في تلك القرية ... الارض يابسة و الفضاء ساكن و الشوارع خالية الا من نبح كلب يبحث عن طريق يقوده الى المدينة , و عجزة تحت ظل شجرة او امام دكان يشكون ضنك الحياة و نزقها ، و هجرة الابناء نحو تلك اللعوب المدينة و جفائهم ، و الشكوى لا عزاء لها ولا سلوى الا الاستغراق في الذكريات و العودة نحو تلك الايام البيض ، حيث كانوا يستيقظون مع صياح الديك ... يصلون الفجر و يشربون الشاي و يحملون معاولهم صوب حواشاتهم ، تلك الحواشات التي لا يغادرونها حتى تطردهم قسوة شمس النهار , ينظفون الارض من الحشائش و يحرثونها و يبذرون عليها بلا ملل ... قناديل العيش الممشوقة القوام تشحذ هممهم كلما ناخت ، تكبر و تكبر معها احلامهم ,,, هاهو الحصاد قد اتي و جوالات العيش تراصت فوق بعضها ، بعضها ينتظر السوق مباعا و بعضها سيمكث في المطمورة مؤونة حتى الخريف القادم .... جيوب الناس ملأة بالاوراق النقدية و الاعراس و ختان الابناء في كل منزل و تلك الانثى اللتي لا تفارق اللداية و المرحاكة تجد عزائها في ثوب مزركش و الصبية يشقون طرقات القرية متبجحين بسراويلهم و عراريقهم الجديدة و التمر و حلوى المدينة التي ينتظروها بشوق و صبر من حصاد الى حصاد ... الذكريات جميلة لكنها مثل الخمر تذهب العقل ... اليوم الحواشات خالية لا تجد من يزرعها و بيوت الطين عبثت بها الامطار و لا تجد من يرمها و صينية العشاء لا تجد من يحملها الى الضرا و اهل الضرا لا يجدون من يحمل لهم الابريق ليغسلوا اياديهم ... الشباب في المدينة ليس لهم صلة بالقرية الا حفنة جنيهات يبعثونها على مضض الى والديهم ... ضعف والدهم و دموع والدتهم لا تحمل اقدامهم صوب القرية ... لا يكترثون بالاعياد و يئتون العزاءات على عجل ... حواشاتهم مثل النعل القديم لا يأبهون به و عاداتهم ثوب بدائي متسخ تخلصوا منه في حمامات المدينة ... لم يعد يتهللون بالاضياف ولا ينحرون الذبائح اكراما لهم كما كان ابائهم فضيفهم اليوم قد يجد بعض الماء الفاتر كاصحابه في كوب صدئ ... في المدينة يمتهنون الهامش و يسكنون الاطراف التي معماريا لا يميزها شيء عن قريتهم سوى الضيق و خطوط الماء و الكهرباء و بعض الطرق المعبدة ولا تجد لهم عمل الا باعة ماء او كماسرة . أهل القرى اليوم تمدنت أخلاقهم و أفكارهم و سلوكياتهم و لكن لم تتمدن بيئتهم و واقع معاشهم ... صارت القرى اليوم مسخاً قبيحا تائها يعرج هربا من القروية و لاهثا خلف تلك الشقية البعيدة التي يسمونها المدينة . أهل القرى الذين كانوا يجاهدون النعاس حتى يصلوا العشاء بعد يوم عمل شاق في الحواشات او السرحة بالابقار أصبحوا يتسمرون امام التلفاز حتى الثلث الثالث من الليل ولا يفسد عليهم سباتهم إلا شمس النهار اللاذعة . فلا غرو ولا عجب أن القرى لم تعد تلك القرى التي كانت تمد بلادنا بالعباقرة و النوابغ في الطب و الهندسة و الادب و السياسة ولا عجب أن ذلك الفلاح الذي كان يوفر قوت عائلته و يساهم في أمننا الغذائي بمقدار لا بأس به أصبح بائع سلع تافهة في جنبات الأسواق يصم أذنيك بصراخه ( كل شيء بخمسة ) . عبدالغفار عبادي