سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حقّ تقرير المصير.. الإسلامويون الأكثر جديةً في انفصال جنوب السودان عن شماله، والأكثر إثارةً في انفصال غربه في دارفور، ليحصد شعبه ووحدته حنظلاً من زرع السياسات الإسلاموية في قيادته.
حقّ تقرير المصير، عبارة شائعة في العالم العربي في هذه الفترة من تاريخه التي يزداد فيها ضعفاً يوماً بعد يوم، وذلك من أقصى مشرقه حتى أقصى مغربه، فبينما تتجه المناطق القويّة في العالم للاتحاد والتجمّع، تتّجه المناطق الضعيفة للتفرق والتشرذم، وهو تماماً ما يجري في العالم العربي اليوم. إنّ التجمّع والاتحاد في العالم يجري بين دولٍ كاملة السيادة، ثابتة النظام، مستقرة التنمية، طامحةٍ للأفضل، وتعلم علم اليقين بأنّ اتحادها وتجمّعها يزيد من مصالحها ومكاسبها، أمّا التفرّق والتشرذم، فهو ليس بحاجة لأكثر من القناعة بالقائم والحرص على المحافظة عليه بغرض التفرّغ لحالة التشرذم وإدارة الصراعات الصغيرة هنا وهناك. "حق تقرير المصير" مبدأ إنساني تتنازعه عدة عوامل ومتغيرات، ينجح حيناً ويخفق أحياناً، وهو بما يحمله من رغبات الانفصال والاستقلال لا يلامس الرغبة في الحرية والاستقلال، إلا بقدر ما يلامس التشرذم والتشتت، واللافت للانتباه هنا هو أنّه في هذه المرحلة من التاريخ يجد هذا الحق فرصاً ذهبيةً في العالم العربي لا يجد مدّها ولا نصيفها في غيره. فلندع الدول المستقرّة كأوروبا ونحوها، ولننظر للعالم العربي مع غيره. في العالم العربي، يطالب الأكراد بحق تقرير المصير في العراق، كما صرّح بذلك الزعيم الكردي مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان ورئيس الحزب "الديمقراطي الكردستاني" الأسبوع الماضي، ويطالب جنوب السودان بحق تقرير المصير وهو مطلب كان ضعيفاً في السابق، لكنّ سياسات الإسلامويين في الحكم منحته القوّة المطلوبة والدعم الدولي، ورافق هذا غفلة مصر عن مصالحها ومعها بعض الدول العربية، التي سيؤثر انفصال الجنوب عليها دون شكٍ، كذلك، يطالب الصحراويون المغاربة بحق تقرير المصير والانفصال عن المغرب. بالمقابل، وللمقارنة مع ما يجري في مواقف أخرى في العالم فإننا نجد أنّ حق تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين شبه ملغى لظروفٍ عدةٍ أهمها أن الفلسطينيين أدخلوا أنفسهم في نفق مظلم وأن إسرائيل قوية، وحق تقرير المصير ملغى في التبت لأن الصين قوية، وحق تقرير المصير في كشمير ملغى لأن الهند قوية، وحق تقرير المصير في إقليم الإسكندرون ملغى لأن تركيا قوية. أمر جيد أن ترسّخ الدول العربية مفهوم المواطنة، وتركّز على التنمية، وتعتني بالاستقرار، ولكن من السيئ أن تنسى عمقها الاستراتيجي، ومصالحها خارج الحدود، وأن تبقى مكتوفة الأيدي وهي تنتهب من أطرافها، خاصةً إذا استحضرنا أن هذا العمق الاستراتيجي هو محل نزاعٍ مع قوى أخرى في المنطقة، وأن هذه المصالح تتقاطع وتتعارض مع مصالح قوىً إقليمية لها وزنها. هذا حديث السياسة، فأما حديث الأخلاق والعدالة فأمر آخر تتداخل فيه العديد من المتغيرات التاريخية والديموغرافية والثقافية ونحوها، فحق تقرير المصير مبدأ نشأ أوروبياً وتطوّرت صيغ التعبير عنه ودلالاتها في السياق الأوروبي والغربي عامةً، وتمّ تداوله باعتبار الأمم تارةً وباعتبار الشعوب أخرى، وتدخلت في صياغته وتحريره وكيفية تطبيقاته مصالح الدول الكبرى، وتمّ بذل جهودٍ كبيرةٍ في سبيل ضبط هذا الحقّ وتعريفه قانونياً وحقوقياً وسياسياً، وكغيره من الحقوق العائمة، فإنّ المؤثر الأكبر في الموقف منه في هذا المكان أو ذاك، هو القوّة