أرسلت السماء قطرات الحياة فلم تطق أرضُ السودان الاحتمال، لم يدر بخلد أحد ربما أن يتحوّل هطول أمطار وبعض سيول إلى «كارثة» عنوانها الأبرز ذوبان آلاف المنازل وعشرات الأرواح صعدت إلى بارئها والحكومة متفرّجٌ لم يكلّف نفسه حتى عبء محاولة لعب دور في ملعبٍ تقول أبجديات السياسة والمسؤولية مجتمعتين إنّها قائده. انتظر المتأثرون طويلاً ولم تصلهم مساعدات من حكومتهم إذ تركتهم كما يقولون لقمة سائغة للعراء الموحش ببطون فارغة يفتقدون العلاج، المتوفّر الوحيد في هذا المشهد المأزوم كانت جيوش البعوض والذباب ما ينمي المخاوف من تفشي الأوبئة والأمراض القاتلة لاسيّما في ظل اعتماد الكثيرين على ما يروون على مياه الأمطار مصدراً للشرب في ظل العجز الرسمي عن توفير أبسط مقومات الحياة. عون شعبي ومن رحم العجز الرسمي خرج العونُ الشعبي بقيادة حركة «نفير» ليقول «أنا هنا»: آوت المشرّدين وأطعمت الجائعين وكست العراة على الرغم من أنّها لا تملك غير مقرّ متواضع ووسائل تحرّك شبه معدومة لكنها بالمقابل تملك الإرادة والإيمان بشعب افتقد المغيث والرغبة في فعل شيء في مشهد غاب عن مسرحه كل مسؤول. نزل المطرُ وغرق الناسُ بما يملكون ولا أثر كما يرى مراقبون لحراك حكومي يطوّق الأزمة ويعين منكوبين فراشهم الأرض ولحافهم السماء، إلّا من هرولة تتبعها الكاميرات إلى المطار تستقبل ما عجزت عن تقديم بعضه، مساعداتٌ طائرة مصدرها قطر ومصر واليابان وعديد دول هي من تحتاج المعين والمساعد بمعطيات المنطق وحقائق الاقتصاد. من أتى من المسؤولين كما يفيد شهود عيان لم يقدّم شيئاً بل لم يترجّل على الأقل من على ظهر سيارته الفارهة المظلّلة مقوّضاً مقولة: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» التي أصبح مكانها الأنسب بطون الكتب وحجرات الدراسة وكراسات الإجابة أوان الامتحان. نيران الألسنة وبين الكارثة ونهج التعامل فتح منتقدون نيران ألسنتهم على السلطات التي أصابتها متلازمة «نظرية المؤامرة» حتى تجاه العمل الخيري والإنساني، إذ لا تستطيع تصوّر أنه يوجد من يريد تقديم مساعدات رغبة في الخير فلجأت إلى تسييس كل توجّه نحو المساعدة فلا هي أغاثت ولا تركت الآخرين فلاحقتهم بالاتهامات فحملة «نفير» واجهة للحزب الشيوعي. أبت المياه برأي كثيرين إلّا أنّ تفضح حال حكومة صدعت الرؤوس بما تسميه «المشروع الحضاري» والتنمية الشاملة التي أنجزتها خلال عمرها المديد في الجلوس على كراسي السلطة، إذ تبرّج واقع الحال أمام الكل: بيوت مهدّمة لفظت المياه محتوياتها، وشوارع عائمة يستلزم عبورها مراكب ومجاديف ومنكوبين يطوّقهم عراءٌ لا يرحم. أطلال الفيضانات أضحى حال مشردي السيول والأمطار في السودان حال شعراء الجاهلية، وقوف على الأطلال يبكون داراً كانت حتى الأمس القريب تؤوي الأحبة وتختزن النوادر والذكريات. ولعل ما يبعث على القلق قول زرقاء يمامة الإرصاد الجوي في السودان إنّ «القادم أسوأ» وإنّ تزايد هطول الأمطار من شأنه زيادة مناسيب النيل ووصولها لمستويات قياسية لم تصلها في عام الكارثة 1988، أمرٌ إن حدث زاد الحكومة السودانية حيرة وارتباكاً وعجزاً والسكان تشرّداً وهياماً على الوجه دون مقصد.