ارتبط الصراع بمنطقة أبيي بالصراع التاريخي بين قبائل المسيرية وقبائل الدينكا نقوك حول الماء والكلأ والصراع بين المزارعين والرعاة. كان للإدارة الأهلية دورها الكبير والحاسم في معالجة تلك الصراعات القبلية التي كانت تحدث بالمنطقة من حين لآخر. خلال مراحل الصراع السابقة انحصر دور الحكومات الوطنية في تبنيها ورعايتها لمؤتمرات الصلح التي تعقدها الإدارة الأهلية ولم تبذل هذه الحكومات أي مجهودات أو تقدم حلولاً جذرية عن طريق تنمية المنطقة لمعالجة هذه المشاكل بصورة حاسمة. نتيجة لذلك أصبحت هذه الصراعات القبلية ظاهرة تتكرر في عام بصورة روتينية. إستراتيجية «المراحيل» التي تبنتها الحكومات المختلفة أدت دورها بنجاح في تحجيم الاحتكاكات والصدامات التي كانت تحدث بين قبائل الدينكا وقبائل المسيرية خلال حركتها السنوية شمالاً وجنوباً. كل ذلك كان يحدث في إطار الدولة الواحدة، وكان مقبولاً ومفيداً والآن اختلف الأمر تماماً بعد إعلان انفصال جنوب السودان والاعتراف به. هذا التطور السياسي الجديد يتطلب اتباع سياسة جديدة لمعالجة قضايا مناطق التماس؛ لأن أساليب الإدارة الأهلية ومؤتمرات الصلح القبلية التي كانت تُتبع في الماضي في ظل الدولة الواحدة أصبحت اليوم غير ذات جدوى. الصراع الآن بمنطقة أبيي أصبح بعد الانفصال صراعاً سياسياً حول الحدود وليس صراعاً حول المرعى والماء. صراعات الحدود ليست من مسؤولية القبائل؛ لأنها صراعات سياسية تقع مسؤوليتها على الدول ولهذا ينبغي تحويل مجرى الصراع التاريخي حول منطقة أبيي من صراع قبلي إلى صراع سياسي حدودي تتولى إدارة أزمته حكومة الشمال وحكومة جنوب السودان. إن سياسة دفن الرؤوس في الرمال التي تتبناها الحكومتان وتتستران من خلالها خلف القبائل ستكون سلبياتها أكثر من إيجابياتها ولا داعي هنا للتفاصيل في هذا المجال. على الحكومتين عدم التهرب من مسؤوليتهما التاريخية وعليهما مواجهة هذه القضية بشجاعة كما واجها سلام الشجعان الذي ربما تجعل منه صراعات منطقة أبيي بين قبائل الدينكا والمسيرية سلاماً بارداً قابلاً للانفجار في أية لحظة تحت ظل الاحتقان السياسي والاستقطاب الحاد والشحن النفسي الزائد وحالة التوتر والقلق الشديد الذي تعيشه هذه القبائل التي أصبحت تهديداتها تنذر بنشوب حرب طاحنة. بما أن بذور الحرب موجودة بالمنطقة فالأفضل أن تكون الحرب بين الدولتين بدلاً عن حرب القبائل؛ لأن المجتمع الدولي سيتدخل لوقف الحرب بين الدولتين. التنازلات التي قدمها المؤتمر الوطني ببروتكول المناطق الثلاث أصبحت اليوم أكبر مهدد للأمن القومي السوداني. ترسيم الحدود واستفتاء أبيي والمشورة الشعبية كانت تمثل كروت ضغط قوية للمؤتمر الوطني في المفاوضات لو تمسك بها وأصر على تنفيذها قبل إجراء عملية الاستفتاء حسب موقفه المعلن. ولكن سياسة التنازلات التي أتبعها المؤتمر الوطني أفقدته روح المبادرة والمبادأة والسيطرة على مجريات المفاوضات التي تجزأت وأصبحت تناقش ملفاً تلو الآخر مما يرفع من سقف التنازلات التي تقدم. تجزئة ملفات التفاوض أسلوب اتبعته