لا يمكن لدولة مثل السودان - (حسب تقارير خبرات دولية في مجال الموارد (قبل انفصال الجنوب) سادس أغنى دول العالم بالموارد، ثالث أفضل بيئة زراعية، خامس احتياط نفط عالمي، المعادن لا أدري ولم أتتبع موقع السودان لكن يكفي تعدين الذهب)، خبرات بشرية مؤهلة - أن تكون بهذا الوضع المزري؟ لست منغمسا في السياسي، ولست منتميا لتيار سياسي؛ لكنني اشتغل في مسار تحليل الخطاب والسوسيولوجيا. ويهمني أمر هذا الوطن العظيم؛ واجبي كمعايش ومراقب للمشهد السوداني الذي أتقطع ألما لما أره - يفرض علي أن أقترح ما أراه مفتتحا لبدايات جادة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ دون الجزم بأن ما أطرحه يمثل الطريق الوحيد للخروج من المأزق. أولا: يجب على الحركة الإسلامية- لتصديها لإدارة السودان منذ 1989م- أن تعترف بأن تقديراتها للإطاحة بالديمقراطية الثالثة كانت خطأ استراتيجيا كلف السودان الكثير، كما وضع الحركة الإسلامية نفسها في موقع المدافع بدلا من كانت لها أسنان قوية مزقت الجمعية التأسيسية، ونجحت في الانقلاب على الديمقراطية بأقل تكاليف. ثانيا: على المؤتمر الوطني الذي ورث الحركة الإسلامية -بعيدا عن المزايدات السياسية- أن يفحص تجربته في السلطة ويقيمها بصدق وحسابات رقمية؛ ويتخلى عن تمثيل دور الضحية بالتبريرات في ما وصل إليه الحال بذريعة الحصار؛ لأن الحصار نفسه فشل في السياسة الخارجية لأي نظام حكم. ثالثا: القيام بخطوات جريئة لإشراك القوى الفاعلة حقا في البحث عن مخرج وطني وليس حزبي (أقصد إشراك الأحزاب السياسية الحقيقية، والمجموعات المسلحة، والقوى الشبابية التي يمثلها شباب مستنير يجب ألا يستخف بأمره) رابعا: التخلي عن فكرة تدشين الموارد لحماية السلطة والحزب، وتسخيرها لحماية الدولة/ الوطن؛ ولن يتم ذلك إلا بشراكة حقيقية مع القوى الفاعلة تبدأ بالتخلي عن تخوين المعارضين لسياسة النظام الحاكم و(ليس معارضة الوطن)؛ لأنني أثق بوطنية كل هذه القوى المعارضة. وهذه الوطنية - في اعتقادي - هي التي عصمت السودان من مآلات شهدتها كثير من الدول؛ لأن خيانة الأوطان سوق رائجة دمرت دولا وأنهكت أخرى. إذن على المؤتمر الوطني أن يترك التخوين ويركز على فكرة الاختلاف مع معارضيه حول قضايا حكم السودان بمد اليد البيضاء للتفكير معا وليس خلفا في البحث عن صيغة. هذه الخطوة إذا تحلى المؤتمر الوطني بالشجاعة الكافية ستمهد الطريق لحوار حقيقي مع كل القوى السياسية والمدنية حول إيقاف هذا التدحرج داخل الهاوية. لأن المطلوب هو ما قاله محمود درويش (الصعود نحو باب الهاوية). خامسا: نتيجة لتكرار فكرة الحوار وطرح مبادراتها الكثيرة من قبل النظام؛ وفشل معظمها في معالجة الأفق السياسي والاقتصادي - ستجعل الآخرين (أقصد المعارضين) يشككون في أي مبادرة ستطرحها الحكومة؛ لذلك قبل طرح الحكومة لأي مبادرة جادة عليها أن تقوم بخطوات كفيلة بثقة الآخرين في النوايا، ويتم ذلك المؤتمر الوطني دون الرجوع إلى القوى السياسية بخطوات داخل بيت سلطته؛ وهو قادر على فعل ذلك إذا أراد: أ- إجراء خطوات عملية من النظام الحاكم بالقضاء