حقاً لا بأس إذا علمنا أن كل مقال كتبه الدكتور حيدر إبراهيم علي لطالما كان خصيبا بالقدر الذي يثير النقاش و يجعل من اختلاف الرأي والرأي الآخر متاحاً. لذا لابد من التوقف مليا إزاء ما يقوله لأننا لن نستوعب الدرس تماما إلا حين ننظر إليه بعين النقد و نضعه موضع الاعتبار. و ما نريد أن نسلط الضؤ عليه هنا هو نقد الدكتور لمشروع السودان الجديد و جدلية الهامش و المركز ونحن نقول نقد الدكتور و( من ثم لزاماً علينا أن نسلم جدلاً ببعض الأشياء التي يجب أن تتوفر في عملية النقد خاصة اذا ما أريد به نقداً تفكيكيا يراد به بناء فكرة جديدة (بديلة للفكرة موضوع النقد). تنبني على أسس أكثر متانة و قوة و أقل أخطاء) من النظرية او الفرضية القديمة . لأننا نؤمن بالتفكيكية (deconstruction) و ليس الهدمية (catabolation). فلما يكون الأمر كذلك؟ لأننا ندرك أن ثمة فرقاً بين الحقائق المطلقة و التي ترتبط بالوعي الديني و ببعض النظريات العلمية التي أخذت بعدا عقائديا و ذلك بجعل كل ما أنجز من قبل واضعيها الأوائل مسلمات يجب العمل بها (الماركسية) مثلا فهي تتعامل مع كل تحليلات ماركس كوحدة قياس لكل الأفكار الأخرى فوأجبت العمل بما قاله ماركس و ابطلت العمل بما لم يقله ماركس. و الحقائق التقنية المنتمية إلى أي نظرية يمكن استخدامها بنجاح في الاختراعات و التنبؤات المستقبلية و قياس مدى قدرتها على ذلك. و الحقيقة التقنية نفسها هي مسألة درجة، فالنظرية التي ينبع منها عدد أكبر من الاختراعات و التنبؤات المستقبلية الناجحة تكون أصدق من النظرية التي ينبع منها عدد أقل. و بالتالي ماهو مطلوب في النظرية لا ان تكون بلا أخطاء بل ان تكون أقل أخطاء. فكيف يكون ذلك؟ يحتم الواجب النقدي الموضوعي لكل نظرية ما أو فرضية ما تعيين الإيجابيات و السلبيات معا و قياس مدى قدرتها التقنية. و بالتالي المطلوب هنا هو النقد العقلاني الذي يعين مكامن الخلل و الخطأ في النظرية و ليس الرفض السلبي ناهيك عن العويل الرومانتيكي و التشاؤم فقديما قيل (أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام). و بما أننا قد سلمنا جدلاً بوجوب مبدأ التفكيك و الذي يفترض القوة الناعمة و التي حتماً ستساعدنا في عملية التركيب و البناء من جديد. فإننا نطلب أيضاً إتساق النقد و ترابطه المنطقي بحيث يكون قادرا على الثبات كبناء جديد أكثر قوة من البناء القديم و أكثر قدرة على الإستمرارية بحيث تضمن لنا حقيقتها التقنية المنتمية إليها قدرتها على التنبؤ بالمستقبل و إنجاز فروض جديدة تتسق مع الوقائع الآنية. و إذا اتفقنا على الحديث أعلاه فإننا نلحظ أن ثمة إشكالية نقدية قد وقع فيها الدكتور حيدر إبراهيم علي و غاب عنه منطق الربط الصحيح بين الأحداث و أضف إلى كل ذلك عدم تسميتة الأشياء بمسمياتها و هذا كما يقول الفلاسفة و المفكرين الذين هو واحداً منهم موجبة للوقوع في الغلط. فنجد أن الدكتور حيدر إبراهيم و في مقاله الناقد الموسوم (بتهافت نظرية الهامش و المركز و وهم السودان الجديد). قد وقع في أخطاء منهجية و فلسفية كان يستطيع تفاديها لو أنه أراد بمقاله هذا نقداً موضوعياً بعيداً عن الهتر و تصفية الحسابات. لذا لنأخذ بعض الفرضيات التي تلينا و لندع الباقي و لكن دون أن نصفها بسقط القول كما وصف هو نقد الآخرين له. أولاً عنوان المقال : و لنأخذ مثلاً كلمة تهافت و نعتبرها كلمة مفتاحية و لنتساءل ما معنى كلمة (تهافت)؟ هي تعني و بكل تأكيد التساقط الجزئي للشيئ و بالتالي فإن ثمة ما يمكن الرجوع إليه في هذا الشيئ الذي تساقطت بعض اجزاءه بكل تأكيد اي( الجزء الصالح) منه. و لكن الخطأ المنهجي ان الدكتور لم يبين لنا ماهية الصالح في جدلية الهامش و المركز او في مشروع السودان الجديد، بل أورد فقط المتساقط منهما و التي بنى عليها موقفه الناقد، لذا كان عليه ان يعنون المقال (بوهم) الهامش و المركز و مشروع السودان الجديد لأن الوهم يقتضي بكل تأكيد عدم الوجود الحقيقي للشيئ. فمثلاً هو يقول (لقد أثبت لنا صراع الحركة الشعبية أن فرضية جدل الهامش و المركز وهم كبير فنحن أمام الهامش النوباوي و هو يحارب الهامش الدينكاوي أو الجنوبي و ليس الجلابة او تحالف الهمباتة الخيالي) انتهى الإقتباس. و نحن بدورنا نعتذر قبل أن نفترض ان الدكتور حيدر إبراهيم أكثر استيهاما منا حين استوهم صراعاً بين النوبة و الدينكا و نحن نتساءل متى و أين حدث ذلك؟ ثانياً أن مفهوم الحرب منطقياً و ليس المعركة تقتضي عدة جولات و عدد من المعارك و لكننا إن بحثنا في تاريخنا الحديث عن حرباً مثل هذه بين النوبة و الدينكا او الجنوبيين فإننا لابد و ان نعود بيدا فارقة و أخرى لا شيء فيها لأننا لن نجد مثل هذه الوقائع إلا في مخيلة الدكتور. ثم نجده يقول ( التفسير الاثني و الجهوي المتجه سريعاً نحو عنصرية مضادة لا يفسر الأزمة الراهنة و لا يقدم بديلاً). بلا شك أننا لا نحتاج إلى سرديات شارحة أو نظم تفسير لكلمة (عنصرية مضادة). لكننا نتساءل و هذه من أبسط حقوقنا (كهامشيين) من أين تأتي العنصرية المضادة إن لم تكن هنالك عنصرية؟ فنحن نعلم أنه لولا نقيض المعنى لما كان للمعنى معنى. فلولا العمق لما كان السطح و لولا الخارج لما كان الداخل بكل تأكيد. و لذلك فأنت و بايرادك لمصطلح العنصرية المضادة تثبت و بلا شك أن هنالك عنصرية. و أخيراً يقول :(أسقطت خلافات الحركة الشعبية شعار السودان الجديد الجذاب و المغري بالرغم من أنه بلا مضمون أو مرجعية فكرية، فقد أثبت الواقع بعد إستلام السلطة في دولة جنوب السودان عدم وجود فرق بين شموليتهم و شمولية الإخوان المسلمين و ما يتبعها من قمع و فساد فقد قدمت الحركة الشعبية نموذجا كارثيا للسودان الجديد الموعود فسادت فيه المجاعة و الأوبئة و التطهير العرقي). قد يتساءل البعض لما كل هذا الإقتباس المطول؟ و سنجيب بأنه فعلا(ً ان شر البلية ما يضحك). لاحظ شعار السودان الجديد الجذاب و المغري و الذي يتساوى مثلاً مع جنة الشيوعية و الماركسية الموعودة (نموذج الثورة البلشفية) في روسيا و الذي قدم نموذجاً كارثيا للماركسية و شعاراتها الداعية إلى المساواة و كذلك جنة (ماو تسي تونغ) التي تحولت الي جحيم جراء الأمراض و الأوبئة و الجوع ثم المجاعة التي ضربت أكثر من نصف مليون صيني. و هذا يجعلنا نتساءل عن الدواعي التي تجعل الدكتور حيدر إبراهيم علي متمسكاً بالماركسية بالرغم من كل هذه الأشياء. فإن كان مازال متمسكاً بأمل تحقيق مبادئ الثورة التي نادت بها الماركسية و المتمثلة في إتحاد كل عمال العالم الي ان تسود ديكتاتورية (البروليتاريا)؟ فلا حرج علينا إذا نحن الهامشيين و دعاة السودان الجديد و الداعين الي العدالة الاجتماعية و دولة الحقوق والواجبات أن نتمسك بآمالنا حتى الرمق الأخير. و سوف ننتصر