قد تنصرف الأنظار والافهام عن تفاصيل مغادرة بعض كبار المسؤولين والوزراء وجلوس آخرين على مقاعدهم الوثيرة ، إلى الإجتهاد في تسمية ماحدث هل هو تعديل حكومي، ام تبديل ، أم تطل بارقة امل لبعض المتفائلين ليسمونه "تغيير". في حين ان البعض قد يتجاوز الفوارق الموضوعية والشكلية للمسميات الفائتة ليقفذ فوقها جميعاً راسماً سيناريو "الإنقلاب" على وجه التشكيل الحكومي الجديد .ولكن حتى هذه القفذة التفسيرية للحدث قد تتباين حول تحديد اطراف الإنقلابيين والمنقلب عليهم، هل هو انقلاب العسكر على المدنيين ، ام انقلاب ذات العسكر الحركة الاسلامية ؟ ولعل العلامة الفارقة تكمن في اختيار البشير الرئيس العسكري ،وعقب 24 عاماً من انقلاب الانقاذ نائباً عسكرياً في الموقع الذي شغلته الحركة الاسلامية الشريك الأساسي لعسكر الإنقاذ ، هذا الموقع الذي آل للإسلاميين المدنيين في شخص نائب زعيم الاسلاميين التاريخي حسن الترابي ،علي عثمان محمد طه عقب رحيل اللواء الزبير محمد صالح ،وكانت الخطوة ردة كبيرة عن الإنفتاح الديمقراطي على الحياة المدنية التي طالما بشر بها الرئيس والحزب الحاكم . بكري وجلباب الحركة الاسلامية قد يكون تنحي علي عثمان محمد طه رمز وجود الإسلاميين عقب غياب رمزهم الاول حسن الترابي عن ردهات الحكم ، لصالح الفريق بكري حسن صالح العسكري العتيد المقرب من الرئيس لفترات طويلة تجاوزت سنوات الإنقاذ الأربعة والعشرين ،قد يكون هو القادح الأساسي لفكرة الإنقلاب في اذهان أصحاب هذا السيناريو ، فقد كان وجود علي عثمان برمزيته الإسلامية المدنية يخلق توازناً كبيراً بين الوجود العسكري والمدني في دولة الحركة الاسلامية ،إذ ان وجود المشير البشير على رأس الدولة يطبعها بطابع العسكرية الذي لايخفف منه إلى وجود شخصية تعبر عن الوجود الإسلامي المدني مثل علي عثمان ، وهو الامر الذي اختل تماماً بتسنم عسكري منصب الرجل الثاني في الدولة . ولعل مايعزز هذه الفكرة الإنقلابية ويصرف تماماً كون الخطوة تغيير روتيني داخل أجهزة الدولة ،ويدعم كونها نوايا مرتبة ومبيتة بترتيب دقيق ومحكم منذ فنرة ليست بالقصير ، هو ماتم قبل عام من الآن حين تفاجأ الجميع بإلباس بكري حسن صالح ثوب الحركة الإسلامية التنظيمي بتصعيده نائباً للأمين العام ، وكأن الخطوة تمهيد لماتم الآن لنفي أي صبغة عسكرية في التغيير الجديد باعتبار ان بكري رغم عسكريته هو الرجل الثاني في التنظيم الرسمي للحركة الاسلامية ، الأمر الذي يجعل أنه لامبرر للحديث عن سيطرة العسكر على كابينة القيادة العليا في الدولة. تغييب نافع والجاز وتثبيت عبدالرحيم الأمر الآخر الذي يدعم سيناريو الإنقلاب هو إمعان التعديل الجديد في استبعاد رموز لايمكن الحديث عن وجود الحركة الاسلامية في الحكم في ظل غيابهم لرمزيتهم التاريخية ولإمساكهم بملفات في غاية الحساية مرتبطة بالتنظيم الخاص للحركة الاسلامية ، وتتجلى هذه الرؤية في الدكتور عوض احمد الجاز الوزير الأقدم في الإنقاذ والذي تقلب بين كراسي الوزارات طيلة السنوات الماضية ، بخلاف كونه الممسك بالأجهزة التأمينية الخاصة بالحركة الإسلامية قبل الإنقاذ وبعدها ، والذي يغادر الآن ردهات الحكم في مفاجأة هي الأبرز ، ذات الأمر ينطبق على رجل الإنقاذ والمؤتمر الوطني المصادم الدكتور نافع علي نافع الذي كان ممسكاً بأهم الملفات في الحزب والحكومة ، والأهم انه قد غادر حتى منصبه الحزبي كنائب لرئيس الحزب بخلاف موقعه