تسعة أشهر وواحد وعشرون يوماً مرت على النص الذي حملته صحف الخرطوم ووكالات الأنباء: (ورحل الغمام). ففي صباح موشح بالحزن استقبلت الخرطوم النبأ القادم من عمان أن محمود عبد العزيز قد مات. ذرفت دمعها الذي سال على مقل الجميع دون أن ينجح في إطفاء لهيب حرقتها على صوت المغني. الصوت يطاردك والصورة معاً، فالخرطوم ما زالت تعيد شريط أحزانها وإن ارتدت ثيابا جديدة. كل مشاهد الخرطوم ترسم محمودها، هكذا هي الصورة، وأحدهم يهتف أن "الحوت يطاردني". الأموات تقتلهم الخيبة حين لا أحد يتذكرهم بدعاء أو صدقة، يمكنك أن "تباري" الطرق التي كان يسلكها محمود لتعرف أي حب يحتفظ به السودانيون للشاب، أحدهم يحكي أنهم في صباح باكر يتجهون إلى جامعاتهم مستقلين عربة هايس، في أحد التقاطعات تعترضهم صافرة شرطي المرور، الرخصة موجودة والترخيص كذلك، التأمين وخط السير ومطفأة الحريق، إذن كل الأشياء في مكانها، لم يجد الرجل ما اعتبره تجاوزاً سوى أن العربة لا يدور فيها صوت الحوت.. ضحك الجميع وواصلوا رحلتهم إلى قلب السوق العربي وقلب الخرطوم. في نقطة أخرى هناك في فيافي المدينة، الشاب العشريني وعلى ظهر عربته (الكارو) يخرج صوت الشاب متوائماً مع الصورة في الخلفية، يغني (يا مدهشة). ذات الدهشة ترافقك في محطات المدينة الأخرى، خطوط المواصلات، الكافتريات في قلب الأسواق، حين يصمت ذلك المنادي على المشترين فإن المساحات لن يملأها غير صوت محمود الشاب، يأتيك في كل الأوقات، يأتيك حديث أحلام المدن، هي الحافلات وكل أنواع السيارات "يخطئ من يعتقد أننا عندما ندخل مدناً جديدة نترك ذاكرتنا في المطار. كل حيث يذهب، يقصد مدينة محملاً بأخرى". محملاً بمحمود تذهب إلى غرفتك إن لم يأتك الصوت عبر أحد هواتف من يقاسمونك السكن؛ يأتيك عبر جهاز الكمبيوتر بالولوج إلى اليوتيوب، تأتيك الصورة بصوتها ومعها (أم الحواتة السيدة فائزة) في حفلة عقد الجلاد وهي تشبك يديها علامة الحواتة، ويخرج الصوت (الكنت قايل فات زمان رجعتو بي طعم الغنا)، وطعم الحوت كصوته لا يغادر شوارع البلد التي "سابها" منذ السابع عشر من يناير اليوم التالي