من حق الناس أن يعترضوا لكن ليس من حقهم أن يحرقوا، ومن حق السلطة أن تدافع عن قراراتها لكن ليس من حقها أن تقمع الناس وأن تعتقلهم وأن تقتلهم عرفت السودان كثيرا من الانتفاضات ضد أنظمة الحكم التي توالت عليها خلفا للاحتلال البريطاني المباشر خلال العقود الستة الماضية ولعل ما حدث منتصف الستينيات من القرن الماضي مثل ثورة شعبية كاملة الأركان ضد الحكم العسكري للجنرال عبود آنذاك، وإن كانت معظم الانتفاضات بعد ذلك مرهونة بارتفاع الأسعار لاسيما المحروقات كما يحدث الآن حيث انتفض السودانيون في العاصمة خلال الأيام الماضية بعد إعلان الحكومة عن رفع أسعار المحروقات في ظل سياسة رفع الدعم والقيام بإصلاحات اقتصادية في ظل ارتفاع التضخم وتدني سعر العملة الذي أعقب انفصال الجنوب عن الشمال في العام 2011، ورغم أن السودان شهد تظاهرات مشابهة في شهري يونيو ويوليو من العام 2011 فرقتها قوات الأمن إلا أن التظاهرات هذه المرة اتسمت بالعنف وسقوط عشرات الضحايا الذين قدروا من قبل الحكومة بتسعة وعشرين ومن قبل المعارضة بأكثر من مائة وأربعين قتيلا نظام الحكم العسكري الذي يقوده الجنرال البشير مثل كل أنظمة الحكم العسكرية يضيق ذرعا بالمعارضة والرأي الآخر واتسمت فترة حكمه بقمع المعارضين لنظامه وأبرزهم شركاؤه في الثورة وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي، الذي لا يخرج من السجن حتى يعود إليه، ولعل أسوأ ما سيوصم به حكم البشير على مدار التاريخ أنه النظام الذي انقسمت السودان في عهده بعدما محاولات استمرت أكثر من خمسين عاما لفصل الشمال عن الجنوب رغم السنوات الست التي سبقت الانفصال والتي عجز البشير خلالها عن إقناع الجنوبيين بالبقاء ضمن سودان موحد وحتى لو كانت المؤامرة كبيرة إلا أن أسلوب إدارة الملف من قبل البشير وحكوماته اتسمت بالعجز والفشل مما أدي إلى انفصال جنوب السودان الغني بالنفط والثروة عن الشمال المهدد بالانقسام إلى ثلاثة أجزاء في ظل العجز القائم من البشير في إدارة الدولة. أما المعارضة فإنها لا تقل سوءا عن النظام الحاكم ولو وكلت لها الأمور لما فعلت أكثر مما يفعله البشير، فحظ الشعوب العربية أنها منكوبة في حكامها وفي معارضتها أيضا، وكأنما الخلاص لن يأتي إلا من جيل جديد يفرزه الحراك القائم في السودان وفي كثير من الدول العربية الأخرى، فكم من أجيال عاشت وهي تحلم بالكرامة والانسانية والعيش الكريم وماتت وهي لم تر شيئا سوى الفقر والمرض والذل والهوان، لأن الذين يحكمون ليسوا أحرارا وإنما يتسمون بالتبعية و الذين يعارضون يتسمون بانعدام الرؤية، فالمعارضة في السودان الآن تتبني نهج "إسقاط النظام" من خلال ثورة شعبية كما قال كمال عمر الأمين العام السياسي لحزب المؤتمر الشعبي المعارض، وكذلك قال زعماء آخرون في أحزاب معارضة أخرى، وهذا ما يطالب به هؤلاء ويسعون إليه منذ انفراد الجنرال البشير بالسلطة ، لكن هل يملك هؤلاء المقومات التي يستطيعون من خلالها إسقاط النظام؟ الخطأ الأكبر الذي تقع فيه الشعوب حينما تنتفض هو قيامها بالحرق لممتلكاتها العامة أو الأملاك الخاصة، ولا أعتقد أن مواطنا مخلصا يمكن أن يرتكب مثل هذه الحماقات لاسيما في الدول الفقيرة التي تعاني مثل السودان، فمن حق الناس أن يعترضوا لكن ليس من حقهم أن يحرقوا، ومن حق السلطة أن تدافع عن قراراتها لكن ليس من حقها أن تقمع الناس وأن تعتقلهم وأن تقتلهم لأن هذه كلها جرائم ضد الانسانية لا تسقط بالتقادم . إن نجاح النظام في السودان في قمع التظاهرات لا يعني نجاحه في إدارة الدولة لاسيما في ظل تفشي الفساد وانتشار الظلم وإذا كان البشير يريد أن يبقي فعليه أن يقوم بإصلاحات في إدارة الدولة وليس في زيادة أعباء الفقراء، وإلا فإن الثورة قادمة لا محالة مهما كان القمع ومهما كان الاستبداد. الشبيبة