بعد أكثر من أسبوع على حدوث الكارثة , أنزلت الإنقاذ مجاهديها فى شوارع الخرطوم. أنزلتهم فى سلسلة من مواكب العربات الحكومية , لإصطناع حملة كاذبة لإغاثة ضحايا السيول والفيضان. أنزلت أخوات نسيبة ب(لبس خمسة) , بزيهم العسكرى الذى (يرهبون به عدوا الله وعدوهم). ذلك الزي الذى يعرفه الكثيرون من ضحاياه من مواطني أصقاع السودان المختلفة , ويُخبره جيدا أطفال الكهوف فى جبال النوبة , وقاطني خيام اللجوء فى دارفور والنيل الأزرق. ولكن , وهذا يقين الجميع , إن الإنقاذ لم تحشد هؤلاء المجاهدين وتأتي بهم من إجل إسعاف ضحايا السيول والفيضانات , فالمواطن المسكين ليس له مكان أصلا فى سلم أولويات الحكومة لتسأل عنه أو تهتم به. ولا يمكن لمن أدمن قتل المواطن بيده اليمنى أن يأتي اليوم ليسعف نفس المواطن بيده اليسرى , ولا ينبغى له. الإنقاذ حشدت وأنزلت مجاهديها بلباسهم العسكرى فى شوارع الخرطوم، لأنها أحست بأنها أصبحت فى خطر حقيقي. بل لأن الخوف والرعب قد ملآها حتى النخاع، ليس فقط من إنتظام هذه المجموعة الصغيرة من الشباب السوداني الذين إجتمعوا وقرروا مساعدة أهلهم فى كارثة السيول والفيضانات، بل بالطريقة التى تواصلوا بها، وبالسرعة التى نظموا بها أنفسهم وقادوا بها حملتهم. والذى هزها هزاً وزلزل كيانها، هو أن ترى هذه المجموعة الصغيرة المنظمة، وقد إلتف الجميع من حولها، قد أصبحت أسرع من كرة الثلج فى تدحرجها وزيادة حجمها. لقد أصبحت نفير، بين ليلة وضحاها، قبلة أهل السودان قاطبة وملتقى أفئدتهم. أحبها الشعب بكل كياناته وفصائله وفئاته، ورأى فيها الأمل الذى فقده طويلاً والمستقبل الذى يئس من حدوثه. فكانت هذه الإستجابة السريعة المذهلة، وهذا الإلتفاف الهائل والدعم الكبير والمتواصل فى الداخل والخارج. فنفير، وإن جاءت ظاهرياً من أجل إسعاف ودعم ضحايا السيول والفيضان، ولكنها، ومن حيث لا تدرى، قد أتت أيضا لتغيير حالة اليأس والإحباط الذان طغيا على الشعب السودانى طويلاً. أما حكومة القتلة التى ظنت أنها قد أمًنت وحصًنت نفسها تماما, وإحتاطت بالكامل لكل هبة أو صرخة آتية من الشعب , قد أُسقط اليوم فى يدها تماما , وأنهارت كل حساباتها. وبدلا من أن تُظهر القليل من الخجل لتقاعسها وتلكؤها وفشلها فى درء المخاطر عن شعبها, وتبدأ فى التفاعل مع مأساة هذا الشعب بما يتناسب وحجم ونوع هذه المأساة , لجأت إلى اللغة الوحيدة التى تتقنها , لغة التهديد والترويع والإرهاب. وحتى وإن ذهبت الإنقاذ ومجاهديها لأكثر من هذا , ولجأوا إلى الفعل الوحيد الذى يجيدونه فى حق الشعب السودانى , القتل وسفك الدماء , فما عاد حتى هذا يجدى فتيلا , فمن فقد أمنه وسلامه , وجلس فى العراء وهو يرى ابنائه أمام عينيه يرتجفون بردا , ويرتعدون خوفا , ويتضورون جوعا , لن يخاف أو يكترث البته .. وإن أتته جحافل الأنس والجن تطلب روحه. [email protected]