية وما أكثر علّاتها !! أنها لا تقبل النقد والمكاشفة التي ليس بعدها (محاصصة) أو (لولوة)، وهي ذاتها المنظومة التي لا تقبل النقد الداخلي من بنيها، ودونكم ما يحدث في دولة الحركة الشعبية التي أقيمت أركانها في جنوب السودان والتي تتهاوى الآن بذات سرعة صعودها، ذلك أن سياسة (إلهاء الجماهير) ك(قمعها) سيان، فما أن إرتفعت أصوات كانت خافتة من داخل مكتبها السياسي مطالبةً بإحداث إصلاحات جذرية في بنيتها السياسية والمؤسسية، إلا وطارت الرؤوس وأهدرت الدماء ليتفرّق (رفاق الأمس) أيدي سبأ. وعلة الحركة الشعبية لمن لا يعرف، أنها تريد أن تمتهن (العُهْر) علناً في عالم تساقطت عنه الحُجُب وتقاصرت بين كياناته السياسية بُعد المسافات، ما يجعلنا نقول أن ورثة الحركة الشعبية لتحرير السودان سيحصدون بعد فوات الأوان حسرةً وندماً (ولات حين مناص). أقول هذا وفي مخيّلتي ذلك المقال الوافي الضافي الذي سطره المفكر (الدكتور حيدر إبراهيم علي) بعد طول غياب وإنتظار لمثل هذه الأفكار التي تحرك ركود الحياة السياسية البائسة التي تعيشها (دولتا السودان)، هذا المقال الذي أخرج أنصار (السودان الجديد) من صمتهم ونفخ فيهم الروح من بعد موات. فمِمَنْ تريد الحركة الشعبية (الباقية) في الشمال تحرير السودان؟ أليست المفاهيم والمبادئ التي تتّخذها (الحركة الإسلامية) في حكم السودان الآن هي ذات المبادئ والأعراف التي يتواثق عليها أهل السودان المتبقي بعد إنفصال الجنوب والتي لا تخلو من قداسة شريعة الإسلام وسماحة المعتقد وكريم الموروث الثقافي السوداني؟! والمقال الذي سطّره الدكتور (حيدر إبراهيم علي) تحت عنوان (خلافات الحركة الشعبية: حرب الهامش ضد الهامش وتهافت شعار السودان الجديد) والذي كشف لا أقول عورة الحركة الشعبية – شمال، وإنما أخطائها وخلافاتها التنظيمية، هو مقال بمثابة (روشتة) لكل الأمراض التي ورثها قطاع من (تركة قرنق)، وهنا أنا لستُ بمقام تناول المقال إستعراضاً فقد ذهب به الركبان وتجاوزت آفاقاً رحبة منذ نشره على الملأ في صحف سودانايل والراكوبة (الإلكترونيتين) بتاريخ 22/6/ 2017م، ولكنني مستشهداً به ومؤيداً لكل مفردة جاءت فيه، فموت نظرية (السودان الجديد) أمرٌ علمته منذ إنفصال الجنوب، وبدلاً عن النظر إلى هذا الأمر على أنه (أزمة)، يجب أن يؤخذ كخارطة طريق وتصحيح لمسار مدرسة سياسية لها تأييد واسع النطاق في كل السودان ك(الحركة الشعبية – شمال)، وبدلاً عن التباكي والسخط الذي أُثير، كان الأحرى بأنصار الحركة الشعبية إمعان النظر وتفحص ما بين السطور ملياً.. ولكن شيئا من هذا لم يحدث!! والحقيقة أن الدكتور حيدر إبراهيم قد ساق دفوعاته بلغة غاية في الدقة والإتزان والموضوعية بعيداً عن ما أثار معقبوه من بعده، فلما لا يُقارَع الفكر بالفكر والرأي بآخر أكثر منه شمولية وعمق؟! ولماذا ينظر أهل السودان الجديد أن كل نقد وتفكيك لأفكارهم كفر بواح وتجرد من الإنسانية؟ ثم أين هو الهامش الجديد وقد تطوّر (هامش قرنق) إلى دولة كاملة السيادة؟ بربكم لا تحدثوني عن هذه البؤر المتبقية بعد (حرب الخمسين سنة)، فهي لم تنحدر بعد لتُهمَّش ولطالما بها من الموارد ما يعيش عليها بقية السودان وتُحكَم بواسطة أبنائها من كافة الأحزاب السودانية من أقصي اليمين إلى أدنى اليسار. وكفى بمقال دكتور حيدر إبراهيم تلمساً للواقع الشيء الذي جعل القائد (ياسر سعيد عرمان) ينبري للساحة (كتابةً) لتأكيد تمسكه بمبدأ (السودان الجديد) والقتال دونه إلى آخر الرمق، ومن ثم أتباع الحركة الشعبية – شمال ممن إستلوا أسنة أقلامهم دفاعاً مستميتاً وإنتصاراً لأهداف الحركة، متناولين بالتقريع والتبخيس ما كتب (الدكتور حيدر)، ومكثرين من البكاء على مثقف يرونه قد إنزلق وأوغل كثيراً في (وحل العنصرية) كما يبدو مما كتبوا ويكتبون حتى اللحظة. إنها ذات الأخطاء الفادحة التي ترتكبها حكومة جوبا في إفتراضها لقدسية الحركة الشعبية وتخوين كل مخالف لها في الرأي السياسي حتى وصل الأمر بها إلى تصنيف الدولة إلى قبائل مكرّمة، وأخرى تستوجب القتل والسحل والإسترقاق (وهذا أضعف الإيمان)..!! فأمام الحالمين بديمومة الحركة الشعبية في (الجنوب والشمال) فرصة أخذ الإتعاظ من حركات الشعوب الحرة وتوقهم إلى التحرر من قيود الذل والتبعية على أيدي دكتاتوريات سادت ثم تهاوت في أول منعطف تاريخي ورهان نضالي تشكّلت أركانه على أيدي الوطنيين الأحرار، فالتاريخ لا يرحم !! لقد نجحت مخططات الحركة الشعبية في جنوب السودان هوناً ما لطبيعة القضية لدى المواطن الجنوبي، ولا ننكر – تكابراً – أن هناك العديد من العوامل التاريخية التي تشكّلت في فترات ماضية لتعمِّق أكثر من التباعد بين الشمال والجنوب في النواحي الحضارية والإجتماعية والسياسية، أدت إلى تماسك حكومة جنوب السودان لسنتين ما إزددن يوماً واحداً قبل حلول الكارثة الراهنة. ولئن نظر قطاع الشمال إلى تهافت اليسار السوداني عليه عقب (نيفاشا) على أنه إنتصار لقضيته، فهذا هو الوهم والخسران المبين بعينه!! صحيح كان نظام المؤتمر الوطني الحاكم يمسك بقبضة من حديد على مجريات الأمور قبل التوقيع على (نيفاشا) وبروتكولاتها المختلفة، غير أن الأمور قد تختلف في الوقت الراهن، فبعد إعلان نتيجة الإستفتاء لم يعد هناك ما يجب أن يتمسك به (قطاع الشمال) أو يتباكى عليه وقد إنفصلت دولة جنوب السودان ضحى وهم ينظرون !! السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن: ما الذي أكسب الحركة الشعبية – شمال كل هذه الجماهير الغاضبة والناظرة إلى النظام الحاكم في السودان على أنه الشر المجنّح فوق أقبية الظلام؟!! ولا أجد سوى تبرير وحيد، ذلك أن الناس هنا قد ملّوا (الوجوه) أكثر منه معارضة لنظام حكم. لقد إصطفت المعارضة السودانية العريضة خلف الحركة الشعبية ك(فقه ضرورة) في وقت كانت هي نفسها – الحركة - تتواري خلف أصبعها خجلاً ولا تدري ماذا تفعل. السودان الجديد (كنظرية سياسية وكتطبيق) أرى أنه قد تحقق بإنفصال جنوب السودان، إتفق معي من إتفق ورفض من شاء أن يرفض، والسودان الجديد رغم قول البعض أن (قرنق) يريده في إطار السودان القديم، إلا أن الشواهد تثبت عكس ذلك ودونكم إنشطار السودان وإندلاع أزمة دارفور في وقت مبكّر على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. أما السودان الحالي فهو الجزء الذي يجب على (حكومته ومعارضته) إيجاد صيغة حكم يُدار بها، صيغة يتواثق عليها مواطنوه ولو عبر (مؤتمر جامع لأهل السودان) كما يقول بذلك الإمام الصادق المهدي، وليس (سودان جديد) قد تحقق على الأرض فعلاً وإن فشل. إن التمسك بخرقة (السودان الجديد) المهترئ أمرٌ نهايته التهتك والبلي وعدم صلاحية ما يتبقى بعد ذلك من السودان. فهل تريد الحركة الشعبية – التوأم السيامي – ممارسة العُهر السياسي في الهواء الطلق أم ماذا ..؟!