علاقة البلدين مشوبة بتوتر يبدو أن أمده سيطول .. حتى على مستوى العلاقات الإنسانية ستظل توترات الانفصال قائمة إلى حين إعلاء قيمة تقبل الآخر وتقبل الوضع القائم بكل علاته. وفي هذا الإطار تأتي تصريحات السيد برنابا بنجامين الأخيرة التي مفادها أن "البشير لا زال يتعامل كما لو أنه لا زال رئيس الدولتين" فلو كان هذا الشعور صادقاً فهي داهية تعكس روح الاستعلاء والرغبة في السيادة وإن كان خاطئاً فهي أدهى وأمر إذ أنها دلالة على رواسب ومرارات تاريخية كامنة. هذا الشعور يستبطن قدراً هائلاً من التوتر الذي لن تنجح الابتسامات الدبلوماسية في إخفاءه وهو ما يدفعنا لتصور وجود مبرر موضوعي للقلق من توفر عناصر ودواعي الحرب القادمة ما بين البلدين لا قدر الله. الحروب السابقة بين شطري البلد الواحد والتي أفرزت مليوني قتيل وحوالي أربعة ملايين نازح وخسائر مادية تجاوزت عشرين مليار دولار أمريكي اعتمدت أسلوب حرب العصابات والكر والفر ومن ثم في مرحلة لاحقة وبعد أن أشتد ساعد الحركة الشعبية تحولت لحرب مدن طالت حتى الكرمك وقيسان في شرق السودان وفي كل وقت كان ميزان القوة يميل إلى صالح الجيش الحكومي المحترف المدعوم بالطيران والدبابات والمصفحات. الوضع الراهن مختلف جداً إذ أنها ستكون بين دولتين كاملتي السيادة لكل منهما جيش نظامي محترف تضم ترسانته العسكرية المضادات الأرضية والمدرعات والطيران وبالتالي ستكون مدن التماس مسرحاً للتهجير والخراب والقتل وفي مرحلة لاحقة قد تنتقل الحرب إلى عمق البلدين وتستهدف البني التحتية والمنشآت الاقتصادية فضلاً عن أنها ستتجاوز الأرقام التي أسفرت عنها الحرب الأهلية من حيث القتلى والنزوح والتدمير. وهذه نتائج كارثية بكل المقاييس لكلا البلدين. عناصر التوتر التي قد تقود للمواجهة المباشرة بين البلدين نلخصها في ما يلي: 1. يعاني كلا البلدين من حروب أهلية داخلية تهدد نسيجهما الاجتماعي وتماسكهما السياسي وقد تكون كابحاً لكل منهما من استهداف الآخر مباشرة ولكنها قد تكون أيضاً الشرارة التي تشعل أوار الحرب. يدعي كلا الطرفين أن حربه الأهلية الداخلية من صنع ودعم الآخر وقد يتطور هذا الموقف في ظل معطيات الاستقطاب الدولي والإقليمي والضغوط الداخلية إلى حرب مقدسة ترفع المصاحف والأناجيل على رؤوس الرماح . فمن جهة ستكون مسعى نحو تأكيد الشرعية على المستوى الداخلي وإلهاء للشعب عن التفكير في الأوضاع المتردية من خلال خلق عدو وهمي يستهدف سيادة الوطن وعقيدته ومن ناحية أخرى ستكون مسعى لتحقيق مكاسب على الأرض لفرض الهيمنة على كامل التراب الوطني وكسر شوكة التمرد المسلح وهذا الحال ينطبق على البلدين. 2. آبيي هي القنبلة الموقوتة التي تنتظر الانفجار في أي لحظة. الشمال لن يتنازل عنها لاعتبارات اقتصادية قبل أن تكون إستراتيجية أو اثنية والجنوب ينظر إليها كحق أزلي لا يمكن التخلي عنه. يستخدم كلا الطرفين قبائل التماس كمخلب القط لإجبار الطرف الآخر على تقديم التنازلات وبين الفينة والأخرى يطلق كلا الطرفين بالونات الاختبار التي تستهدف ترسيخ أحقيته في المنطقة وتهيئة المجتمع الدولي والمحلي للقبول بهذا الحق وآخر هذه البالونات كان الاستفتاء أحادي الجانب من قبل دينكا نقوك. إذا لم يعالج موضوع آبيي بالحكمة المطلوبة فسيكون فتيل التفجير لحرب لا تبقي ولا تذر. 3. يبلغ طول الحديد بين البلدين 2010 كيلومتراً وهي مسافة طويلة بكل المقاييس الجغرافية. هذه الحدود تسكنها عشرات من قائل التماس التي نشأت بينها في السابق علاقات تاريخية راسخة. من