على الترهل السياسي والإداري؛ وذلك بحل جميع الأجسام الإدارية والتشريعية غير المجدية إداريا واقتصاديا؛ أي، حل جميع البرلمانات(قومية وولائية)، وحل جميع المعتمديات، وتكليف الضباط الإداريين بوصفهم موظفي دولة لإدارة هذه المعتمديات أو المحافظات بالاسم القديم. ودمج جميع الولايات التي انبثقت من الأقاليم الستة سابقا (الخمسة حاليا) وتحويل ولاتها إلى محافظين على هذه الولايات واختيار شخصيات قومية غير منتمية سياسيا لإدارة هذه الولايات في هذه المرحلة الطارئة. تقليص الوزارات بدمج معظمها في الوزارات المتعارف عليها في دائرة يجب أن لا تتجاوز (10 إلى 15) وزارات. ب- تكليف وزارة العدل بإدارة الحالة الدستورية بعد الفراغ الذي تحدثه الخطوة السابقة؛ وذلك بمنح هذه الوزارة استقلالية بأن تكوّن لجنة دستورية من خبراء القانون المهنيين المتفق حول أمانتهم وخبراتهم. ت- فتح حرية الإعلام؛ الصحافة وتحقيقاتها وتحميلها المسؤلية المهنية قضائيا وليس أمنيا، وفتح باب الإعلام المرئي والمسموع أمام خبراء ومفكرين ومثقفين وسياسيين لطرح قضايا جوهرية تعيد الأمل للمواطن والوطن قبل الدخول في مناكفات سياسية لا تحدث فارقا. ث- إجراء خطوات جريئة بتنوير جهاز الأمن بأهمية الخطوة المقبلة؛ ليقوم بإطلاق سراح كل معتقل في قضية سياسية؛ وتحويل كل معتقل في قضايا لا تسمح بإطلاق صراحه إلى ذمة القضاء الذي تتدبر أمره الشرطة. ثم منح جهاز الأمن استقلالية لملاحقة كل المفسدين الحقيقيين (وأعتقد أنه يملك الكثير من الملفات والقدرة على ملاحقتها إن أراد ذلك). ولن يحدث ذلك إلا بالدفع بالشخصيات المخلصة لهذا الوطن والعارفة لدور الأمن ووظيفته في حماية وقوة الدولة وليس الحزب، ولا أعتقد أن أمثال هؤلاء داخل جهاز الأمن نفسه بالعدد القليل. وأنا على ثقة إذا حسنت النوايا وصارت خالصة لهذا الوطن سيقوم جهاز الأمن بإحداث الفارق. فعلى جهاز الأمن أن يثق أن الناس ليسوا ضد الأمن وأجهزته؛ الناس يعترضون على استغلال النظم السياسية لأجهزة الأمن وتحويله إلى جهاز أمن سلطة بدلا من أمن دولة؛ والفرق في رأي كبير بين الحالتين. فعلى جهاز الأمن أن يترك السياسيين لتصفية خلافاتهم حول قضايا الحكم والبرامج السياسية داخلة لعبة سياسية تتكافأ فيها الفرص أمام الجميع؛ ويقف جهاز الأمن في مسافة واحدة من الجميع، وأن لا يتهاون في ما يمس الوطن وليس الحزب الحاكم. ركزت على نقطة جهاز الأمن؛ لثقتي أن خطواته في حماية الوطن من بلبلة كل المتضررين من الإجرات التي ذكرتها – هي التي ستصنع الفارق وستفتح صفحة عريضة لاسمه في تاريخ السودان. إذا قام المؤتمر الوطني بوصفه حزبا حاكما بهذه الخطوات سينفتح الباب أمام الأمل لإنقاذ السودان؛ هذا الوطن الجميل الذي يستحق منزلة تساوى حجم قدراته وخبراته البشرية وصدق إنسانه في محبته. وليعلم المؤتمر الوطني أن هذه الخطوات صعبة؛ ستكون على حساب مكاسبه الآنية؛ لكنها ستوقف دوامة الاستنزاف لإنسان هذا البلد وموارده العظيمة. د. عبدالعليم محمد إسماعيل مواطن سوداني يؤمن بأن هذا الوطن قابل للحياة الكريمة والازدهار إذا صدقت النوايا.