إسرائيل في مفاوضاتها مع الدول العربية وكانت نتائجه ضارة بالنسبة للقضية العربية وها نحن نكرر نفس السيناريو ولا نستفيد من أخطاء الآخرين. كلما ارتفعت حدة هذه الصراعات بمنطقة أبيي تناولت أجهزة الإعلام المختلفة ذكر قبائل الدينكا والمسيرية وكأنما هذه القبائل أصبحت هي الحكومات التي تسيطر على مناطق التماس. لقد حان الوقت الآن لتحويل مجرى هذا الصراع التاريخي ليصبح صراعاً بين حكومة الشمال وحكومة جنوب السودان. إذا تُرك هذا الصراع يسير على وتيرته السابقة فإنه سيتحوّل إلى حرب وكالة بين دولتين تنفذها قبائل الدينكا والمسيرية. الكل يعلم خطورة حرب الوكالة وتكفي الإشارة هنا فقط إلى أنها تعتبر مؤشراً قوياً على ضعف الحكومتين وخوفهما وترددهما في خوض الحرب بعد أن أصبحا يقومان بدور الوسيط عن طريق تحريك مجلس الدفاع المشترك لتشكيل لجان التحقيق لحوادث المنطقة بقصد تهدئة الخواطر. المدة المتبقية من الفترة الانتقالية التي ستنتهي في التاسع من يوليو المقبل غير كافية لفك الارتباط بين القوات المشتركة الذي نادى به مجلس الدفاع المشترك في اجتماعه الأخير خاصةً وفصل الخريف على الأبواب. السؤال هنا: ما هو مصير قوات الجيش الشعبي التي لم تنسحب من جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق حتى هذه اللحظة؟ الجدير بالذكر أن حجم هذه القوات يفوق حجم القوات المشتركة بالمنطقة التي نادى مجلس الدفاع المشترك بفك ارتباطها بانسحابها شمالاً وجنوباً. إن السكوت عن هذه القنابل الموقوتة ستكون آثاره مدمرة للغاية؛ لأنه سيقودنا إلى المربع الأول خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار الارتباط السياسي القوي بين ولاية جنوب النيل الأزرق وولاية جنوب كردفان بالحركة الشعبية حتى بعد الانفصال. هذا بالإضافة إلى تصريحات بعض قادة الأحزاب الجنوبية الذين أشاروا فيها إلى خطورة دعم الحركة الشعبية لحركات التمرد بدارفور وتعزيز قواتها الموجودة بجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان توطئةً لخوض الحرب الجديدة حسب رغبة الدول الغربية والولايات المتحدةالأمريكية وتنفيذاً للمخطط الصيهوني الكبير الذي يستهدف وحدة السودان. لقد أشارت الأحزاب الجنوبية إلى النوايا العدوانية للحركة الشعبية ضد شمال السودان بوضوح وعلينا أن نضع ذلك في الاعتبار وأن نتحسب له جيداً. { خلاصة القول، حتى لا تصبح منطقة أبيي كشمير السودان، ينبغي أن تُدار هذه الأزمة بواسطة حكومة الشمال وحكومة جنوب السودان وليس بواسطة قبائل المسيرية وقبائل الدينكا نقوك بعد أن انتهت فترة إدارتهما لملف هذه القضية بعد إعلان انفصال جنوب السودان والاعتراف به. { ختاماً: حتى لا تصبح قضية أبيي قضية منسية كقضية حلايب تحركها من وقت لآخر صراعات قبائل الدينكا والمسيرية، لا بُد من حسم هذه القضية وفق الاتفاق الإطاري بمشاكوس الذي اتفق فيه الطرفان على حدود عام 1956م كحدود فاصلة بين الشمال والجنوب. وبالله التوفيق. فريق أول ركن / زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكرية العليا