جنوب دارفور وكردفان وحتى جنوب النيل الأزرق تتداخل هذه القبائل وتتاجر وتتصاهر وتمارس عيشها بأريحية ولكن بعد ترسيم الحدود ووضع الحواجز القانونية سيكون من الصعب إن لم يكن مستحيلاً التحكم في هذه الحدود. بالطبع أهم هذه التداخلات هي العلاقة التاريخية ما بين البقارة (الرزيقات- المسيرية) والدينكا. عبر التاريخ درج البقارة على النشوق من بحر العرب حتى الفاشر متتبعين الأمطار والمووطاة حتى ضفاف بحر العرب بحثاً عن الكلأ والماء من أبريل وحتى يونيو من كل عام. كيف ستتعامل حكومة السودان الجنوبي مع هذه الرحلات السنوية فالأبقار لا تعرف الحدود الجغرافية ولن يقف البقارة مكتوفي الأيدي يشاهدون ماشيتهم تنفق من الجوع والعطش. في الفترة الماضية شابت علاقات قبائل التماس التوترات وما الذي فعله فرسان المراحيل بالضعين في 1987 ببعيد ولا الذي اقترفته أيدي جنود الجيش الشعبي مستهل التسعينات بغائب عن الأذهان. هذه التوترات حقيقة من صنع ساسة الدولتين الذين سعى كل منهما لاستخدام القبائل المنتمية له في حربه مع الآخر . الغريب في الأمر أن قبائل التماس لم يكن لها دور في صناعة اتفاقية نيفاشا مثلها مثل باقي الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني حيث حرص أولي الأمر من الطرفين على تغييبهم واستخدامهم لاحقاً كأوراق ضغط. بدون وضع اتفاق واضح لتوزيع المراعي وتوظيف جزءاً من عائدات النفط بالمنطقة لتطويرها وتفعيل بوروتكول آبيي وتفعيل دور الإدارة الأهلية في حل الخلافات القبلية إضافة إلى رفع السياسيين أيديهم عن المنطقة والكف عن تسليح الطرفين لن يكون هنالك استقرار بالمنطقة وستكون قابلة للانفجار في أية لحظة. بذل الأكاديميون السودانيين خصوصاً من أبناء قبائل التماس جهداً مقدراً في صدد اقتراح الحلول الناجعة لهذه المشكلة ويجب عدم إهمال توصياتهم ووضعها في الاعتبار مستقبلاً. 4. التصريحات غير المسئولة والعنترية لبعض المسئولين .. والأعمال العدائية غير المبررة قد تشكل سبباً آخر للحرب. ولقد كاد دخول قوات الجنوب إلى هجليج في أبريل 2012 أن يقود لوضع كارثي وعلى الرغم من أنها كانت بالونة اختبار أخرى من دولة الجنوب وعلى الرغم من إدارك الشمال لهذه الحقيقة فلقد حشد لها على اعتبار أنها بداية الحرب المقدسة الثانية ولولا تراجع جيش الجنوب لحدث ما لا تحمد عقباه للطرفين. 5. نهر النيل قد يشكل إحدى عناصر الضغط الذي قد يمارسه الجنوب على الشمال نظير ممارسة الشمال الضغط على الجنوب لافتقاره لمنفذ بحري . نهر النيل شريان الحياة للشمال (وكذلك مصر التي يجب ألا نغفل دورها في الصراع على استقطاب الطرفين) والمنفذ البحري عصب الحياة والتنمية لدولة جنوب السودان وأي تهديد لأي من هذين المكونين الاستراتيجيين سيعني نذر الحرب. ربما سيرى البعض أن هنالك أسباباً أخرى كامنة قد تفجر الوضع. لكننا نرى أن تجنب الحرب ممكن والتعايش السلمي بين الدولتين أمر لازم وحتمي. ترسيم الحدود المرنة ما بين الدولتين وتيسير حركة الناس والبضائع ونزع السلاح بمناطق التماس والاتفاق على آبيي والمشكلات النفطية المعلقة وتفعيل الحريات الأربعة (التنقل والتملك والعمل والإقامة) والاحترام المتبادل لسيادة الدولتين ستكون بعض عناصر نزع فتيل المواجهة المحتملة. وهنا يجب ألا نغفل دور القوى الشعبية الشمالية من أحزاب وقوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني في بناء جسور الثقة ما بين الشعبين وما بين الدولتين مستقبلاً بعد زوال دولة الأخوان المسلمين. [email protected]