داخل القصر مساعداً للرئيس . في حين ان التعديل أمعن في تجاهل كثير من المطالبات التي تجهر بها كثير من الاوساط السياسية حتى داخل مناصري الإنقاذ نفسها بتنحية وزير الدفاع الفريق اول عيدالرحيم محمد حسين الرجل الأقرب للرئيس ، وهو من الثلاثة الذين احتفظوا بمواقعهم . وهو مايعتبره كثيرون تأكيد على إعلاء الحكومة الجديدة من شأن العسكر وتمكينهم من إحكام السيطرة على الدولة. معطيات صعود العسكر قد يجد البعض تبريراً لعودة الإنقاذ لإعلاء الوجوه العسكرية وتأكيد دورهم في إدارة الدولة باعتبار ان الظرف الذي تمر به البلاد يشابه بدايات الانقاذ من حيث اشتعال جبهات متعددة للحرب ،مع ظرف اقتصادي في غاية التأذم ، الأمر الذي يعزز فرضية انقلاب وجه الإنقاذ المدني لصالح العسكري ، وتغليبها جدوى الإعتماد على العسكريين ،وهو أمر لايختلف معه كثيراً المحلل السياسي والاكاديمي د.صلاح الدين الدومة الذي يعتبر ان التشكيل الجديد خاصة تصعيد الفريق بكري حسن صالح على حساب علي عثمان هو بمثابة إقصاء أو على أقل تقدير تقليل عدد رموز الحركة الإسلامية في كابينة قيادة الدولة ، إلا أنه اعتبر ان الخطوة جاءت متأخرة كثيراً وقال "كان من الأنسب ان تتم الخطوة قبل خمس سنوات على الأقل " مؤكداً ان الوضع وصل مراحل لايجدي معها الاعتماد من جديد على الوجوه العسكرية وقال " هذا التغيير حتى وإن اعتبرناه انقلاب عسكري على الاسلاميين المدنيين لكنه بلا جدوى فقد وصل الانهيار في كافة المجالات مراحل لايمكن علاجها" إحتمالات اخرى إلا ان المحلل السياسي د.حمد عمر الحاوي رغم عدم استبعاده تفسير الشكل الذي اتت له الحكومة الجديدة على أنه انقلاب عسكري ، فقد نحى تجاه لفت الأنظر لاحتمالات أخرى متمثلة في احتمال أن استبعاد رموز الاسلاميين من قمة العمل التنفيذي قد يكون متعلقاً بتفريغهم للعمل الحزبي المرتبط بالاانتخابات المقبلة واستعداد الحزب لها في ظل الازمات السياسية التي تعانيها البلاد وتنعكس سلباً على وضع المؤتمر الوطني ومكانته بين الجماهير . ويعود د.الحاوي إلى سيناريو الانقلاب بأن العسكريين بالفعل قد استشعروا خطورة الموقف وأنه يحتاج لحزم وحسم عسكري مطالبات قديمة وتأثير الحوار مع الاحزاب لفت د.الحاوي إلى رواج فكرة أن البشير يواجه منذ زمن بعيد مطالب بضرورة استبعاد الاسلاميين واعتماد نهج قومي في إدارة الدولة ، وان التشكيل الجديد قد يكون استجابة لهذا الأمر رغم وجود عدد كبير من المدنيين في الجهاز التنفيذي الجديد .ورجح أن حوار البشير مع حزب الأمة بالتحديد تعرض لضرورة أن يعمل البشير على إرخاء قبضة الإسلاميين وقيادات الوطني على مفاصل الدولة ومواقع اتخاذ القرار .واستفاد د.الحاوي من أدبيات الإنقاذ نفسها كونها تصرح بالنفي لما هو ثابت مشيراً إلى تصريح البشير بنفي وجود خلافات وراء ابتعاد علي عثمان تأثير المجتمع الدولي أشد ماواجه الإنقاذ في بداياتها انكشاف وقوف الإسلاميين وراءها ، الامر الذي عرضها لقدر كبير من العزلة وسط المجتمع الدولي والاقليمي ،ولعله معلوم ان المجتمع الدولي بتعامل مع النظم العسكرية بالقبول أكثر من النظم الموسومة بالإسلام السياسي ، ولذلك لايستبعد د.الحاوي أن يكون البشير أراد تخفيف ضغوط المجتمع الدولي وفك العزلة التي يعانيها السودان بسبب ارتباطه بالوجوه الإسلامية والحكم الاسلامي ،فأراد ان يظهر العهد الجديد للإنقاذ بأنه أٌقرب للعسكرية منه للإسلام السياسي. الاهرام