التي تدعمه أو تلك التي تقف ضدّه، محلياً وإقليمياً ودولياً. عوداً على بدءٍ، فالأكراد كأمةٍ مشتتون بين دولٍ عدةٍ فهم موجودون بكثافة في تركيا والعراق، وبدرجة أقل في إيران وسوريا، ولتأكيد ما أشير له أعلاه فإننا نجد أنّ نشاط الأكراد مقموع في تركيا وإيران، وقوي جداً في العراق، نظراً للأوضاع السياسية الداخلية والخارجية وعوامل القوة والضعف المتفاوتة بين تلك البلدان، واللافت للنظر هو أنّ العائق الأكبر لانفصال الأكراد في العراق لا يأتي من العراق، ولا العالم العربي بل من تركيا وإيران تحديداً. إضافةً لما سبق، نجد مطالبات ملحّةٍ في اليمن بانفصال الجنوب عن الشمال، ونقض الوحدة أنكاثاً، والعودة لما كان عليه الوضع قبل 22 مايو 1990. هذه المطالبات، وإنْ كانت لم تأخذ بعداً شكلياً جدياً خطيراً، غير أنّها تعبّر عن قرعٍ قويٍ لأجراس الخطر الانفصالي، وهي وإنْ لم يكن له أثر كبير سياسياً –على الأقلّ حتى الآن- فإن مجرد طرحها والتصريح بها، ووجود حالة استرخاء وتقبّلٍ شعبيٍ لها في جنوب اليمن أمر جدير بالعناية والرصد قبل تدهور الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه. الفساد المحلي، والأثرة السياسية والاقتصادية، وسوء الإدارة والتخطيط، وتراجع التنمية هذه كلّها أسباب مهمة تمثّل البيئة المناسبة لتطوّر هكذا مطالباتٍ، ولا يصحّ هذا في اليمن إلا بقدر ما يصحّ في السودان، وهو في العراق أكثر صحةً، وبالتأكيد فثمة عوامل خارجية وتدخلات دولية إقليمياً وعالمياً، تدفع باتجاه هذه الخيارات أو تدعم عكسها، والعاجز هو من يقف مكتوف الأيدي ولا يستطيع إصلاح الأوضاع وإعادة ترتيب المشهد، سواءً في داخل هذه الدول المهددة بالانفصال أم لدى الدول العربية ذات العلاقة والمصالح التي تهددها مثل هذه المطالبات والدعوات. في لبنان، يبدو الأمر أكثر سوءاً، فهناك حزب يزعم لنفسه قدسيةً تامةً، ويمتلك قوةً عسكرية ضاربةً، ولديه تحالف إقليمي معلن مع إيران، وهو لا يطالب بحق تقرير المصير ولكنّه يهدّد بالأسوأ، اختطاف لبنان كاملاً، وتنفيذ انقلابٍ عسكري، كما صرّح بهذا متخوفاً البطريرك الماروني نصر الله صفير السبت الماضي حين قال: "لا أستبعد وقوع انقلاب ينفّذه حزب الله"، غير أنّ المفارقة هي أنّ "حزب الله" قوي فعلاً ما دام يهدد ويتوعّد بالانقلاب والحرب الأهلية والفتنة، ولكنّه حين ينفّذ تهديداته ويتحكّم في لبنان كاملاً سيصبح ضعيفاً جداً، أمام الداخل اللبناني وتحالفاته الهشة سياسياً، وحساسياته المفرطة طائفياً، وأمام العالم أجمع، وسيؤدي عمل متهوّر من هذا النوع للقضاء على الحزب قضاءً مبرماً، وكتابة شهادة وفاته. في السودان مفارقة أكبر، فهذا البلد الذي قفز الإسلامويون لقيادته بانقلاب عسكري في 1989، وهم المطالبون باستعادة الخلافة الإسلامية وتوحيد العالم الإسلامي حسب أدبياتهم المعروفة، نجده اليوم هو الأكثر جديةً في انفصال جنوبه عن شماله، والأكثر إثارةً في انفصال غربه في دارفور، ليحصد شعبه ووحدته حنظلاً من زرع السياسات الإسلاموية في قيادته. كل المطالبات بحقّ تقرير المصير أو دعوات الانفصال في العالم العربي تجد في الاضطراب وعدم الاستقرار والفساد الداخلي عموداً فقرياً لتعزيز مطالبها، كما تجد في تعارض المصالح الإقليمية والدولية دعماً لها وتأييداً لموقفها، وما لم يُعد العرب ترتيب بيتهم الداخلي عبر مؤسستهم الهرمة "الجامعة العربية" أو عبر طرقٍ أخرى تضمن مصالحهم وتحمي كياناتهم فإن الأسوأ لم يأت بعد، والمثل يقول: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"! عبدالله بن بجاد العتيبي