في ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه مدينة الأبيض معقل الأدب والفن، كانت تعج بالجاليات الأجنبية من الإغريق والطليان والأرمن والأتراك والشوام من الأقباط واليهود، تلك الجنسيات التي شكلت خليطاً اجتماعياً متفرداً أنتج عدداً من الأسماء العظيمة التي شعت في سماء المدينة، من بين هؤلاء إنسان خلوق وكريم شهد له كل الذين عاصروه وزاملوه واستمتعوا بالأنس برفقته، إنه "كرياكو هرمز" الطلياني، إغريقي الأصل، وهو حكاية ظلت تتناولها الألسن، كونت فصولها أياديه البيضاء الممدودة للعطاء. كان "كرياكو" أكبر وكيل إسبيرات في كردفان وغرب السودان والمتعهد الرئيسي لمدرسة خور طقت الثانوية في عهدها الذهبي بجانب مستشفى الأبيض وسجنها، وكان يقدم الحليب لوكلائه يومياً بعد أن يشتريه من سكان "حي الناظر" الذين اشتهروا بتربية الأبقار، أما فكرة الآبار التي ارتبطت باسمه فكون "كرياكو" مرتبطا بأصحاب المواشي بصفته المتعهد العام بتزويد هذه المؤسسات بالألبان ومن خلال هذا الارتباط لاحظ الرجل شكاوى أصحاب الماشية من قلة المياه في ذلك الزمن فقرر حفر الآبار المعروفة باسمه مساهمة منه في السقيا، ويصل عمق البئر الواحدة إلى (25) مترا أو يزيد وكل بئر مبنية حتى القاع بالطوب الأحمر والأسمنت ولها دائرة في فوهتها يمتد منها لسان يعرف (بالرقبية) تصب عليه المياه المخرجة من داخل البئر لتستقر في الحوض، وتستخرج المياه بوساطة "الدلو" ويفوق عدد الآبار ال(30) بئرا. يحكى عن كرياكو أنه كان رجلاً مجتهداً ومجداً في عمله اشتهر بلبس القميص والرداء في كل الأوقات حتى صار يضرب به المثل فيقولون "شدة كرياكو الصيف وخريف لابس الكاكي". وبحفره لهذه الآبار زادت شهرته وصار على كل لسان، حفرت هذه الآبار في عهد الاستعمار الإنجليزي وقد ساهمت مساهمة فاعلة في درء العطش الذي كاد يصيب المدينة في ذلك الزمان وظلت آباره حتى يومنا هذا تقدح ماءها عذباً زلالا للغاشي والماشي، ول"كرياكو" بعض الأسهم في سينما كردفان الحالية وهو صاحب أول فرن بالأبيض، ترك كرياكو السودان وبقيت آباره لتخلد اسمه بين الناس والمدينة والجدران وبقيت كريمة رغم تكالب السنين عليها اليوم التالي